الأشعري وأزولاي يستعيدان ذكرى إدمون المالح على أضواء القضية الفلسطينية
اُستُعيدَ أدب وذكرى إدمون عمران المالح في ندوة بالمعرض الدولي للنشر والكتاب، الذي اختار في دورته 29 الاحتفاء بالأديب والناقد التشكيلي المغربي المعروف بمساندته للقضية الفلسطينية، عبر معرض خاص، وسلسلة لقاءات فكرية، من بينها ندوة تدخّل فيها الأديب ووزير الثقافة سابقا محمد الأشعري، والمستشار الملكي أندري أزولاي، وعالم الإناسة محمد حبيب السمرقندي، فيما سيّر اللقاء المسؤول بمؤسسة إدمون عمران المالح، الذي سبق أن أدار المكتبة الوطنية للمملكة المغربية، إدريس خروز.
الكتابةُ حياة
قال محمد الأشعري إن إدمون عمران المالح “لم يكن يشغل نفسه كثيرا بهل هو مفكر أو منظر أو صانع أفكار؟”، بل “كان في ما أعتقد يرى نفسه بالخصوص فيلسوف حياة، وفيلسوف القيم والمصائر، وطبع مجالات بفلسفته وإنسانيته وطريقته الشعرية في النظر إلى العالم”.
أوّل هذه المجالات، وفق الأشعري، مجال الكتابة، موردا: “هناك أسطورة شائعة بين الإعلاميين والأدباء أنه وصل الكتابةَ الأدبية متأخرا بعد خمسين سنة، لكن أعتبر أنها كانت دائما مقيمة في فكره ووجدانه وعواطفه وأنضجها على نار هادئة بتأمل عميق، ولما بدأ يضعها على الورق جاءت تماما تشبه المخاض الذي أخذه للوصول إليها”.
كتابة إدمون “كتابة بالصمت، كما تقول زوجته ماري سيسيل، تشبه عمل علماء الآثار؛ حفر مستمر، وتنقيب صَبور، واستخراج فاكهة الزمن اللذيذة واللامعة والمعتقة”، وتنهض على اعتبار أساس هو “أنها ليست كتابة عن الحياة بل الحياة نفسها، لا تعوض فقدانا ولا تنوب عن خصاص، بل تنشأ عن توقنا الدائم للحرية والاكتشاف والقضايا العادلة”، وفق المتحدث ذاته، وزاد: “في عصر السهولة، والانتقالات السريعة، والفرجة، والسطحية، لم يكن المالح يعبر عن كره هذا بالتعبير عن الغضب فحسب، بل أيضا بالوفاء لطريقته في الكتابة”.
المجال الثاني الذي طبعه إدمون عمران المالح “الذاكرة اليهودية في المغرب”، التي ارتبطت لديه “بالوجود اليهودي نفسه وعلاقته بالزمن؛ فقد كان يرفض دوما نفي الذاكرة إلى الماضي، مقبرةِ كل ذاكرة حية، مثلما كان يرفض اعتبار الذاكرة مجرد متاع ننقله معنا حيث نشاء”، بل اعتبرها “نابعة من الأرض، ولا عيش إلا باستمرارها جذورا حية منها، ومن هنا ارتباط الذاكرة لديه بالحاضر والمستقبل، ورفضُه تحويلها إلى عرض متحفي”، يورد وزير الثقافة الأسبق.
واستحضر الروائي في هذا الباب “أبنر أبي النور”، نموذجا من نماذج كتابات المالح التي يعبر فيها عن “حداده”؛ لأن هذا العلَم الأدبي كان يحمل “حدادا؛ فاندثار الذاكرة اليهودية جرح لم يبرأ منه يوما، وظل دائما يعتبر أن محاولة تجنيد الذاكرة اليهودية في الماضي، واقتلاعها من الحياة اليومية، مسألة وطّنت الاندثار والضياع في نفوس اليهود المغاربة”، ورغم أنه كان “الشخصية اللطيفة التي تحب الحياة والضحك، لكنه كان رجلا متألما بشكل لا يُتصور، لا يعبر عن ذلك بقوة، لكن في الكتابة يخرج هذا الألم بسهولة وقوة”، وفق تعبيره.
المجال الثالث الذي طبعه إدمون عمران المالح، حسب وزير الثقافة المغربي سابقا، “علاقته بفلسطين”، “ففي نهاية المطاف لم يكن يهتم كثيرا بما سيقع لهذه القضية من حلول سياسية وهمية أو حقيقية، عادلة أم ظالمة، دائمة أم عابرة، معتبرا ذلك جزءا من مسار سياسي معقد فيه قوى كبرى ومحلية، ومتروك للزمن؛ لكنه كان يتألم بكل كيانه للظلم الذي وقع للشعب الفلسطيني، ويعبّر عن ذلك باستمرار، يعيشه لا كناشط، بل كجرح يهودي كما كان يسميه”.
وزاد الأشعري: “الأقسى بالنسبة إليه كان أن يقبل اليهود بضمائر شبه مرتاحة، هم الذين عاشوا التهجير والإبادة والاقتلاع، أن يمارس هذا بطريقة أو بأخرى على الشعب الفلسطيني؛ كما كان يتألم لمحو هذه التراجيديا كلمات أساسية من القاموس السياسي، هي: الاستعمار الاستيطاني ورديفته المقاومة”.
وتساءل المتحدث باستحضار روح موقف وكتابة المالح: “كيف يرفض اليهودي الذي بنى فكرة وطنه على العودة إلى أرض الميعاد عودة الفلسطينيين الذين اقتُلعوا من أرضهم، أرض توجد في تاريخهم وذاكرتهم وحياتهم لا في أي وعد ديني؟”.
بالتالي عاش إدمون عمران المالح احتلال إسرائيل للفلسطينيين بوصفه “جرحا دينيا يجعله يقول باستمرار: أنا أحتاج إلى يهوديتي لأدافع عن الفلسطينيين”، وفق الأشعري، ثم استدرك قائلا: “في الوضع الذي نعيشه اليوم يهود العالم كلهم بمن فيهم اليهود المغاربة الذين لم يقوموا بهذا الشيء عليهم استعادة يهوديتهم للدفاع عن الشعب الفلسطيني وحقه في العيش بسلام في أرضه ووطنه؛ كما عاش إدمون عمران المالح قضية فلسطين ألما مغربيا، إنسانيا، كونيا، وبالأساس ألما يهوديا”.
فخورٌ بالمغرب
تحدث أندري أزولاي عن إدمون عمران المالح بوصفه “رفيق طريق، ومعلما”، “كان مضيئا، يضيء”، عبر الكتابات، والرؤية الفلسفية، والأدب، والرسم، والنضال، قبل أن يزيد: “كان ليسعد ويفخر بمغربه، لتكريمه”، وتابع: “كان لا يفضل الحديث عن اليهود المغاربة، بل المغاربة والمغاربة اليهود، وكنت أختلف معه في أولويات الوقوف عند التسميات في ظل تحديات أكبر (…) وكانت له حساسية جذرية، لم تكن سهلة دائما، لأنه كان دائما في الأمام، راديكاليا (…) وكنا نقول له إنه ينبغي أن يحترم وجهات نظرنا ومقارباتنا، التي قد تختلف عما أراده”.
ومن بين ما يختصّ به إدمون عمران المالح موهبته في الحديث “مثلا عن والتر بنيامين أو رولان بارت، ثم في الثانية التي بعدها يتحدث عما شاركه مع بائع نعناعه، في نفس مستوى أهمية الحديث وقيمته”، وفق أزولاي، وأضاف: “كان يقول لنا لست فيلسوفا للفلسفة بل فيلسوف للحياة (…). وأعتقد أن ما جعل موهبته ككاتب تكون على ما هي عليه ضخافة فكره، وقدرته على التخيّر”، مثل تفنّنه في الطبخ.
وبعد حديث عن “المكان الخاص للصويرة في فكر وعمل” إدمون، وتشبّثه بدفنه في مقبرتها القديمة حتى يكون لَحْدُه “قديما يشهد القرون والألفيات، ولا ينتهي بالموت”، ذكّر أندري أزولاي بالحياة الإيديولوجية للمالح، قائلا: “هو مناضل وطني كبير، من القياديين الأوائل للحزب الشيوعي المغربي… المدرسة الماركسية أعطته نوعا من التفكير وصرامة في فكره؛ ثم تصالح مع المغرب ومؤسساته بطريقة عقلانية، مسالمة، وواعية، ولم يكن ذلك بفعل مرور الوقت أو لعودته للبلاد أو لأنه أخطأ في ما قبل، بل كان كل شيء في مكانه، ووقعت تغيرات في وقتها المنطقي والمُراد”، وتابع: “عندما اقترحت على جلالة الملك الاعتراف بدور إدمون في ما عرفه المغرب قبل الاستقلال وبعده (…) ووشّحه في الصويرة حدثت محادثة ونظرات لخصت هذا المسار الطويل. لم يكن ذلك بروتوكوليا ولا مُعدا قبل، وكنت متأثرا كثيرا بالانسجام الذي أتى، وما فعله، ونقطة الوصول، وأن كل هذا تم في الصويرة”.
ثم استرسل المستشار الملكي: “نادرا ما كان بلدي مستعدا وواعيا ومنتبها لإعادة تملّك غناه وتنوعه وآخَريته، ولم يكن هذا سهلا ولن ينتهي بهذا. لم يعرف البلد لحظات أقوى، وأكثر تشاركا، ووعيا.. إعادة تملّك إرادية، عابرة للأجيال، في كل التراب، تجعل اليوم قلب القيادة التي تُمثلها البلاد في العالم، لا الغنى الاقتصادي أو شيء آخر، بل بهذا السبيل في التاريخ والواقع؛ الآخَرية”.
وشدّد أزولاي على أن “التنوع محرك مركزي لحداثتنا كمغاربة”، ولا ينبغي أن يكون لـ”يرضى عنا آخرونَ، أو ليعجب بنا أحد”، وزاد: “أمضينا وقتا كثيرا في هذا التمرين، وكان نوعا من التداوي الجماعي، لم يكن سهلا. التاريخ لم يساعدنا، وفترة الحماية زادت حدة عدم قدرتنا على تملك هذا التنوع، ونحن في سياق القرب والسَّفَر الطويل للإسلام واليهودية، الذي اعترضته عقبات كثيرة، وصراعات وشدائد بالمغرب وبعيدا عن المغرب، لكننا وصلنا”.
واستعاد المتحدث محادثاته مع إدمون قائلا: “في لحظات شَكّي كان يقول لي إن لم تصل سيصل أبناؤك وأحفادك، وسيفرضون الحقيقة على من أرادوا كتابتها بأسلوبهم، من أرادوا أن ينسوهُم كل أسس هذا التاريخ.. واليوم نرى لحظات تملك كبير وإعادة اللقاء والاعتراف بين المسلمين واليهود في البلاد، بطريقة خاصة غير مسبوقة، لهذه الرسائل المترسّخة عبر القرون”، وأردف: “ملكنا إلى جانبنا، ما يجعل المجتمع المغربي لا أقول نموذجيا، بل إن الحقيقة الاجتماعية يمكن أن تخدم بقليل من النور، في بحر عالمي عابر للقارات، يبحث عن مرجع في هذا المجال (العيش المشترك)”.
وتفاعلا مع ما قاله محمد الأشعري، حول فلسطين، قال أزولاي: “كنا منخرطَين في القضية الفلسطينية، أنا وإدمون، لكن ليس بالمقاربة نفسها”، وواصل: “في سنتي 13، في حفل بار ميتسفا الخاص بي بالصويرة، أتذكر ما قاله لي حاخامَاتي؛ ستصير رجلا، وستبقى يهوديا، وقلت له كيف؟ قال لي هذا سهل: اليهودية التي أعلمّكَ لها عقائد لحماية يهوديتك، هل يكون الشخص أمامك، وهو ليس يهوديا، يتمتع بنفس الكرامة والعدالة، وإن لم يكن كذلك فستفقد يهوديتك”.
وزاد المتحدث: “إذا أردت الحفاظ على يهوديتك الشخص أمامك ينبغي أن تكون له نفس العدالة والحرية والكرامة، وستشيخ براحة”، ثم قال: “الذي أمامنا هو الفلسطيني”، ومن هنا منبع إيمانه بحقوق الشعب الفلسطيني في دولته المستقلة وضمان حقوقه.
هذه الفكرة تلقاها أيضا من “حاييم الزعفراني، المؤرخ وعالم الاجتماع، ذي النضال الوطني، الذي كان معلّما بالصويرة، ففي دروسه كان يقول لنا نفس الشيء؛ هذه اليهودية، حمض نووي مغربي بقيم عالمية”، يورد أزولاي، ثم ختم حديثه باستثمار ما تعلّمه من لحظات عيشه مع المالح: “لم نربح كل المعارك، لكنه هناك مسار طويل لتملك المشروعية، والمستقبل، ولهذا لم أيأس. وكان له إيمان قوي جدا، بأن يكون البلد، عظيما قويا، وأننا كنا على الطريق الصحيح، لا يعني هذا أننا فزنا بكل شيء، بل نحتاج العمل الجماعي أكثر، ونحن نتغذّى برؤية إدمون عمران المالح لنعطي للمغرب فرصة، ولو رأى إدمون الشباب المغربي اليوم: عشرات الآلاف يقدمون لمعرض الكتاب لشراء الكتاب وزيارته والذهاب به للبيت، كان ليقول: كنت أعرف ذلك”.
المصدر: هسبريس