الأسود ، في الأدب والرواية والسرد التاريخي
وصف الأديب العراقي (ناظم عودة) الكاتب والروائي السوداني “أمير تاج السر” بالأديب الأسود ، فغضب (الأمير) (ود حي العرب بورتسودان) ، وسرت عدوى غضبه إلى الروائية السودانية “آن الصافي”…وانتفضت في وجه الدنيا .. كيف يصفه بالأديب الأسود؟! .
ربما قصد (ناظم عودة) بالأسود ، الانتساب لبلاد السودان ، وهذا أول ما يتبادر إلى الأذهان (المحايدة) ، لكن الذهن السوداني ، ليس محايدا تماما في كلمة (أسود) ، فالسودانيون فيهم من يعرف ب(خاطف اللونين) فهو غير أبيض تماما وغير أسود تماما، وهؤلاء مشاعرهم مثقلة بوطأة الألوان وتقسيماتها ، وذكرياتهم مليئة بأحاسيس معقدة .. فالسواد عند هؤلاء يتجاوز اللون في معناه المعطى المباشر ، إلى دلالته الخفية والمعلنة في أن الأسود هو (العبد المملوك) و(الخادم المملوكة) ، ولربما اشترك مع خاطفي اللونين من لم يحظ إلا بالسواد ، لكنه يميز نفسه بأن لديه أنف مستقيم وشفاه رقيقة وشعر أقل خشونة من حب الفلل ، لعل هذه الأوصاف تجعله أكثر أصالة ، أو تضعه في خانة تصنيف آخر أو جهة أخرى ، غير الجهة التي وصفها المتنبي ، بالسود الرعابيب.
ولكن هل سيكون الإنسان أكثر أصالة لو أستأصل جزءا من كيانه؟ وهل يستطيع أن يتخلص من الانتماءات المتعددة التي تتصارع (في داخله) في ما بينها وترغمه على اختيار بعضها واستبعاد الأخرى. يستطيع بعضهم فعل ذلك بسهولة ، والبعض الآخر يجد كل اختيار يستبعد الخيار الآخر ، أمرا مؤلما.
(الجاحظ) أديب العربية الأول ، عانى من تصارع هذه الانتماءات. والجاحظ كان أكثر الأدباء هجاء للسود ومدحهم في ذات الوقت ، فقد عاش في بيئة عربية شديدة العداوة للسودان ، وقد كان يشاركهم هذا العداء باعتباره عربيا ، ثقافة ولسانا وعنصرا ، وحاول محو كل ما يمت بصله ، لأهله (السودان) لكنه لم يستطع أن يمحو من جسده السواد الذي نقش عليه انتماؤه. ومع ذلك ظلت نظرته إلى السودان والزنوج لا تختلف عن معاصريه الذين يرون السودان والزنوج عبارة عن بهائم هائمة أو سباع متوحشة وهم عراة منتنون وحمقى لا يفقهون قولا إلا بقدر ما تفهم الدواب والبهائم. ولا يختلف (الجاحظ) عن أي عالم عربي قديم يظن أن أرحام الزنجيات جاوزت حد الإنضاج وأحرقت الأولاد. واستنكف أن يكون لقمان الحكيم نوبيا من بلاد السودان ، وزعم أن لقمان النوبي الوارد في حكايات الزنوج الشعبية ليس هو المذكور في القرآن.
يذكر الجاحظ أن جعفر ، ابن أخت واصل أنشد ابياتا في ميزات الفيل ، يشبه فيه الفيل بالزنوج : مثل الزنوج فإن الله فضلهم بالجود/ والتطويل في الخطب .. وتشبيه السودان الزنوج بالحيوانات استراتيجية بلاغية شائعة في الثقافة العربية الإسلامية .. عرف ذلك حتى عند الفقهاء والمفسرين ، فقد نقل القرطبي (في تفسيره) عن قتادة عن وصف الزنج : “حفاة عراة عماة عن الحق يتسافدون مثل الكلاب ويتهارجون تهارج الحمير”.
يرى كثير من الباحثين أن العرب استمدوا حكاياتهم عن السودان من خلال ما جاء في التوارة التي تحكي عن أن حام قد جامع زوجته في السفينة فدعا نوح أن يغير عليه نطفته ، فولد (كوش) أسود. وجاء في سفر التكوين ، ليكن كنعان (كوش) ملعونا ، وليكن عبدالعبيد لأخويه ، ثم قال : “تبارك الله إله سام . وليكن كنعان عبدا له . ليوسع الله ليافث فيسكن في خيام سام. وليكن كنعان عبدا له”. ومن ذلك تشكلت المرويات الرسمية التي حفلت بها كتب الفقه والسيرة عن الأسود وعن العبيد ، أما الأدب الشعبي أو المرويات الشعبية فقد تشكلت في منأى عن الثقافة المتعالية التي كانت تعنى أجمالا بأخبار الخاصة ، الأمر الذي أفضى إلى عدم العناية بهذه المرويات ، تدوينا ووصفا ، والمرويات الشعبية محل للذم والاحتقار والنبذ والاستبعاد من قبل حراس الثقافة (العالمة) والمتعالية .. واللافت للانتباه والجدير بالاهتمام أن اشتراك هذه المرويات الشعبية مع المدونات الرسمية في النظرة التي تستبطنها عن الأسود والسواد ، من خلال تجسيد السيرة الشعبية للرؤى العربية للأسود من خلال القصص التي كان أبطالها من السودان مثل “سيرة بني هلال” “وسيرة الأميرة ذات الهمة”، وسيرة “عنترة بن شداد”. والأمر الأكثر أهمية في ذلك أن هذه المرويات إضافة إلى كونها سردية وشعبية وشفاهية الأصل فإنها مجهولة المؤلف الفرد ، وهو ما جعل منها مرتعا خصبا لحضور المتخيل الثقافي الجماعي. فجماعية التأليف أو غياب صاحب النص هو بمثابة حيلة ماكرة يتم اللجوء إليها لتمرير تمثيلات المتخيل الانتقاصية عن الآخرين ، حيث يختفي صاحب النص ويبرز نصه ويتم تداوله كملك جماعي ، وهو ما يعطي للمتخيل فرصة للتعبير عن مكنوناته دون مراقبة أو مساءلة.
ومع ذلك لم تسلم الروايات الشعبية من تحريف حتى في عصر التعليم والتنوير ، فعندما اجتمع الأدباء العرب في الكويت عام 1959م حيث ناشد المؤتمر الأدباء العرب أن يعملوا على تعزيز قيم البطولة والتضحية في نفوس شباب العرب ، قام عمر أبو النصر بتنسيق وتهذيب سيرة عنترة بن شداد ، وحاول عمر أبو النصر أن يدقق في التنسيق والتهذيب نسب عنترة بن شداد الذي كان يجد مشكلة في النسب من جهة أمه الحبشية ولكن عندما عرف عنترة أن أمه زبيبه ابنة أحد ملوك الحبشة أدرك أبوه سر هذه الشجاعة التي لا توجد إلا عند العرب وبذلك اكتمل الشروط التي تؤهل عنترة ليكون من سادات العرب ، ويرسم عمر أبو النصر صورة لعنترة لا بوصفه أسود له أصول سودانية بل بوصفه بطلا عربيا أصيلا ، كما أن عنترة نفسه لم يتطلع إلا إلى هذه الغاية وهي أن يكون عربيا ، وسيدا من سادات العرب ، لا أن يكون أسود مكتملا من حيث الشرف والبطولة.
والسودان ، أو الأسود منتشر في البلدان العربية التي حاولت استبعاده منذ عهود غابره ، مقاومين قيم وتعاليم الدين التي جاء لمناهضة هذه الجاهلية. ورواية الكويتية سعداء الدعاس (لأني أسود) واحدة من الكتابات التي تضع القارئ أمام (الوعي الزائف) فالوعي لا يكون كاملا وبصيرا ما لم يكن القلب طاهرا غير متسخ بالأحقاد والعقل صافيا غير ملوث بالعنصرية. حاولت سعداء أن تجعل من القارئ شريكا في صناعة مأساة (جمال). (لأني أسود) الفائزة بجائزة الدولة التقديرية للعام 2010م وهي حكاية الشاب الكويتي الأسود فوزي الذي يذهب إلى الولايات المتحدة في بعثة دراسية ، وهناك يلتقي فتاة أميركية «سمراء» يحبها وتحبه ثم يتزوجها فينجب ولداً اسمه جمال. ذلك الولد هو من نلتقيه في بداية الرواية سارداً وشاهداً بعد أن غدا شاباً عاد إلى الكويت مع أمه بعد وفاة والده ومن هناك يروي قصة والده وقصته هو مع أمه ومع أهله الكويتيين. وجمال يولد كوالديه ، بخاصة أبيه ، أي أسود يحمل إرث المعاناة التي حملها والده من قبل. وتتضح تلك المعاناة حين يقع هو في حب فتاة كويتية تحبه هي أيضاً ، وحين يفكر بالزواج منها يصطدم بالرفض المتوقع. تدفعنا الرواية نحو حب جمال ووالده والتعاطف معهما ومع المأساة التي يعانيانها مع غيرهما ممن يمارس ضدهم تمييز عنصري اجتماعي واضح وظالم.
تحاول رواية (سعداء الدعاس) مقاوم العثرات والتحيزات الكامنة في العنصرية بشجاعة فهو موضوع في غاية الحساسية غاية الحساسية وقضية في غاية الأهمية ، تفعل ذلك في لغة جميلة آسرة. تسأل جوان فوزي: «في الكويت ينعتونك بالعبد؟» فيجيبها: «كل أسود في الخليج هو مشروع عبد يا عزيزتي .. وكل من ينعتنا بذلك يردف: «كلنا عبيد الله» .. هكذا ظنوا أنهم يخدعون الله … يدعون سواسيتنا أمامه ، وفي داخلهم قرروا أن السود وحدهم عبيده!» ويطال النقد الحضارة الغربية في أميركا وفي غير موضع ، منها تساؤل الأميركية «السمراء» جوان : «لماذا كل الخدم في الأفلام سود.. لماذا كل السود في الأفلام خدم؟» . وكما يتساءل كثير من السودانيين لماذا البوابون في الأفلام المصرية جمعيهم سود؟! .
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة