رأي قانوني حول أحكام الإعدام التي صدرت ضد من تم اعتبارهم مؤيدين للدعم السريع
د. كمال محمد الأمين عبد السلام
مقدمة
مما لا ريب فيه أن حقوق الإنسان تعد من أهم المسائل التي يتعين علي الأنظمة القانونية حمايتها بشكل لافت للنظر علي مستوى القوانين الجنائية موضوعية كانت أم إجرائية، ولا يخفى علي القارئ للنصوص الدستورية وما حوته من مبادئ وأحكام إنما تركز بشكل جوهري علي تحقيق تلك الغاية (حماية حقوق الإنسان) وتتعدد هذه النصوص والمبادئ، وتتنوع بشكل بارز حيث نجد مبدأ المساواة ومبدأ المعاملة العادلة من الأمثلة البارزة والراسخة علي التدليل لتلك الحماية.
ويعرف المشرع السوداني مبدأ الإجراء العادل (Due Process) ويقصد به أن السلطة التنفيذية يجب ألا تحرم الفرد من حقه في الحياة أو الحرية أو التملك إلا وفقا للقانون.
هذه المحاكمات التي تمت لناشطين ومواطنين ولجان مقاومة ومحامين في واقع الأمر تثير أمراً في غاية الأهمية وهو قضية الدفاع عن حرية الرأي، وقد صارت هذه الأحكام حقا من حقوق الإنسان الرئيسية الموضحة في المواثيق والمعاهدات الدولية التي تمت المصادقة عليها من قبل حكومة السودان، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من النظام الدستوري للبلاد.
قد يعتقد البعض أن تحديد طبيعة حرية الرأي والتعبير أمر يسير، ولكن ليس الأمر بهذه البساطة. فتحديد المقصود بحرية الرأي والتعبير وحدوده به كثير من التحديات والخلط ومثال لذلك: هل يفترض أن تحترم حرية الرأي إذا ما تعارضت مع المصلحة العليا والأمن الوطني؟ وهل تمتد لما يعرف بخطابات الكراهية التي تعد في كثير من الدول مجرمة وغير مشروعة؟ ومن بين هذه الدول السودان الذي صادق علي اتفاقية القضاء علي كافة أشكال التمييز العنصري.
إن حرية الرأي المحمية بموجب الوثيقة الدستورية لها أربع قيّم أساسية: تتمثل القيمة الأولى للحماية الدستورية لحرية الرأي في أنها تسهم في تحقيق إشباع ذاتي للأفراد؛ لأنهم يعلمون أن آراءهم محمية، وإن لم يمارسوها علي أرض الواقع. وتتمثل القيمة الثانية للحماية الدستورية لحرية الرأي في إسهام هذه الحماية الدستورية في نشر المعرفة والبحث عن الحقيقة. أما القيمة الثالثة للحماية الدستورية لحرية الرأي فهي تحقيق مشاركة فعالة من قبل المجتمع في صنع القرار وهو الأمر الذي له انعكاس إيجابي علي المواطنة. أما القيمة الرابعة للحماية الدستورية لحرية الرأي فهي أن لها انعكاساً حقيقياً علي استقرار المجتمع من خلال السماح للأفراد بمشاركة آرائهم بحرية، وهذا الأمر مرتبط باستمرارية النظام السياسي وديمومته.
وبالتالي حرية الرأي الحقيقية تعني بحماية الآراء السياسية بشكل رئيس، ومن ثم فإن الآراء الخاصة بمن هم يتصارعون في السودان يجب أن تتمتع بالحماية الدستورية القصوى. ولا يجوز لأي طرف منخرط في الصراع المسلح أن يحاكم الطرف الآخر في أثناء النزاع المسلح؛ لأن الطرفين يجب أن يخضعوا لقانون الحرب (اتفاقيات جنيف الأربعة) القانون الدولي الإنساني، والذي يقرر حماية المدنيين في أثناء الصراعات المسلحة، وليس نيابة الدمازين أو غيرها.
أما بالنسبة لقانون الإجراءات الجنائية، فإنه يجوز تفسيره بطريق القياس بحثاً عن إرادة المشرع، وذلك باعتبار أن قواعد الإجراءات الجنائية تهدف إلى حسن سير العدالة والموازنة بين حق الدولة في العقاب وحق المتهم. كل هذا بشرط ألا تكون القاعدة قد جاءت علي سبيل الاستثناء إضراراً بحقوق المتهم وانتقاصا من ضمانات حريته، فالاستثناء لا يقاس عليه.
وأخيرا لا بد من التنبيه أنه لا محل عند الشك في تفسير القاعدة الإجرائية الجنائية تطبيق مبدأ الشك يفسر لصالح المتهم خاصة عندما يكون الاتهام تحت المواد 50 وما بعدها من القانون الجنائي السوداني لسنة 1991م فالتفسير هنا يعني تحديد معنى القانون والكشف عن إرادة المشرع دون لبس أو غموض.
توصيف الخصومة هل هي خصومة جنائية أم خصومة سياسية؟
قد يتبادر إلى الذهن من تعبير الخصومة الجنائية أن الدولة ممثلة في النيابة العامة تقف من المتهم موقف الخصم وصاحبة المصلحة في نزاع معين . والواقع من الأمر أن النيابة العامة لا تمثل الدولة بوصفها خصماً عادياً، وإنما هي تنوب عنها في تأدية عمل عام من أجل تأكيد سيادة حكم القانون. طبعاً الشيء الذي يفترض في النيابة العامة أنها يجب أن لا تبحث عن تحقيق الإدانة، وإنما تعمل للوصول إلى الحقيقة وحسن إدارة العدالة. ولذا من الخطأ تصوير الخصومة الجنائية كأنها مبارزة قضائية (Duel judicia ire) بين خصمين.
وهنا يجب عدم الخلط بين الدعوي الجنائية والخصومة الجنائية، فالأولى هي طلب الإحالة الموجه من الدولة (النيابة العامة) إلى القضاء لإقرار حقها في العقاب عن طريق إثبات الجريمة ونسبتها إلى متهم معين. أما الخصومة الجنائية، فتشمل الطلب وكافة ردود الفعل الإجرائية المترتبة عليه، حتى تنقضي بحكم بات أو بغير ذلك من أسباب الانقضاء.
وحتى نقرر أن ما تقوم به النيابة العامة في السودان أمر لا علاقة له (بإدارة العدالة) فيمكننا بكل بساطة الرجوع إلى أمرين في غاية الأهمية وهما:
1 كون أن النيابة العامة جزء من لجنة (حكومية) شكلتها السلطة التنفيذية الممثلة في (قائد الجيش) فقد أصدر الفريق عبد الفتاح البرهان القرار رقم (143) لسنة 2023م بتشكيل لجنة (حصر جرائم الحرب وانتهاكات وممارسات الدعم السريع)، برئاسة النائب العام وعضوية ممثلين عن كل من وزارة الداخلية ووزارة الخارجية ووزارة العدل وجهاز المخابرات العامة والمفوضية القومية لحقوق الإنسان). فوجود ممثل النائب العام ضمن هذا التشكيل يتعارض صراحة مع استقلالية وحيادية النائب العام فكيف له أن يرتضي أن يكون جزءاً من لجنة حكومية تشكلها السلطة التنفيذية الأمر الذي يجعل من النائب العام خصماً وحكماً، ويشكل ذلك تعارضاً واضحاً للمصالح وهو بذلك قد خالف صراحة نص المادة (9) من قانون النائب العام لسنة 2017م والتي تشترط بأن تكون النيابة العامة مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية. ويجب أن يكون أعضاء النيابة العامة مستقلين في أداء واجبهم، ولا يجوز التأثير فيهم ولا سلطان عليهم في ذلك لغير القانون.
2 لقد ظل نظام الإنقاذ بكل قبحه وسوءاته يستخدم مادة (تقويض النظام الدستوري) المادة (50) سيفاً في مواجه كل المعارضين له، وفي الغالب تكون النيابة العامة هي الجسر الذي يوصل هذه البلاغات للمحاكم لما تملكه النيابة العامة قبل المتهم بوصفها جهازاً للدولة، فقد تم توجيه هذا السيف حتى ضد المتظاهرين العاديين ومعظم هذه التهم سقطت في المحكمة؛ لأنها لا تقف علي أرض صلبة ابتداء، وإنما دافعها دوماً هو الخصومة السياسية، فعلى سبيل المثال سبق لمحكمة الخرطوم شمال أن أسقطت الاتهامات الموجهة لموظفي مركز (تراكس) تحت المادة (50) لأن هذه المادة يفترض ركنها المادي أفعالاً، وليس مجرد أقوال أو فيديوهات ونحوه.
قبل أن نستعرض النماذج الأخرى التي تم بموجبها توجيه اتهامات بمخالفة المادة (50) من القانون الجنائي، لا بد لنا من تعريفها وتوضيح فقراتها (أن كل من يرتكب أي فعل بقصد تقويض النظام الدستوري للبلاد أو تعريض استقلالها أو وحدتها للخطر يعاقب بالإعدام أو السجن المؤبد.. إلخ إذن هي مادة ذات عقوبات خطيرة. وفي الغالب درجت النيابة العامة علي إضافة مواد أخرى لها وهي إثارة الحرب ضد الدولة والاشتراك الجنائي والدعوة إلى معارضة السلطة ونشر الأخبار الكاذبة.
فرأينا عندما اختلف النظام السابق مع مدير جهاز المخابرات العامة الفريق أول صلاح عبد الله قوش تم توجيه ذات المواد له.
وكذلك تم توجيه المادة (50) لرئيس تحالف قوى الإجماع الوطني فاروق أبو عيسى وأمين مكي مدني بعد عودتهما من كمبالا بعد توقيع (وثيقة نداء السودان. وأيضا تم استخدام ذات التهم عند توقيف الإمام الراحل السيد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة وإمام الأنصار لمجرد إبداء رأي في قوات الدعم السريع ونفس المواد تم توجيهها في مواجهة الأستاذ إبراهيم الشيخ عندما طالب بحل قوات الدعم السريع، فقضى في سجن النهود عاماً كاملاً دون محاكمة وأيضا تم توجيه ذات المواد في مواجهة الشقيقين عماد وعروة الصادق وعشرات الأمثلة من بلاغات فتحت في متظاهرين عاديين. بالتالي هذه المواد يتم استخدامها فقط في مواجهة المعارضين للسلطة وآخر استخدام مخجل لها في البلاغ المفتوح في مواجهة قادة تقدم .
ما هي مشروعية الأدلة المقدمة في مواجه الآتي ذكرهم؟
أصدرت محكمة الدمازين في يوم الاثنين الموافق 3 يونيو 2024م حكماً بالإعدام علي الموظف بهيئة الطيران المدني (الحبيب عيسى حامد عيسى خميس) بتهمة تقويض النظام الدستوري تحت المادة (50) من القانون الجنائي بالرغم من إطلاق سراحه لعدم كفاية الأدلة. تم اعتقاله للمرة الثانية؛ لأنه ناشط سياسي ضد استمرار الحرب وداعم لقضايا التغيير وللثورة .
كذلك أصدرت محكمة مكافحة الإرهاب والجرائم الموجهة ضد الدولة في بورسودان حكماً بالإعدام شنقاً حتى الموت علي فتاة لمجرد تحت المادة 51 من القانون الجنائي السوداني لسنة 1991م فقط (وجدوا حسب أدائهم رسائل تمجد قائد الدعم السريع)، وهنالك محاكمات أخرى جرت وتجري علي هذا المنوال تستخدم فيها سلطة النيابة العامة هذا السيف في مواجهة المعارضين السياسيين للنظام وتوجهاته الداعية لاستمرار العنف والحرب دون مبرر واضح.
طبعاً كل هذه الأمور لا تخرج عن حرية الرأي والتعبير التي يتمتع بها كل مواطن سبق لمحكمة النقض المصرية في أحد أحكامها الصادرة بتاريخ 25 يناير 1965م أن قررت: (بأن دليل الإدانة وحدة يجب أن يكون مشروعاً، أما دليل البراءة فلا يلزم فيه ذلك كأن يكون محرراً وصل إلى حيازة المتهم عن طريق غير مشروع. فكيف لقوات تقوم بانتهاك خصوصية المواطنين، وتفتش هواتفهم وتستخلص منها دليلاً ضدهم مخالفة بذلك القاعدة الأصولية في قانون الإجراءات الجنائية السوداني لا يجبر المتهم علي تقديم دليل ضد نفسه.
وتقودنا هذه البلاغات التي تمت فيها المحاكمات إلى قاعدة المشروعية التي تنكب عنها القضاء، وتوضح بصفة عامة طبيعة العلاقة والصراع بين الفرد والسلطة من جهة، وعلاقات الأفراد وتصارعهم من جهة أخرى حيث يحاول كل طرف في حلبة الصراع أن يقوي من مركزه، ويؤيد ادعاءاته ولو باللجوء إلى وسائل غير جائزة قانونا.
لا بد من إخراج أجهزة العدالة من تصفيات الخصومات السياسية؛ لأن هذه الأجهزة بهذه الطريقة لن يحترمها أحد، وتظل ظهيرا للمستبدين في كل زمان ودهور.
المصدر: صحيفة التغيير