ذكريات ثورة مايو وكيف يحكمنا الدناقلة؟
بما أننا في شهر مايو نعود ونربط الناس بعهد ثورة مايو التي قادها الرئيس نميري في 25/5/1969 مع اليسار السوداني ليقطع الطريق أمام قفزات حسن الترابي الساعية لإعلان الجمهورية الاسلاميةعام1968م ، والتي حمل دستورها للشيخ السنهوري بمصر ، والذي أشاد بدوره بالدستور الاسلامي ، وبمن وضعه بل أشار صراحة إلى أن الترابي سيخلفه في الفقه الدستوري ، لذلك أقول منذ أن ظهر الترابي في مسرح السياسة لم نذق طعم العافية لسبب بسيط ، وجوهري أن الرجل وغيره من الساسة في كل قراراتهم الكبيرة ، لم ينتبهوا لهشاشة الدولة الوليدة ، ولا لوضعها الداخلي المبعثر اجتماعيا على أقل تقدير ، وفكريا بنمو لا مركزي ، وثقافة شفاهية وحسب ، ونمو اقتصاديا هش يحتاج لتثبيت دعائمه لتقوية بنية الدولة ، وبسبب تلك الأخطاء وصلنا إلى ما نحن فيه ، مما يحتاج لمراكز دراسات علمية لننهض من هذه الكبوة.
قامت ثورة مايو لذلك كله ، وأكثر ، وملأت البلاد زخما شديدا ، وهي تجربة تحتاج ككل تاريخنا من الاستقلال لمراجعات نقدية علمية لأخذ العبر ، والدروس المستفادة حتى لا تكرر الأخطاء كما سبق.
وخلال مسيرتها التي بلغت 16 سنة ، كانت هناك قفشات ومواقف طريفة ، ولها ظرفاء بكل مدينة ، ومن بين كل ذلك روى لي بروفيسور كان من ضمن لجنة كونها الرئيس نميري لدراسة ظاهرة الهجرة من الريف إلى المدينة ، وقال ذهبنا بتقرير كامل للأسباب ، ولعلاج الظاهرة انعقد اجتماع لمجلس الوزراء ، وتمت المناقشة باستفاضة ، وأسئلة ، وأجوبة ، يقول البروفيسور : فجأة باغتنا الرئيس نميري بسؤال أدار رؤوس اللجنة ، واحترنا في الإجابة، وقد لمح تلك الحيرة فتى مايو الذهبي الذكي زين العابدين محمد أحمد عبدالقادر عضو مجلس قيادة الثورة ، وكان يجلس بجوار الرئيس ، فهمس في أذن الرئيس بكلام أضحكه حتى نسي سؤاله ، وبعد نهاية الجلسة ، سألنا الزين عن ما قال له ، فقال : “شفتكم محتارين اصلو دا مرات تقول عنده شيطان ، بيسال أسئلة غريبة عجيبة” فهمست قائلا:
لو الهجرة من الريف توقفت الدناقلة يحكمونا كيف؟
أما الأستاذ محمد توم التيجاني وكيل وزارة التربية والتعليم ، فقد كان رجلا جمع الظرف ، والعلم ، والمقدرة الإعلامية ، وكان له برنامج إذاعي ناجح بعنوان : ظلال ، وهتف عندما أقاله النميري من وكالة الوزارة: “عائدون عائدون”، وفعلا أعيد لكفاءته المتميزة ليصبح وزيرا للتعليم العام ، وبعدها التقى مصادفة في تمرين لنادي الهلال بزين العابدين الذي كان رئيس مجلس نادي الهلال ، فسلما على بعضهما وبعد التحايا ، هنأ زين العابدين الوزير الجديد بمنصبه ، لكن محمد توم التيجاني قال للزين : والله يا الزين ثورتكم دي عجيبة خلاص تمسك الواحد من النخبة ترفعوا فوق فوق لما تشوف قفاه فجأة تفكوا يقع يتكسر حتة حتة تاني ما ينفع”، وضحك كلاهما، لينقلها زين العابدين تفكها للنميري ، فضحك بشدة ، وفي اجتماع مجلس الوزراء ، وقبل دخول الجميع ، انتحى النميري بمحمد توم التيجاني جانبا ، وقال له : يا أستاذ أنا شفتك، فقال : عليك الله فكني بالراحة ، ولكونه ألجن اللسان تنقلب الراء عنده ياء ، خرجت كلمة بالراحة : بياحة، فانفجر النميري ضاحكا وألقى ما بيديه من ملفات.
وحول كأس الذهب البطولة الكروية التي أطلقها النميري ، وفي نسختها الأولى رفض الهلال اللعب لظروف تتصل باللاعبين ، بينما أصر المريخ على اللعب ، وتفرق رجالات مجلس الهلال في أماكن مختلفة حتى لا يتم الضغط عليهم ، واجتمعوا خفية لتدارس الموقف ، فباغتهم محمد توم التيجاني الوزير نفسه ، ليحل هذه القضية ، فاستأذن ، ودخل عليهم فقال لرئيس المجلس اللواء عمر علي حسن : يا ولدي يا عمر ما عايز تلعب ليه؟ فقال اللواء : يا أستاذ المريخ حيهزمنا هزيمة صعبة ، فقال محمد توم التيجاني : يا ابني يا عمر لعبت كوتشينة؟ فقال اللواء : لا ، فقال : بنسبة كم تغلب المريخ؟ قال : واحد في المئة ، فقال : العب بيها واغلب ، وقد كان.
ويروى أن أبو القاسم محمد إبراهيم ذهب إبان الانتفاضة لزين العابدين يوم الأربعاء قبل يومين من سقوط نظام مايو ، وطلب منه أن يلبس اللبس العسكري ، ويخرج ليقود جماهير مايو ، فرد الزين بهدوء وبصيرة : اطلع ادافع عن مايو موديل كم؟ موديل 69 بدافع عنها، موديل 85 لا ، الشعب مرق ، وأنا جاهز لكوبر..
وروى لي أحد أقارب الزين أنه رافق والدة الزين لزيارته في السجن ، فلما دخلا معا للزيارة ، وجدوا الحاضرين يضحكون بشدة ، فقام الزين وقبل رأس أمه ، والتفت للحاضرين : ما قلت ليكم أمي سمحة شديد؟ لكن شوفوا راسها وكشف رأسها فإذا هو مليء بالشيب ، وقال لهم : شيبها بسببي أنا.
وكل مايو والسودان يعود بألف خير بعد أن تزول منه هذه الغمة التي تعود
جذورها إلى الاستقلال علنا نفهم ونتعظ لمن يلقي السمع وهو شهيد.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة