بحيرة الدم الآنية لم تمح من ذاكرة السودانيين دماء فض الاعتصام
أعاد «الثوار» مجدداً نشر قوائم رفاقهم «الشهداء»، وملأوا صفحات وسائط التواصل الاجتماعي بصورهم، وأعادوا بث فيديوهات الأحداث، ونشطوا في التنديد بـ«الفعلة»، ورسموا «ملحمة حزن»، لم تنس الناس حزنهم الآني، لكنها أيقظت فيهم كل «الحزن القديم».
في 3 يونيو (حزيران) 2019 عشية عيد الفطر المبارك، فض الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» و«كتائب الإخوان»، ما عرف وقتها بـ«اعتصام القيادة» العامة، بعنف مفرط، استخدمت فيه كل أنواع الأسلحة، وأدوات العنف غير المعهودة، وأطلق الرصاص مباشرة نحو صدور الشبان والشابات، وأُشعلت النيران في الخيام التي ينامون داخلها، ودُهسوا بالسيارات… وسُجّلت عمليات اغتصاب كثيرة.
في 6 أبريل (نيسان) 2019 اعتصم «الثوار»، ومعظمهم من الشباب، أمام مقر القيادة العامة للجيش لمطالبة «جيشهم» بإطاحة نظام الحركة الإسلامية بقيادة الرئيس السابق عمر البشير، الذي جثم على صدر البلاد 30 عاماً… استجابت قيادة الجيش وعزلت البشير في 11 أبريل 2019، لكن «الثوار» واصلوا اعتصامهم، مطالبين بتنحي العسكر وتسليم السلطة للمدنيين بقيادة تحالف «قوى إعلان الحرية والتغيير» (وقتها)، مع وعود قاطعة من قيادات الجيش بعدم فض الاعتصام؛ بل وبحمايته.
فوجئ المعتصمون صبيحة 3 يونيو 2019 بعشرات الآلاف من الجنود، بأزياء الجيش و«قوات الدعم السريع» وبثياب مدنية، مدججين بالأسلحة الفتاكة يهجمون عليهم وهم نيام ويطلقون الرصاصات القاتلة عليهم بضراوة… قتلوا المئات وأصابوا الآلاف بجراح، وألقوا البعض أحياء في نهر النيل بعد أن ربطوهم بحجارة ثقيلة، راسمين ملامح «انتقام» غير مسبوقة في تاريخ البلاد.
حاول المعتصمون اللواذ والاحتماء بأسوار القيادة العامة للجيش، لكن «الجيش أغلقها في وجوههم»، وتركهم يواجهون الموت دون ذنب جنوه سوى أنهم كانوا يبحثون عن «الحرية» ويضغطون من أجل حكم مدني ديمقراطي، وهم يهتفون «حرية… سلام… عدالة» دون أن ينسوا أن يهتفوا للجيش «الجيش جيش السودان»…
وفي 15 أبريل 2023 أشعل طرفا «الجيش» حربهما، المستمرة منذ أكثر من عام؛ وسط المدنيين أيضاً… التي قتل خلالها أكثر من 15 ألفاً، فيما إحصاءات تذكر أن العدد أكبر بكثير، وشرد أكثر من 10 ملايين شخص في الداخل والخارج، ودمرت البنية التحتية للبلاد بكاملها؛ من غربها إلى وسطها إلى شرقها إلى شمالها…
وضجت وسائط التواصل الاجتماعي حزناً بالذكرى الأليمة، وقالت «سارة حسبو» على فيس بوك: «في صباح يونيو 2019، كل العساكر في البلد دي، إلا القليل القليل، كسبوا عداوتي بشكل نهائي وللأبد».
واستعاد الناشط سيف الإسلام الهادي، اعترافات الناطق باسم المجلس العسكري الانتقالي وقتها الفريق شمس الدين الكباشي، نائب قائد الجيش الحالي، بدور قواته في فض الاعتصام، التي قالها في مؤتمر صحافي: «ومن ثم وجهنا القيادات العسكرية بالتخطيط لفض هذا الاعتصام، وحدث ما حدث»، دون اعتذار عن الأرواح التي أزهقت. وشمس الدين نفسه هو الذي كان يعد المعتصمين بحمايتهم ويتعهد لقادتهم بعدم فض الاعتصام.
لم تعتذر القوات المسلحة عن المذبحة التي ارتكبت بأزيائها وتحت مرأى من كبار ضباطها، وفشلت لجنة التحقيق التي كونها رئيس الوزراء حينها عبد الله حمدوك برئاسة المحامي نبيل أديب في تقديم متهم واحد للمحاكمة، رغم الاعترافات العلنية لقادة الجيش. وبقي للناشط نزار الجوهري فقط الهتاف: «يا عار القيادة العامة»، بينما لخص مجدي ساتي حكاية الدم كلها في تغريدة تقول: «اجتمعوا على فض الاعتصام، ثم اتفقوا على الانقلاب، ثم اختلفوا فأشعلوا الحرب».
الشرق الأوسط
المصدر: صحيفة الراكوبة