احتفاء بسعيد يقطين .. “عراب البنيوية” ينال العناية في المعرض للدولي للكتاب
بإدارة من الأكاديمي والجامعي محمد الداهي، احتفى لقاء “متوجون” ضمن فعاليات الدورة التاسعة والعشرين من المعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط بالأكاديمي و”العصامي” سعيد يقطين، حول “السرديات العربية: دهشة المثاقفة وجرأة التموقع الثقافي”، كعرفان لرجل قدم “عقودا من البحث الأكاديمي لفائدة الدراسات النقدية المغربية”، ورفعها إلى مصاف الدول التي من حقها أن “تحتكر” سردية ثقافية تخصها في مجال الأدب.
“مازلت بنيويا”
بعد أن تقدم جميع المتدخلين في هذا اللقاء بكلماتهم، تناول سعيد يقطين الكلمة، ليعتبر أن “المسار متواضع، لكونه ما زال طويلاً، وأضاف: “يمكن أن أسمّي مداخلتي بـ”إمبراطورية السرد”، ونحن نعرف أن السرديات ظهرت في المرحلة البنيوية، وشأن هذه الإمبراطورية هو شأن غيرها؛ أنها تبدأ بفكرة ثم تحاول أن تستولي على أراض أخرى وتنفتح على مجالات متعددة. هذا هو المبدأ الذي تركز في ذهني خلال المرحلة البنيوية، وهو أننا أمام تفكير جديد في الأدب”.
وقال الناقد، الذي احتكم أساساً في اشتغاله إلى ما تتيحه البنيوية، إن “الأخيرة كانت إبدالا جديدا في تاريخ الفكر الإنساني (…) وأنا أعتبرها وضعية جديدة تسعى إلى تطوير البحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية بدراستها دراسة علمية”.
وزاد “عراب” هذا الحقل في الدراسات النقدية المغربية: “كان هذا هو المبدأ؛ والعالِم لا يطرح إلا السؤال الذي يستطيع الجواب عنه، ويبدو لي أن هذا هو المبدأ أو الأساس الذي تمكنت من استيعابه من خلال البنيوية”، لافتا إلى أنه “لم أكن أتعامل مع البنيوية على أنها منهج نقدي مثلما فعل كثير من جيلي ومن معاصري في الوطن العربي على أن البنيوية منهج أدبي”.
وأورد المحتفى به في لقاء “متوجون”: “أنا لم أخرج من البنيوية. ما زلت بنيويا. وما زلت أشتغل منطلقا من الخلفية العلمية، وأعتبر أن ما بعد البنيوية هو مجرد سيرورة تطور”.
وفي هذا الصدد، عرض يقطين فوائد التمسّك بالبنيوية: “هذا فتح لي مسارات؛ أولها المسار المنهجي، انطلقت من سؤال: هل المناهج التي نتعامل بها ذات خلفية علمية أم غير علمية؟ وظهر لي أن كلّ الممارسات التي كنا نشتغل بها لا علاقة لها بالعلم، وكان السؤال المنهج هو المركزي بالنسبة إلي، ونحن عندما نبدأ الحديث عن المنهج، فنحن سندخل إمبراطورية العلم وليس إمبراطورية التخييل والتأويل”.
وزاد: “هذا ما كنا نمارسه في مرحلة النقد الاجتماعي والإيديولوجي، بحيث كانت عندنا خلفية معرفية جاهزة، وننطلق إلى النص، ونقول إننا نمارس النقد الاجتماعي؛ وأنا كنت ضد هذا التصنيف، وحتى عندما تعاملت أو اطلعت على كتابات لوسيان غولدمان قلت بأننا كما أننا لم نفهم الاشتراكية العلمية لم نفهم البنيوية التكوينية”.
وعدّ يقطين تصوره المنهجي يواصل الوقوف على الجهة النقيض للتصور السائد الذي لا يزال “مسيطراً للأسف الشديد، وهو أن النص الأدبي هو الذي يفرض المنهج”، مستدركا: “في تصوري ليس النص الأدبي هو الذي يفرض المنهج؛ ولكن الباحث هو الذي يخلق الموضوع الذي يشتغل به، وهناك أساطير متعددة مهيمنة حاولت الحديث عن هذا الجانب”.
ومرّ المتحدث نحو المكسب الثاني وهو أنه اكتشف ثغرات في الممارسة النقدية العربية وهي التي حاولت أن يشتغل بها وعليها، خصوصا في نظرية الأجناس الأدبية، “فمن جورجي زيدان إلى أدونيس، اكتشفت أن الجميع يجمع على أن الشعر العربي شعر غنائي وأنه ليست عندنا ملحمة وليست عندنا دراما، إلخ، كنا نأخذ نظريات جنسية جاهزة ونحاول أن نطبقها على النص الأدبي في سياقنا”.
“مثقف موسوعي”
المترجم والأكاديمي مصطفى النحال قال إن تتويج يقطين “مستحقّ بإطلاق”، وهو “عربون على تاريخ الاجتهاد وتاريخ الكتابة والتفكير في مجال السرديات بصفة عامة”، مؤكدا أنه مدين للرجل بالكثير من الأفكار؛ منها “أنه من الأوائل الذين فتحوا أعيننا على الإمكانات الجديدة التي تنطوي عليها مناهج التحليل السردي الحكائي من خارج المناهج ذات الأفق التاريخي أو الاجتماعي أو البنيوي التكويني، وغيرها من المناهج التي كانت دائرة في بداية ثمانينيات القرن الماضي”.
ولفت النحال، في كلمته التي تكتنز الكثير من “المحبة الفكرية”، إلى أن “المُتوّج يشعرك دائما بأنه صديقك قبل أن يكون أستاذك، يفكر معك ويقترح عليك آفاق جديدة للتحليل والقراءة”.
وزاد: “كنت دائما وما أزال أرى في سعيد يقطين نموذج الناقد والباحث المجدد الذي لا يطمئن إلى السائد والساكن، ولا تستلبه التقليعات النظرية التي تعبر مشهدنا الثقافي والأدبي من حين إلى آخر”.
وردّ المترجم هذه الحقيقة عن يقطين إلى “طبيعة اشتغاله وعصاميته، التي هي عصامية من داخل تكوينه وليس عصامية عامة. ويعود كذلك إلى نوعية أعماله البحثية والنقدية التي استطاعت أن تؤسس لها مسارات علمية غير مسبوقة، كما أنها تخترق مجال النقد العربي برؤية منهجية واضحة؛ وذلك عبر دراسة نصوص أدبية وروايات ومحكيات قديمة وحديثة، وتحليلها بإتقان كبير، أي بالمنهج العلمي المستخدم أو المواد الأدبية المدروسة”.
وتابع شارحاً: “منذ كتابه “القراءة والتجربة.. حول التجريب في الخطاب الروائي الجديد بالمغرب”، والذي درس فيه المكونات البنيوية للخطاب الروائي المغربي الجديد، أصبح من أوائل النقاد الأدبيين العرب الذين جاؤوا مباشرة بعد موجة النقد المستند إلى المرجعيات السوسيوثقافية لمقاربة النص الأدبي، واستطاعوا أن يبثوا حياة جديدة في النقد المغربي والعربي بصفة عامة”.
وأوضح: “قام بذلك ليس باعتبار النقد ممارسة معيارية أو ممارسة لإصدار الأحكام، بل بصفته وصفا وتحليلا وتأويلا، أي بصفته ممارسة علمية وبحثا منهجيا ينطلق من أطر ومرجعيات دقيقة في حقل السرديات بصفة عامة”.
وزاد: “لذلك كان اشتغاله ينهض على ثوابت عملية ناظمة يمكن تلخيصها في قراءته المبكرة والمنتظمة والموسوعية لتراثنا السردي العربي الغني والمتنوع أفقيا وعموديا. ويتجلى ذلك في كتابه “الرواية والتراث السردي.. من أجل وعي جديد”.
وتطرق النحال في شهادته إلى ما أسماه “القراءة المبكرة والمنتظمة الموسوعية لنظريات ومناهج الأدب السردي، التي كشف عنها يقطين”، وكذلك “احتكامه إلى النصوص بالأساس في توصيفها وتحليلها وتصنيفها ومفهمتها، أي تصنيفها تصنيفا أجناسيا من داخل النصوص لا من خارجها”، فضلاً عن “شجاعته على شق طريق ثالث في اقتراح المصطلحات والمفاهيم وصونها في الأفق النصي دائما.
وحسب المتحدث، فإن يقطين لم يستكن إلى التصورات التي تقيم فروقا مصطنعة بين نص قديم ونص حديث؛ فالإشكال دائما بالنسبة له ليس زمنيا حين يتعلق الأمر بنصوص قديمة زمنيا بقدر ما هو منهجي مرتبط أساسا بتطور المقاربات والمناهج وأدوات التحليل.
“عراب البنيوية”
إدريس الخضراوي، جامعي وأكاديمي، هنأ يقطين بالتتويج المستحق؛ “بالنظر إلى المشروع الذي استطاع أن يبلوره منذ أواسط الثمانينيات وما زال يوسعه ويغنيه ويفتحه على آفاق جديدة تساعده على فهم الظاهرة ليس في المغرب وحسب وإنما في العالم العربي”، مؤكدا أن “هذا المشروع الذي شكل بالنسبة لجيلي منعطفا أساسيا، بكوني كنت محظوظا بالتلمذة على يدي سعيد يقطين. خلال منتصف التسعينيات بكلية الآداب بالرباط”.
ولفت الخضراوي إلى أنه يتذكر هو وزملاؤه في تلك الفترة كيف كانت أعمال سعيد يقطين وكيف كانت الحركة البنيوية في المغرب في هذه المرحلة بمثابة التيار الذي يأخذ معه الكثير من الباحثين، مؤكدا: “وقلما نجد باحثا أو دارسا أو طالبا يعد بحثا للإجازة في هذه المرحلة دون أن تحضر في بحثه كتابات يقطين، كتاب “القراءة والتجربة” وكتاب “تحليل الخطاب الروائي”، الذي كان في تلك المرحلة وما زال كتابا أساسيا”.
وأشار الأستاذ الجامعي إلى انتعاش البنيوية في هذه المرحلة في منتصف الستينيات في فرنسا، وحضورها بقوة في الجامعة الفرنسية، وأوضح: “يمكن أن نلاحظ أن هذه المقارنة تنطبق على الجيل الذي أنتمي إليه ممن تتلمذوا على يد سعيد يقطين أو تتلمذوا عليه بطريقة غير مباشرة من خلال أعماله ومؤلفاته في حقل السرديات”.
وزاد إدريس الخضراوي: “من هذا المنطلق، أعتبر أن جهوده مركزية وأساسية؛ ليس فقط فيما يتعلق بالأدب في المغرب، وإنما أيضا في العالم العربي”.
وربط المتحدث فهم هذا المشروع، الذي أسهم سعيد يقطين في بلورته منذ أواسط الثمانينيات وصولا إلى هذه المرحلة، بـ”الاعتماد على الأعمال التي كتبها”.
وفي هذا الصدد، أفاد المتدخل عينه: “لفهمه على نحو أفضل، يتعين أن نضع مجهوده في إطار الحقل الثقافي المغربي أو ما يمكن أن نسميه بالمؤسسة الأدبية في المغرب”.
وتابع الناقد الأكاديمي ذاته: “هنا، أريد أن أتحدث عن هذا المشروع انطلاقا من المؤسسة الأدبية في المغرب التي بدأت في التشكل في بداية الستينيات على أيدي مجموعة من الأساتذة الرواد وهم كانوا أساتذة له، حيث كان مفهوم النقد المغربي يتشكل أول مرة وكانت الدراسات الأدبية تتضح من خلال جيل من الأساتذة الباحثين الذين كان لهم دور مهم جدا في إرساء أسس الدراسات الأدبية في هذه المرحلة وصقل الحقل النقدي والأدبي المغربي على مفاهيم وتصورات جديدة”.
المصدر: هسبريس