رحلة أميليا إيرهارت وفريد نونان لمطار الفاشر عام 1937م
عبدالماجد عباس محمد نور عالم
كَانَت الفاتنة الشَّقْراء مُنهمكَة تَقلُّب نظرهَا بَيْن الأوْراق والرُّسومات الطُّبوغْرافيَّة ، ومقارنة إِيَّاهَا بِالْخرائط الكنْتوريَّة وتسجِّل مُلاحظات عليْهَا بِقلمِهَا ثم تقُوم بِحساباتٍ وقياسات ، تُدَونهَا بمُفكِّرتهَا الملْقاة بِالْقرْب مِن المفكَّات والصَّواميل والْبراغي المتناثرة حوْلهَا . . . هِي لا تُلْقِي بالاً لِلرِّيَاح الخفيفة اَلتِي تُدَاعِب خُصلات شِعْرهَا الذَّهبيَّة المموَّجة كأشععات القمر ، اللَّامعة بِسَطح بِرْكَة مُعَكرَة بِالطِّين وَمَاء المطر . . الرِّيَاح الخفيفة وَذَرات اَلغُبار المعلَّقة بِالْهواء تُعْلِ أنَّهَا سَيدَة المكَان وملكتهَا المتوَّجة فِي هذَا الفصْل مِن الزَّمَان بِهَذا اَلموْسِم ، ولَا تُبَالِي بِأيِّ شَيْء إِذ تُمَارِس غوايتهَا وهوايتهَا وسُلْطانهَا العاصف بِالنَّزوعات وبالرَّغْبات وبالثَّوْرات ، وللرِّياح وللغُبار طَيْش الهوى وحنين النَّوى المشْتاق اَلمُسهد بِالْحَرْق والصبابات والْجَوى . . . وشَهْر يُونْيو المصْتلي بِجَمر التَّحَرُّق والتَّوهُّج يُفرِّغ كُلُّ حرارَته وَيعرْبِد غُبَاره فِي الأرْجاء ويحْشد كُلُّ طُقُوس البراكين وينْفخهَا زفير مُكدَّس بِالتَّحرُّق والضَّجر ، وإميلْيَا إِيرْهارْتْ مَشغُولة بِالْخرائط ، ولَا تُبَالِي بِهَا ولَا بِنظرَات ذَلِك الشَّابِّ المسْتهام بِالْحنين وبالْغرام ، وَهُو يُشَاغِب عمْدًا بِالْقرْب مِنهَا ، هذَا الشَّابِّ هُو رفيقهَا بِهَذه الرِّحْلة وَزوجِها ورفيق أُنسِها وَعمرِها ومُهنْدِس الطَّائرة اَلذِي لا يَزَال يُشَاغِب بَعْد أن أَكمَل مَهَام مُرَاجعَة مُحركَات الطَّائرة وَجَهزهَا لِلْإقْلاع ، لِذَا يَقِف خلْفهَا في انتظارٍ وَشغَب لإِذْن زَوجَتِه قبْطانه السفرية . . . بدأ مَطَار فُورْتْ لَامِي في هَذا الصَّبَاح اَلْحار مِن يُونْيو ، وهِبَات الرِّيَاح الخفيفة يَرمُق الطَّائرة بَجفُون نعْسانة وَخامِلة ، وَلَكنَّه يُعْلِن وبصوْته المُتَكسر بالتَّثْأب ويصرِّح بِأنَّ هَذِه الرِّيَاح لَا تُعيق الإقْلاع والْملاحة والسَّفر..
الطَّائرة على اَلمُدرج تَنفُخ أوْداجهَا تَستَعِد لِلْإقْلاع مِن السُّودان الفرنْسيِّ إِلى السُّودان الإنْجليزيِّ فِي رِحْلَة تَحظَى بِعيون العالم المفْتوحة المنْتبهة مع الاهْتمام الكامل لِمسار هَذِه الرِّحْلة فِي هذَا اليوْم الموافق : 12/06/1937، المنْطلقة مِن مَطَار فُورْتْ لِأمِّيٍّ ، العاصمة التِّشاديَّة ، والْمتوجِّهة إِلى مَطَار الفاشر ، عَاصِمة مُديرِيَّة دارْفور . تَقدُّت إِميلْيَا إِيرْهارْتْ وَهِي تَرتَدِي بِنْطَال جِينْز وقميص أَزرَق دَاكِن تَسلقَت السِّلْم لِجناح الطَّائرة . Lockheed Electra 10E Special, NR16020. ، ثُمَّ جَلسَت فِي قَمرَة القيادة فِي اِنتِظار الإذْن بِالْإقْلاع . . . بُرْج المراقبة يُعْطِي الإشارة لِلطَّائرة فترْتَفع رَغْم العواصف وهباتهَا اَلتِي تَقاوَمها وَكُل مَا اِرْتفَعتْ تَحررَت الأجْنحة مِن سَطوتِها وَهَكذا اِستمَر الطَّيران لِمَا يزيد على الثَّلاثة ونيِّف والْمحرِّكات فِي صهيل دَائِم إِلَّا مِن اِرْتجاجات خَفِيفَة بِبَدن الطَّائرة بِفعْل مَطَبات الرِّيَاح وأخيرًا ظهَرت مَلامِح بُيُوت مُتناثرة بالأسْفل وسط الكثْبان الرَّمْليَّة الممحلة لِتبدُّد رَتابَة المشْهد وَتبُث فِيهَا دِفْء الحيَاة برَغْم الجفَاف والتضاريس الوعرة والقاسية بَدأَت الطَّائرة بِالْهبوط التَّدْريجيِّ إِلى أنَّ اِسْتقَرَّتْ بِأرْضِيَّة المطَار . . . نمتْ شُجيْرَات صَغِيرَة مَلْسَاء غَزِيرَة اَلفُروع وتْتمدْدتْ لِتشكِّل طوْقًا وحزاما لسورَا يُحيط بِمهْبط الطَّائرات . . . يَبدُو أنَّ هَذِه الشُّجيْرة قد غَرسَت حديثًا ومع بِدايَات مَوسِم المطر بِهَدف أن تَنمُو وتكْبر مع فَصْل اَلخرِيف وَهطُول المطر بِهَذا اَلْعام عام 1937م وهَا هُو السُّور بدأ يَتَشكَّل مُعَلمه كسِياجٍ أَخضَر بهيج مُزَينٌ بِشجيْرات (التَّنَضب) ليسْتقْبلك مِن باب الدُّخول الرَّئيسة ويأْخذ بِيديْك على الممرَّات المضْفورة أرْضيَّاتهَا بِالطُّوب الأحْمر والْمحْفوفة بِإنْصَاف الطُّوب اَلمطْلِي بِالْجِير اَلأَبِي ، وقد صَنعَت أحْواضًا بَدِيعَة على طُولهَا ، وقد غَرسَت فِيهَا وَرَدات مِن الونَكة عباد الشَّمْس ، والرَّيْحان
هبطتْ طائرتنا القادمةُ منْ فورتي لأمي ، وسطَ اهتمامٍ كبيرٍ ، واستقبال حاشدٍ منْ الموظفينَ الإنجليزيِ فبالمطارِ ما يشبهُ الاحتفالُ الرسميُ لهذهِ الرحلةِ وقدْ جذبتْ اهتمامَ العالمِ المتقدمِ حينذاكَ . . . وهكذا وصلتْ أميلي إيرهاتْ لمطارِ الفاشرْ في ذاتِ نهارٍ صيفيٍ وخريفيِ الملامحُ والقسماتُ منْ شهرِ يونيو الموافق: 12/06/1937، وها هيَ الآنَ تمددتْ شعرها وتعدلُ منْ هندامها وتختلسُ نظرةٌ في مرايةٍ صغيرةٍ تحملها في حقيبةِ يديها التي لا تفارقها في أيِ مكانٍ فسطعَ بدرُ وسطِ المقابضِ والمكابحِ وعداداتِ كابينةِ القيادةِ ، وكأنها وردةٌ نمتْ بينَ جامدٍ الصخورِ . . . هيَ الآنَ أكملتْ هندامها وكتابةَ تقريرها الفنيِ لهذهِ الرحلةِ تصفُ مسارها وخطُ سيرها الملاحيِ إذ هيَ قبطانهُ الرحلةِ وكان تقرير الرحلة كالآتي:
《12 يونيو 1937: الجولة 14.
NR16020
. إميليا إيرهارتْ وفريدْ نونانِ يطيرانِ بالطائرةِ Lockheed Electra 10E Special, NR16020. ، منْ فورتْ لامي في أفريقيا الاستوائيةِ الفرنسيةِ ، إلى الفاشرْ ، السودانُ الإنجليزيُ المصريُ ، مسافةٌ 609 ميلاً بحريا (701 ميلًا قانونيًا/1129 كيلومترًا)
استغرقتْ معالجةَ التسربِ في إحدى دعاماتِ جهازِ الهبوطِ في طيارةٍ إلكترا عدةِ ساعاتٍ . وبسببَ ذلك كانت البدايةِ المتأخرةِ ، حددنا هدفُ رحلةِ ذلكَ اليومِ إلى الفاشرْ ، في السودانِ الأنجلو مصري . ومعَ هبوبِ رياحٍ لاحقةٍ ، تمكننا منْ قطعِ الرحلةِ إلى ما يزيدُ عنْ الثلاثةِ ساعاتٍ . كما كانَ متوقعا ، وبفضلِ حرارةِ النهارِ التي لحقتْ بنا ، كانَ الطيرانُ وعراً بشكلٍ خاصٍ ، معَ وجودِ منطقةٍ مقفرةٍ بشكلٍ ملحوظ أسفلنا .
إميليا إيرهارتْ ?
مرجعُ هذا التقرير هوَ :
(مكتبات جامعة بوردو ، الأرشيف
أميليا إيرهارت لوكهيد إلكترا 10E NR16020 في الفاشر السودان الإنجليزي المصري ، 12 يونيو 1937م.
《 والمجموعات الخاصة》
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة