هل تعلم أن غزة فيها بركة للعالمين؟!
لقد غشيت البشرية غاشية كثيفة من المادية في قرونها الأخيرة، بسبب هيمنة النموذج الغربي، وظهور العولمة القهرية، وحرص الغرب على فرض حداثته الإلحادية على شعوب العالم وخاصة العالم الإسلامي، فصارت موازين غالبية الناس مادية، ونوازعهم وأفكارهم التي تحركهم مادية، وأغراضهم وأهدافهم التي يتحركون تجاهها مادية، وضمرت الروح عند كثيرين، وتوارى الغيب أمام كثافة المادية عند الأكثرين، وهزلت النفوس أمام الجسد، وترهلت الأرواح أمام البدن، وتضعضعت المعاني الإيمانية في حياة الناس، وصارت كثير من قيم الإيمان أشبه بعلم الخيال عند طائفة، ومن الأساطير عند طائفة مكابرة ومعاندة وجحدا للحق، {انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون * ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين}.
ومن هذا صار الكلام على البركة خيالا عند بعضهم وأساطير عند بعضهم، رغم أن واقع الناس، بل واقع الغرب نفسه يؤكد فكرة البركة، حيث يعطي نموذجا حيا عن رفع البركة وافتقاد الناس لها حسا ومعنى، وإلا كيف نفسر أن المدنية الغربية وصلت إلى أعلى معدلات الإنتاج الزراعي والصناعي التي عرفها تاريخ البشر، وفي الوقت ذاته ترتفع معدلات الفقر في هذه الدول، ناهيك عن افتقار دول بأكملها!!، والبشرية تعيش هلعا وخوفا من المستقبل، وترتعب من الأمن الغذائي، وأكثر ما يتكلم عليه المحللون الاقتصاديون: شح الموارد، الندرة، الركود، انكماش الاقتصاد… إلخ.
إن الكلام على البركة طويل الذيول، متشعب الأرجاء، قد أرجع إليه في مناسبة أخرى، وإنما قدمت بما قدمت به لأعرج على عقيدة إيمانية قرآنية تتعلق بالشام عامة وبفلسطين، والمسجد الأقصى، وغزة، هذه البقاع المباركة المقدسة، التي أثبت الله جل شأنه بركتَها قرآنا يتلى إلى يوم الدين، في آيات عدة من كتابه الكريم، قال الحق سبحانه: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها} الأعراف:137، ومشارق الأرض ومغاربها هنا هي فلسطين، وقال جل شأنه: {ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين} الأنبياء:81، والأرض التي باركنا فيها هنا هي فلسطين، وقال عز من قائل: {وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين} سبأ:18، والقرى التي باركنا فيها هي قرى الشام، {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير} الإسراء:1، وهذه الآية العظيمة أوضح من الشمس في رابعة النهار في بيان بركة فلسطين والشام. {ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين} الأنبياء:71، وهي أرض الشام وفلسطين.
والبركة كثرة الخير ونماؤه وزيادته، وهي وفرة الخير والنفع أيضا، ومعناها في الآيات عند أكثر المفسرين: بارك الله أرض الشام وفلسطين بالخصب وكثرة الأشجار والثمار والأنهار، ومنها بعث أكثر الأنبياء. وهذا معنى صحيح بلا ريب، وفيه إيماء جليل لا يظهر لكل الناس، وهو إيماء إلى البركة المعنوية، وهي أجل وأعظم، بتنصيصهم على بعث أكثر الأنبياء منها، فهذه بركة معنوية جليلة، إذ لا سعادة للبشر إلا باتباع هديهم، ولا شقاء للبشر إلا بتنكب سبيلهم، وعندها تذهب بركة الأشجار والثمار والأنهار، كما يؤكد ذلك واقع البشرية المعاصر التي فقدت البركة رغم ازدياد انتاجها، لما أعرضت عن ذكر الله تعالى الذي جاء به الأنبياء والمرسلون.
لقد استوقفتني لفتة حصيفة من الأستاذ وضاح خنفر، وهو يتكلم على غزة الشهيدة الشاهدة الصامدة، وهي جزء من فلسطين والشام، فهي مباركة تشملها آيات البركة التي تتكلم على بركة المسجد الأقصى وما حوله، نبّه فيها عن بركة غزة المعنوية، وقال فكرة في غاية الدقة والعمق مفادها: (أن ما يوجد في فلسطين من خيرات الثمار والأرزاق يوجد مثله في أرجاء العالم، ولكن من مظاهر بركة الأرض المقدسة ومنها غزة أن ما يحدث فيها من أحداث، وما ينشأ فيها من أفكار يكون له تأثير على العالم أجمع)، وخير دليل على ذلك ما نشهده من أثر عجيب لأحداث غزة على العالم في جانبه القيمي، فقد فضحت دعاوى الغرب الحضارية، وأسقطت شعاراتهم الجوفاء، وأيقظت ضمائر ملايين حول العالم، وأوصلت النور لقلوب آلاف من الناس فأسلموا عن يقين، وأعلت القيم الروحية أمام القيم المادية، وردت الاعتبار لمعاني الجهاد، والدفاع عن الأرض والعرض، والصمود أمام البطش والظلم، واختيار الموت بحرية على عيش الهوان، والصبر على المصائب، وحمد الله إيمانا على البلاء… إلخ. وكل هذا له أثره، وسيكون له في المستقبل خبره.
فرجعت للآيات التي تتحدث عن مباركة الله تعالى لفلسطين والمسجد الأقصى وما حوله، ووقفت طويلا مع قوله تعالى: {ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين}، إذ هي تقرر بوضوح أن بركتها ليست خاصة بأهلها بل هي للعالمين، قال الإمام الزمخشري رحمه الله: “وبركاته الواصلة إلى العالمين: أن أكثر الأنبياء عليهم السلام بعثوا فيه فانتشرت في العالمين شرائعهم وآثارهم الدينية وهي البركات الحقيقية. وقيل: بارك الله فيه بكثرة الماء والشجر والثمر والخصب وطيب عيش الغني والفقير”. وتأمل تعليق الإمام عن انتشار الآثار الدينية للأنبياء من الشام: “وهي البركات الحقيقية”، وهكذا فإن آثار صمود غزة هي البركات الحقيقية، التي عمت العالمين.
وتأمل أيضا قول الشيخ الشعراوي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: “البركة قد تكون مادية.. وهي الزروع والثمار والأنهار والخيرات، أو بركة معنوية، وهي بركة القيم في الأرض المقدسة، وهي أرض الأنبياء، ومعالم النبوة والرسالات”، وقف طويلا مع كلمته الجميلة (بركة القيم)؛ لتفهم جيدا أن معركة غزة هي معركة انتصار قيم الإيمان على الكفر، وقيم العدل على الظلم والاستكبار، وقيم الحق على الباطل والطغيان، وقيم الإنسانية المؤمنة على المادية المظلمة… انتصار القيم في نفوس الناس في العالم أجمع ابتداء، ثم انتصارها في واقع الناس بركة للعالمين انتهاء، {ولتعلمن نبأه بعد حين}.
*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة