تيمقاد الأثرية تستعيد روحها وبريقها
استعادت السياحة الجزائرية انتعاشها من خلال المؤشرات الإيجابية المحققة في السنتين الأخيرتين، واستعاد معها الموقع الأثري بتيمقاد، 35 كلم عن ولاية باتنة شرق الجزائر، توازنه واسترجع الوفود الأجنبية المتعددة الجنسيات التي زارت المدينة الرومانية من مختلف القارات، من شخصيات سياسية ورياضية وثقافية عالمية.
يرى خبراء أن عام 2024 وفقا للمعطيات الحالية، يعد عاما قياسيا بعد تسجيل عودة الآلاف من السياح إلى مختلف المواقع الأثرية، ولعل من أبرز هذه المواقع المدينة الرومانية تاموقادي التي عرفت توافدا للسياح الأجانب والجزائريين المقيمين داخل وخارج الجزائر، وسجلت الجهات المختصة أرقاما بثلاثة أضعاف عن العام الماضي، ما اعتبر أنه عام ذهبي للسياحة التراثية في باتنة والجزائر.
عودة السياح بأرقام غير مسبوقة للمدينة الأثرية
تشير الأرقام الرسمية إلى أن موقع تيمقاد الأثري ومتحفه استقبل، بحسب تصريح شفيق بوغرارة، المسؤول عن المواقع الأثرية بولاية باتنة، من شهر جانفي إلى غاية شهر أفريل من العام الحالي 1300 سائح أجنبي، وهو الرقم الذي تضاعف ثلاث مرات، فيما بلغ عدد السياح المحليين ما يقارب 32 ألفا، وهي أرقام قال عنها المتحدث إنها تخص الثلاثي الأول من السنة الحالية، ومرشحة لأن ترتفع في نهاية السنة الجارية، مؤكدا أن أغلب السياح الأجانب يأتون من دول كبرى، منها إيطاليا، فرنسا، بريطانيا واليابان.
باتنة موطن الحضارات القديمة
تملك ولاية باتنة بشساعة مساحتها وعدد أقاليمها الجغرافية الإدارية المقدرة بـ61 والمسماة “بلدية”، خزانا تراثيا في المعالم الأثرية والتاريخية، جعلها تصنف في المرتبة الأولى في الجزائر، فهي منطقة ثرية بمختلف المواقع الأثرية التراثية، ما جعلها قطبا للجذب السياحي، فهي فسيسفاء من الحقب التاريخية الرومانية، الوندالية، البيزنطية، الإسلامية، حيث تضم أكثر من 19 موقعا مصنفا يزوره الآلاف من السياح المحليين والمقيمين بالخارج والأجانب، الذين يجدون في تلك المعالم تعاريف واقعية لمختلف الحضارات التي مرت على هذه المنطقة، من شرفات غوفي إلى ضريح إمدغاسن النوميدي إلى موقع الملكة ديانا فيتيرانوروم وصولا إلى مدينة الأطلال الرومانية تاموقادي.
وتعتبر مدينة تيمقاد الأثرية أو “تاموقادي” في التسمية القديمة، أكبر المدن الرومانية في إفريقيا التي مازالت محافظة على هندستها المعمارية وجمالها، أنشأها الإمبراطور الروماني “تراجان” الذي أسسها عام 100 ميلادي على شرف شقيقته، وسمي حينها القوس المعروف في الموقع الأثري باسمها “كولونيا مارسيانا تراجانا ثاموقادي”، وتعني الكلمة “العيش السعيد”.
تتربع المدينة الرومانية على مساحة تقدر بـ12 هكتارا في بداية إنشائها، لكنها توسعت بعد ذلك مع إنشاء قواعد عسكرية إلى 50 هكتارا، وهي تتوفر على جميع المرافق، فبمجرد أن تطأ قدماك مدخلها، تكتشف بأن المدينة مربعة الشكل تشبه كثيرا طاولة شطرنج، وهي مكونة من طريقين رئيسيين تحيط بهم طرق فرعية، وينتهيان بأبواب ضخمة هي عبارة عن المداخل الرئيسية للمدينة، تم صنعهما من الحجارة الرومانية المنقوشة بالرموز والرسوم، وفي وسطها توجد ساحة عمومية “فورورم” التي لا تزال بها آثار 14 حماما قديما، تحيط به مجموعة من المعابد ومجلس بلدي وسوق شعبي وعدد من المحلات التجارية التي يكتشفها الزائر في خيال عينيه، عندما يتلقى الشروحات من المرشدين السياحيين والمختصين.
