تفكيك السراب: «حزب الله»… إيران ومستقبل لبنان
مر اللبنانيون من مقيمين ومغتربين بحالة حيرة خلال الأسابيع القليلة الماضية في شأن مصير عطلتهم الصيفية التي طال انتظارها، والتي يقضونها عادة في الوطن، يتمتعون بالمناخ المتوسطي ويتناولون الأطباق اللبنانية الشهية «الصحية»، على الرغم من التكاليف الزائدة التي يسببها الحصول على التيار الكهربائي والمياه، بعيداً عن الفساد والترهل المتراكم من أعلى مؤسسات الدولة إلى أسفلها.
التصاعد الأخير في القتال بين «حزب الله» وإسرائيل على الحدود الجنوبية للبنان والتهديد المتزايد بتوسع العمليات العسكرية الذي تهدد به إسرائيل يبدو أنه ذكّر الجميع، وخاصة حزب الله، بأن نهاية الحرب في غزة أو رفح لا تعني بالضرورة وقف الأعمال الحربية في لبنان، كما تتمنى إيران وما يعرف بمحور المقاومة.
يعتمد الكثير من هذا الوهم الذي تروج له إيران والقوى المتحالفة معها على مفهوم توحيد الجبهات. هذا المفهوم الذي تروج له طهران، يفترض أن لديها القدرة على محاربة إسرائيل على جبهات عدة، وعندما يحين الوقت، تدمر إسرائيل وتلقي الإسرائيليين في البحر، وفق ما أعلنوا منذ سنوات حتى اليوم.من المفارقات أنه عندما حانت لحظة الحقيقة في السابع من أكتوبر، وقفت إيران ووكيلها الرئيسي «حزب الله» جانبا، وبدلاً من القتال والغوص في المواجهة، اكتفى الجانبان بما يوصف «بحرب المشاغلة»، والتي تهدف ظاهريا إلى تشتيت الجيش الإسرائيلي وجعله يقاتل على جبهتين، ما يساعد «حماس» على الفوز، نظريا.من المفارقات أن أحد أبرز المؤيدين والمتحمسين لهذا «الخطاب الوحدوي» كان القيادي الراحل في «حماس» صالح العاروري، الذي قُتل بعد أسابيع قليلة من بداية «طوفان الأقصى» عندما اغتالته طائرة إسرائيلية مسيرة في مكتبه في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت.ومع ذلك، يفترض حزب الله أنه إذا استمر في إدارة هذه الحرب «المنخفضة الشدة»، فإن إسرائيل، بعد تدمير ما تبقى من حماس وغزة، ستوافق ببساطة على العودة إلى قرار مجلس الأمن رقم 1701، الذي ستضمنه إدارة بايدن الحالية أو حتى أي إدارة أميركية جمهورية.تتناقض خطط إيران وحزب الله مع المبدأ الأخلاقي المعلن عنهما.
ومع ذلك، فإن نموذج فصل الجبهات في العقلية التكتيكية لهذه الجماعات قد يكون كافيا لإقناع إسرائيل والمجتمع الدولي بأن «الإسلام الشيعي المسلح» هو أكثر عقلانية مقارنة بمن لم يتردد في تنفيذ «طوفان الأقصى» أو حتى قبل أكثر من عقدين هجمات 11 سبتمبر.
وللأسف، يشارك العديد من اللبنانيين، بما في ذلك البعض ممن يعارضون خطة التوسع الإيرانية في المنطقة، هذا الفكر. يعتقدون أن الولايات المتحدة يمكنها في النهاية كبح الإسرائيليين وأن إيران ليس لديها مصلحة في إعلان الحرب على إسرائيل.
تستند العديد من هذه الافتراضات بشكل خاطئ على الاشتباكات والحروب السابقة بين الجانبين، ولا سيما حرب عام 2006، التي أدت في النهاية إلى اعتماد وقف النار وانسحاب حزب الله المفترض من جنوب نهر الليطاني، وهو اتفاق أثبت الصراع القائم سخافته.
حدثت تغيرات كثيرة منذ عام 2006، وهي تغيرات يرفض اللبنانيون الواقعون تحت «قبضة» حزب الله والنظام السياسي الفاسد الاعتراف بها.
في عام 2006، كان قرار مجلس الأمن 1701 قادرا على إنقاذ حكومة إيهود أولمرت وحزب الله بفضل الجهود الديبلوماسية لحكومة فؤاد السنيورة، وهي حكومة انسحب منها حزب الله وحلفاؤه في محاولة لتفجيرها. كانت هذه الحكومة محترمة من قبل المجتمع الدولي، والأهم من ذلك، دول الخليج العربي، ما جعل من الممكن التوصل إلى وقف الأعمال العدائية وفتح الطريق لمرحلة إعادة الإعمار.
في الواقع، لا يمكن الآن تحقيق الإنجازات التي تلت وقف النار، حيث أن الحكومة اللبنانية في النزاع الحالي ليست موجودة أو حتى معنية في سير الأعمال الحربية إلا ببيانات الاستنكار والإعلان عن صرف ما تبقى من أموال مودعين على ضحايا الحرب، ليظهر أن لبنان ليس سوى صندوق بريد لإيران.وعلى العكس من عام 2006، فإن المجتمع الدولي ليس بحاجة لأي دور للحكومة اللبنانية، فهو يتفاوض مباشرة مع إيران ويحثها على استخدام نفوذها لإقناع حلفائها بتخفيف التصعيد، للوصول إلى هدنة وإطلاق المختطفين الإسرائيليين لدى حماس.ما يواجهه اللبنانيون في الجنوب هو مجتمع إسرائيلي محاصر، أدرك أن ضبط النفس الإيراني ليس بالضرورة أمرا جيدا، بل نذير بأن إسرائيل محاطة بحلفاء طهران، سواء في لبنان أو سورية. وبالتالي، فإن العقيدة الأمنية التي نظمت علاقة إسرائيل بإيران في لبنان منذ عام 2006 لم تعد مستدامة أو مفيدة لإسرائيل. لذا يتمحور النقاش داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية حول التحدي الذي يفرضه وكلاء إيران على أمن ووجود الدولة اليهودية المزعوم.
في الثمانينات، رأى أوري لوبراني، السفير الإسرائيلي السابق في إيران بزمن حكم الشاه ومنسق أنشطة القوات الإسرائيلية في جنوب لبنان المحتل، أن عقيدة أمنية من شأنها أن تحمي إسرائيل من التهديد الفلسطيني ولاحقا من حزب الله. تمحورت هذه العقيدة حول إنشاء منطقة أمنية عازلة.
في هذا الاتجاه، أشرف لوبراني على تطوير جيش لبنان الجنوبي بمسمياته المختلفة، عمل كميليشيا على منع منظمة التحرير الفلسطينية ولاحقًا حزب الله من الوصول إلى الحدود الإسرائيلية وصولاً إلى عام 2000.
وفي عام 2006، كان تبني مجلس الأمن الدولي القرار رقم 1701 إعادة استحضار لعقيدة لوبراني، وفرض اتفاق ضمني بين إسرائيل وحزب الله، يضمن عدم تخزين أي معدات عسكرية جدية جنوب نهر الليطاني.في الثامن من أكتوبر، عندما قرر الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله إعلان الحرب على دولة إسرائيل، تحطمت عقيدة لوبراني، التي عملت لأكثر من أربعة عقود، ما استلزم البحث عن سياسة جديدة لتحييد إيران.على هذا الأساس، قد لا يكون الجيش الإسرائيلي والمؤسسة السياسية في عجلة من أمرهما لغزو لبنان ببساطة لأنهما لم يأتيا بعد بسيناريوهات أو عقيدة جديدة تضمن أهدافهما.
بينما ينتظر اللبنانيون بدء حرب إسرائيلية شاملة، يفشلون في إدراك أنهم، كأمة متواطئة ومخطوفة من قبل حزب الله، في خضم حرب لن تنتهي لصالحهم.
العالم بعد السابع من أكتوبر ليس لديه مكان لبلد مثل لبنان، حيث لا يدرك ناسه أن سنوات الفساد والإفلات من العقاب والسلوك غير الأخلاقي للمؤسسة السياسية اللبنانية قد حولت هذه الدولة الصغيرة إلى تهديد أمني للمنطقة بأسرها.
إذا لم ينهض اللبنانيون من سباتهم العميق ويستعيدوا سيادة أرضهم، فمع كل العلامات، سيكون تكرار الحروب الإسرائيلية السابقة هو أفضل سيناريو ممكن.
في هذا الصدد، تبدو كلمات المؤرخ الشهير أرنولد توينبي بأن «الحضارات تموت انتحاراً، لا قتلاً» هي تذكير للبنانيين أنه إذا قرروا البقاء أسرى لحزب الله، فقد يكونون هم من يرتكبون الانتحار.
المصدر: الراي