لكريني يقارب المشهد الثقافي بالمنطقة المغاربية.. مفارقة عجيبة مشوبة بالالتباس
قال الدكتور إدريس لكريني، أستاذ جامعي رئيس منظمة العمل المغاربي، إن صفة المثقف لا تقترن بامتلاك الشهادات الجامعية أو اكتساب الخبرات العلمية، بل يجب أن تكون لديه إسهامات فعلية في طرح مواقف وآراء تعزز النقاشات حول قضايا المجتمع.
وأضاف الأكاديمي ذاته، ضمن مقال معنون بـ “النّخب المثقّفة والمأزق المغاربي”، أن المشهد الثقافي في البلدان المغاربية ما زال بعيدا عن تطلعات المواطن، وعن مواكبة التحولات الكبرى والمتسارعة التي تشهدها المنطقة والعالم على مستويات عدة، كما أن علاقة المثقف المغاربي بالسلطة ما زال يشوبها إجمالا الكثير من الالتباس والشك.
نص المقال:
لعبت النخب المثقفة على امتداد التاريخ البشري أدوارا كبيرة سمحت بتحقيق مجموعة من المكتسبات والمنجزات الحضارية والفكرية، التي كان لها الأثر الكبير في تغيير مسار الأحداث بصورة تركت بصماتها على المستويات الفكرية والاقتصادية والحقوقية والسياسية.
إن صفة المثقف لا تقترن فقط بامتلاك الشهادات الجامعية أو باكتساب الخبرات العلمية، بل تتصل أساسا بمستوى الإنتاجات الفكرية والمساهمات الفعلية في طرح مواقف وآراء تعزز النقاشات بصدد عدد من القضايا المجتمعية، وتساهم في نقد الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والسعي لإيجاد إجابات لعدد من الإشكالات، وطرح مجموعة من الحلول الكفيلة بتجاوز المعضلات المختلفة التي تواجه المجتمعات.
لقد تأثر حضور المثقف بمواقفه وإنتاجاته الفكرية والفلسفية والعلمية سلبا أو إيجابا تبعا للظروف السياسية والاجتماعية التي مرت بها المجتمعات والدول، ولطبيعة وتموقع هذه النخب نفسها، وتبعا لموقف صانعي القرار السياسي منها في هذا الخصوص أيضا.
ما زال الهدر سيد الموقف في المنطقة المغاربية بفعل جمود الاتحاد المغاربي، ووجود مشاكل بين أعضائه، وبخاصة فيما يتعلق بالعلاقات بين المغرب والجزائر التي تعيش على إيقاع القطيعة المعلنة من جانب الجزائر قبل سنوات. فرغم الإمكانات المذهلة المتاحة لبلدان المنطقة على مستوى الموقع الجغرافي والتاريخ المشترك، والخيرات الطبيعية والإمكانات البشرية الهائلة… ما زالت الروابط التجارية والاقتصادية بينها تسجل أدنى مستوياتها على الصعيدين الإقليمي والعالمي.
ويبدو مستقبل المنطقة، ما لم يتم تحكيم العقل واستحضار المصالح بمنظور استراتيجي، قاتما ومشوبا بكثير من المخاطر، في ظل هذه الأوضاع، التي يتم فيها توريث المشاكل والأحقاد للأجيال المقبلة، في زمن يشهد فيه العالم تحولات كبرى، مرتبطة باعتماد خيارات التكتل والتنسيق، وبتنامي التهديدات العابرة للحدود في أبعادها الأمنية والصحية والاقتصادية والسياسية، واستهداف المنطقة بأجندات وتدخلات خارجية يصعب مواجهتها بشكل فعال في سياق خيارات قطرية ضيقة.
وتتزامن هذه التطورات مع تصاعد خطابات شعبوية يقودها بعض “مؤثثي” و”مؤثري” شبكات التواصل الاجتماعي، تكرّس الحقد والعداء بين شعبين (المغربي والجزائري)، في تنكر تام للمشترك الحضاري وللروابط الاجتماعية التي يتقاسمانها.
لا شك أن هذه المستجدات والمتغيرات تطرح مسؤولية كبيرة أمام النخب المثقفة المغاربية، باتجاه التحسيس بخطورة الوضع وبحجم الخسائر التي تتحملها دول المنطقة والأجيال القادمة نتيجة الجمود الذي يطبع العلاقات المغاربية بشكل عام، والضغط باتجاه اتخاذ صانعي القرار خيارات بناءة وفي مستوى اللحظة التاريخية التي لا تحتمل الصمت والتفرج، أو الاستمرار في العيش في برج عاجي، بعيدا عن انشغالات وهموم الناس، أو تبرير السياسات الارتجالية التي تقدم عليها بعض النظم في المنطقة رغم خطورتها على حاضر ومستقبل المنطقة.
حقيقة أن المشهد الثقافي في البلدان المغاربية ما زال بعيدا عن تطلعات المواطن، وعن مواكبة التحولات الكبرى والمتسارعة التي تشهدها المنطقة والعالم على مستويات عدة، كما أن علاقة المثقف المغاربي بالسلطة ما زال يشوبها إجمالا الكثير من الالتباس والشك، في ظل واقع إقليمي سمته تراجع مكانة الفكر والمعرفة في مقابل بروز “مؤثّرين رقميين”، غطّوا بنقاشاتهم التي كثيرا ما تطبعها السطحية والشعبوية عن النقاشات الفكرية الجادة.
ومع ذلك، فهذه الظرفية بإشكالاتها وتحدياتها، تتطلب المواكبة الفكرية والتفاعل الإيجابي، وذلك بإنتاج الفكر النقدي الذي يساهم في تطوير المجتمعات، وتنوير العقول، في إطار من الحرية والمسؤولية، من خلال فتح نقاشات واجتهادات فكرية تساهم في تنشئة المجتمع وفي توجيه النصح والنقد البناءين لصانع القرار السياسي.
إن ما حققته البلدان الأوروبية من مكتسبات كبرى على مستوى تحقيق التنمية والديمقراطية وبناء تكتل واعد، جعلتها تقطع مع سنوات الحروب والصراعات المكلفة، وتتبوأ مكانة عالمية وازنة، لم يكن صدفة، بل كان حصيلة لمجموعة من المبادرات والجهود التي بدأت أول الأمر بترسيخ فكر متنور منفتح على المستقبل، قادته الكثير من النخب المثقفة والفلاسفة الذين أغنوا بإسهاماتهم الفكر الإنساني، ومهّدوا الأجواء لقيام ثورات فكرية وسياسية واقتصادية تجاوز صداها الفضاء الأوروبي.
تعيش المنطقة على إيقاع مفارقة عجيبة، بين مقومات عديدة تفرض التنسيق والتعاون وطي الخلافات، مقرونة برغبة شعبية عارمة في التواصل والعيش في سلام وطمأنينة في مغرب كبير منفتح من جهة أولى، وقرارات غير شعبية يتبناها بعض صانعي القرار في المنطقة، بصورة ترهن مستقبل هذه الأخيرة وشعوبها بمزيد من المخاطر والتحديات من جهة ثانية، تبرز أن هناك حاجة جدّ ماسة إلى ونخب فكرية مسؤولة تسهم في وقف النزيف، وتجهر برفض هذا الواقع المزري الذي تؤجّجه أصوات تكرس الضغائن والعداوات المجانية.
إن حالة الانتظار والترقب والإحباط التي تعم المنطقة، تتطلب حراكا فكريا مغاربيا حقيقيا، ينبذ خيار القطيعة وما يترتب عنه من إشكالات اجتماعية وسياسية واقتصادية وأمنية، يرافع باتجاه نهج العمل الجماعي وتحصين المنطقة في إطار تكتلات قوية، واستثمار كل المقومات المتاحة لكسب رهانات التنمية، والاستجابة لانتظارات المواطنين وقضاياهم الحقيقية بدل السقوط في خيارات ضيقة ومفلسة سينبذها التاريخ.
المصدر: هسبريس