ومن المرافق التي بقيت طيلة هذه المدة مسرح كبير كانت تقام فيه المهرجانات والتظاهرات الثقافية والفنية، ويتسع لـ4 آلاف متفرج، وهو المسرح الذي استغلته وزارة الثقافة لعشريات من الزمن لإقامة مهرجان تيمقاد الدولي سنويا به إلى غاية سنة 2010، أين طالبت منظمة اليونسكو ببناء مسرح جديد لتفادي زيادة حدوث تصدعات وتشققات في مدرجاته وركحه.
تتحدث الدراسات التاريخية على أن المدينة الأثرية كانت تتوفر على مكتبة هي الأضخم في الآثار الرومانية في العالم، تتكون من 8 أرفف، كما أنها تضم بقايا كنيسة معروفة باسم “أوبتات” و14 دورة مياه التي أولى لها الرومان أهمية في هندستها في تلك الفترة، لكن جمال هذه المدينة تأثر بعد غزو الوندال لها ولمعظم المدن الرّومانية في الجزائر ملحقين بها دمارا شاملا، حيث دام الاحتلال للمنطقة قرنا من الزمن. وفي عام 1880، قام الاحتلال الفرنسي بإجراء عمليات حفر وتنقيب ليتم إعادة اكتشافها وسط الرمال، وفي عام 1970، خرج تقرير لمنظمة اليونسكو يوصى بإنشاء منطقة عازلة وغير قابلة للبناء للحفاظ على مظهرها، ليتم إدراجها عام 1982 من طرف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “اليونسكو” كمدينة أثرية رومانية مصنفة ضمن الإرث الثقافي العالمي الكبير.
سياسة السياحة الجديدة تحيي روح المدينة الأثرية
يقول متابعون للشأن السياحي في الجزائر إن الإجراءات الجديدة التي أقرها وأعطى تعليمات بشأنها رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، فيما تعلق بالتسهيلات للسياح الأجانب في الحصول على تأشيرة الدخول للجزائر، من خلال التنسيق مع الجهات المعنية ووكالات الأسفار، هي تسهيلات أعطت ثمارها في السنتين الأخيرتين، وجعلت التخطيط والاستراتيجية التي وضعت من السلطات العليا في البلاد تتغير وتتوجه لأن يدفع بالسياحة لأن تكون ركيزة أساسية أخرى للاقتصاد، وتجسد ذلك من خلال الاهتمام المشترك من طرف وزارتي الثقافة والسياحة، حيث وضعت قوانين صارمة لحماية التراث الثقافي، وتم تحديد وانتهاج سياسة جديدة لاهتمام أكبر بكل المواقع الأثرية، بغية جذب المزيد من السياح وتعزيز فهمهم لتاريخ وثقافة البلاد. وقد خصصت الحكومة ووزارة الثقافة عددا من المشاريع التحسينية لوجه المعالم التراثية والحضارية، واستفاد الموقع الأثري تيمقاد من غلاف مالي يقدر بـ74 مليون دينار في بداية السنة الجارية، لتثمين الموقع وإعادة تهيئة مدخله وإنجاز مركز استقبال وتحسين الخدمات في هذا الجانب.
مصباح زيتي به قصة سيدنا إبراهيم الخليل
من الأشياء الثمينة والنادرة التي يجهلها الكثيرون ممن لم تكن لهم فرصة زيارة متحف تيمقاد، هي تواجد مصابيح زيتية نادرة، من أبرزها مصباح يتضمن قصة سيدنا إبراهيم الخليل مرسوم في منتصفه مضامين هذه القصة، وهو المصباح الذي يلقى اهتماما في الشروحات المقدمة لزوار المتحف، بحسب شفيق بوغرارة، خاصة منهم السياح العرب والجزائريين المقيمين داخل وخارج الجزائر، مشيرا إلى أن متحف تيمقاد الذي أنشئ سنة 1930 به أيضا 86 قطعة فسيفساء بالمتحف وأواني طعام وشراب تعود للحقبة الرومانية، وبعض مستلزمات الحياة اليومية ومصابيح زيتية عدد منها نادر، وهو الوحيد في العالم. كما تتواجد به قطع من الفخار بها عقود بيع تعود للفترة الوندالية، عرضت سنة 2022 بمتاحف ألمانيا في إطار إعارة وتنسيق وتبادل ثقافي بين البلدين، وهي القطع التي تعتبر مفقودة عالميا لأنها تحمل كتابات وندالية.
الحكم “كولينا”.. “بيتكوفيتش” والرحالة لوريتي ومخرجون وممثلون عالميون
يعد الحكم الدولي الإيطالي الشهير في كرة القدم، بييرلويجي كولينا، واحدا من المشاهير في عالم الرياضة الذي كان له شرف التعرف على حقيقة ما تمتاز به المدينة الرومانية تيمقاد في هذه السنة، من آثار مدهشة وفريدة من نوعها تحكي إرثا حضاريا يمتد لعشرات القرون، وتمكنت تيمقاد أن تخطف علامات الإعجاب والارتياح من الرحالة العالمي فرانشيسكو لوريتي، والممثل العالمي الإيراني مصطفى زماني الذي أدى دور سيدنا يوسف، والمخرج البلغاري تودور شابكانوف.
وشكلت “تاموقادي” أيضا، خلال هذه السنة، مقصدا للعديد من المسؤولين السياسيين والسلك الدبلوماسي بالجزائر، فقد زار المدينة الرومانية عدد معتبر من سفراء الدول بالجزائر، على غرار سفراء الولايات المتحدة الأمريكية، بريطانيا، سويسرا، البرتغال، وسفراء هولندا وروسيا.
واكتشف بيتكوفيتش، الناخب الوطني للخضر، سحر هذه المدينة الأثرية التي تجول في أزقتها وزار متحفها وتعرف على تفاصيل القطع الأثرية والفسيفساء التي تزين الموقع، كما زار الموقع الكاتب والروائي العالمي الجزائري ياسمينة خضرة.
تيمقاد الأثرية أين كانت… وأين أصبحت
يدرك كل المهتمين بالسياحة في الجزائر أن الزيارات التي حظيت بها المدينة الأثرية “تاموقادي” في العام الحالي من شخصيات سياسية وفنية ورياضية واستعادتها لحركيتها السياحية، جاءت نتاج التغيرات التي أحدثتها السلطات العليا في البلاد، وسعيها في تطوير الخدمات الداعمة للسياحة واستغلال كل الوسائل للتسويق السياحي المثمر، وفتح شهية الأجانب للاستفادة من الحفريات وعمليات الترميم والتركيز أكثر على تلك الزيارات إعلاميا، وإعطاء السياحة مساحة أكبر في برامج وحصص القنوات والمؤسسات الإعلامية، ليتمكن الزائر من الاطلاع على الكنوز الأثرية التي تميز “تاموقادي”، وتميز بقية المواقع الأثرية في الجزائر.
السياسة الجديدة للدولة واهتمام الإعلام جلب سياحا جددا
كشف شفيق بوغرارة، المسؤول عن متحف ومواقع تيمقاد، إمدغاسن، طبنة، زانة البيضاء الذي أعطى حيوية للمواقع الأثرية منذ تنصيبه، أن عودة حضور تيمقاد عالميا ولفت انتباه السياح له جاء بفضل السياسة الجديدة للدولة التي اهتمت بالمدينة الأثرية، بما يتلاءم مع مكانتها السياحية التي تستحقها عالميا، من خلال تخصيص عدد من المشاريع وتحرير أخرى كانت مجمدة، مؤكدا في تصريح لـ””، أن المساهمة الثانية هي التي قدمتها مختلف وسائل الإعلام الوطنية بمختلف تخصصاتها ساعدت في إعادة القيمة السياحية لموقع تيمقاد الذي ظل، لسنوات، مرتبطا بالمهرجان الذي يقام فيه صائفة كل سنة، ما قزم في دوره وجعله في نظرا الكثير من السياح على أنه مكان مخصص للتظاهرات الفنية، في حين أن قيمته التاريخية والأثرية أكبر بكثير من ذلك في وجود متحف عالمي ومعابد ومسرح.