اخبار السودان

قراءة فى أغنية سافر.. كلمات قاسم أبوزيد غناء مصطفى سيد أحمد

 

د. واصل النور

تبدأ الأغنية بموسيقى هادئة تراقص الخيال وتسوح بك فى فضاءات رحبة وكأنك على موعد غرامي بعد قليل.. كصوت قطعة معدنية تسقط على بلاط لامع يقطع الصمت الموسيقى صوت مصطفى كأنه عابرا لقارات ومحيطات مشبعا بشيء من الحنين الفوضوي. (ساافر)  فعل الأمر الذي يأتي هكذا بدون سابقة إنذار وكأن هناك ثمة حوار يسبقه وتفاصيل جمة لا مجال لذكرها.. يضغط مصطفى على فعل الأمر مع سبق إصرار وترصد الموسيقى التى تداعب خيال الفنان وتردد معه حتى يستبين لك أن الموسيقى قد تلبست الفنان والحوار لم يكتمل بعد والسفر أمر حتمي مبني على محهول. أبو السيد الذي يضج مسامعنا وينقلنا إلى مشاهدة حية في مطارات الوداع وهي تلوح في وجه المسافر ــــ بيضا ــــ مغرية بالرحيل قدامو ووراو… وكطبيعة أبو السيد في معظم أغنياته يدوزن لك الحزن بالفرح فيأتيك عصيرا من خليط الدهشة واحتراق الأغنيات في مشهد الوداع المر والعيون تكتظ بالأسى مساحات بل وتتفجر مدينة وناي.

أداء أبو السيد متزن، الإيقاع يعلو ويهبط قليلا بينما الموسيقى تترنح ترنح السكران الذي لا يدرى ليله من نهاره كنوع من المفارقات بين الكلمة واللحن مثلما ينقلب المشهد من فعل الأمر “سافر” إلى  “بطاقات دعوة الرجعة” ومن  “مطارات الوداع ضجت”  إلى “دموع للحاضرين فجت”، وهنا يكمن الإغراء في كل… وللمفارقة المدهشة يتحول الأسى في تلك العيون من ” مساحات “إلى زغاريد غطت الدنيا”.

يفاجأنا صوت الفنان ويعود بنا من تلك الرحلة كصفعة على خد غافل بـ”صداك الريح” تلك الجملة اللحنية التي جمعت كل أشكال العذابات وكل أنواع الخيبات حتى صرنا نعلم كيف يبدو طعم أيام الشجن.

حالة من الصمت والموسيقى لا زالت تعوي كطفل جائع بين أحضان أمه، يأتي صوت مصطفى منسابا بنفس الهدوء ليسكت جوع الموسقى ـ حالة الصمت إيماءة لانتقال المشهد إلى مراجعة ووقفة مع النفس فى شكل عتاب للحاضر فى لفظ  “كتير” الذي ينم عن التشفي في العتاب  واللا مبالة على الماضي حيث تتجلى صورة الإيمان فى تقتباسه من الأية الكريمة  (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم والله لا يحب كل مختال فخور)،  المشهد الإيماني يتكرر حين يصدح الفنان بين الشوق وإنسانك صدق الرؤية في أن يعيش الفنان راضيا عن خيباته ونجاحاته… مصطفى كأنه لا يريد أن يغادر تلك الجملة اللحنية فيصر على تكرار المقطع عدة مرات حتى يخيل إليك أنه يغرف من سحر المفردة بتلذذ شهي.

وكحمامة السلام التى تحط على اليابسة مبشرة بقرب إنتهاء الطوفان اللحني المنساب يأتي صوت مصطفى في “مداااك” متعديا حد السمع قبل الشوف. يدخل مصطفى على الشعر إنسان كامل الدسم كربط حقيقي لقيمة الشاعر فى إنسانيته قبل إنتقائية الكلمة.

حرف العطف الواو في “وانتحر النهار هسه” يأتى تأكيدا على قبح الجرم فى وضح النهار بـ”هسه” الظرفية.

قد تشيخ المدن التي تغنيه ويغنيها مصطفى، تلك المدن التي ترك  لديها أحلامه مطالبها بعدم النسيان بل وحتى القرى الراحت يغنيها مصطفى وكأن مصطفى قد أزمع الإبحار دون تحديد أي مرسى لتلك الغربة التي شاخت فيها المدن وراحت فيها القرى.

مصطفى في نهاية الأغنية يشهر كرت التحدي في وجه الزمن وكأنه على صراع أبدي معه، يحاربه بالكلمة واللحن الجميل “غنيناك وبنغني”.

المقطع الأخير من الأغنية يشبه إشعار الشاعر اللبناني شوقي بذيع في قصيدته كيف تصنع قطرتان من الندى امرأة:

أردت من القصـــيدة أن تزلزل صمتك الحجـــري

فاختنقـــت

وعـــلى شفيــر الانتحــــار

أراك تقطعين آلاما لأشبه واحدا منها

وأرى ابتســـامات وأغصانا

تقـــود الروح نحو غبارك الكـــوني

ثم أعـــود من كفيك نحو الشعـــر

لـــيس لغربـــتي حــد

ولكـــني دخلت إلى الكتــابة عـاشقـــا

وخرجت أعـــمى

كيـــف يمكن أن أحــــبك!؟

كــــيف؟؟

 

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *