لم تكن المقهى وليدة بداياتنا، نحن الذين تعرّفنا على الأدباء والفنانين في مقاهٍ مثل حسن عجمي وأم كلثوم والشابندر والجماهير… كانت تلك المقاهي آخر ما تبقّى من الأجيال السابقة بعد أن عُرفت قبلها مقهى المعقدين والبرازيلية والزهاوي وغيرها الكثير من المقاهي التي بدأت تنتهي مع أواخر التسعينيات حتّى ما بعد العام 2003 لتأخذ المقهى شكلاً آخر وبدأت تتحوّل من مقاهٍ خاصة بالأدباء والمثقفين والفنّانين والمهتمين بالشأن الثقافي، حتَّى أصبحت كافيهات يرودها فاشينستات وباحثون عن الشهرة بعد نشر صور في وسائل التواصل الاجتماعي.
التحوّل الذي طرأ على المقهى جاء نتيجة للتحوّلات الاجتماعية والسياسية التي طرأت على البلد. فبعد أن كانت الصحافة على سبيل المثال مكاناً لمعرفة المستجدات الثقافية، والسياسية، والاجتماعية، وبعد أن كان صحفيو جريدة الجمهورية مثلاً يلتقون في مقهى الجماهير أولاً، وفي ما بعد في مقهى حسن عجمي، أصبح الفيسبوك ملتقاهم، وما يودّون إبلاغه يكون عن طريق الانستغرام وليس في جريدة يومية لها متابعوها.اشتهر العراق، منذ بداياته، لاسيّما بغداد، بمقهاهٍ عدّة كانت منتديات وصالونات ثقافية مفتوحة، تخرّج فيها أدباء، وكانت كافية لإنتاج أجيال مثقفة ومنتجة.. فما الذي تغيّر في المقهى وثقافته؟ وهل ما زالت هناك مقاهٍ بهذه الصور الثقافية؟ التوق إلى الألفة يروي القاص حسب الله يحيى أنَّه حين كان يأتي من الموصل إلى بغداد في الستينيات، لا يقصد قريباً عزيزاً ولا يُلقي بحقيبته في فندق ما؛ وإنَّما كان يقصد (مقهى المعقدين) في الباب الشرقي بوصفها المقهى الأكثر حضوراً للأدباء والمثقفين والفنانين. مضيفاً: “هناك لابدَّ أن أجد أكثر من شخص أتوق إلى رؤيته بعد أن كنت ألتقيه من قبل أو قرأت له ما يسر وينبّه. وقد تقودني قدماي إلى حانة قريبة تحمل اسم (كاردينيا) عندما لا أجد من أبحث عنه في المقهى حيث أجدهم حينئذٍ في تلك الحانة.. إنَّهم من أبناء جيلي الذين يهمني اللقاء بهم وتبادل الحديث معهم، فهم الأقرب إليَّ من كل من أعرف من الأقارب والأصدقاء، إنَّهم الجيل الذي يفهمني وأفهمه وأتبادل معه الحوار”. ويكمل: وقد أتجه إلى شارع الرشيد لألتقي هناك نخبة يقال عنها إنَّها برجوازية وهي من روّاد (مقهى البرازيلية) بوصفها مكان الأدباء والفنانين الذين حباهم الله بقدر من ضمان العيش الآمن والسعيد والوظيفة الضامنة والتقاعد المجزي. إلَّا أنَّ جيبي لا يسعفني في ارتياد حانة (كاردينيا) في كثير من الأحيان وكذلك الحال في (مقهى البرازيلية) عندئذٍ أتجه جنوب شارع الرشيد إلى مقاهٍ رخيصة للصحفيين في الغالب حيث أجدهم في مقاهي (حسن عجمي، والبرلمان، والشابندر) وهي مقاهٍ قريبة إلى طبيعة عملهم الصحفي في (جديد حسن باشا). وبحسب يحيى، فإنَّ الأمور اختلفت الآن ولا يجد صاحب (مقهى الشابندر) وهي في قلب شارع المتنبي شارع الثقافة والمثقفين سروره العذب إلَّا في أيّام الجمعة، حيث يلتقي الأدباء والمثقفون الذين يرتادون المقاهي فيما الأيام التالية يعاني المقهى من فراغ! في حين تحوّلت (مقهى حسن عجمي) إلى مكانٍ لمن ضاقت بهم الأرض فقراً وهامشية، فيما أقفلت (البرازيلية والبرلمان) أبوابهما لتصبحا أماكن تجارية.. ولا أعرف إلَّا قلّة من الأدباء ممّن يقصدون (مقهى الجماهير) في الباب المعظم! الآن شاخ جيل الستينيات، فالكثرة منهم قد رحل والبقية ينتظرون في أحسن الأحوال، وقد يقصد بعضهم (مقهى رضا علوان) أو (قهوة وكتاب أو الثقافة للجميع) إلى جانب جيل جديد من الأدباء والمثقفين والفنّانين الشباب يقصدون هذا المكان الراقي (الكرادة) في بغداد، أمَّا القسم الآخر والأكثر بروزاً، فهو الانشغال بالكتاب وما يضفيه من عزلة والجهاز النقّال وما يعطيه من تسلية ومتعة وعلاقات.. خلاصاً من معاناة المواصلات وزحمة الطرقات وثقل الحياة. مقاهٍ للمظاهر في حين يشير الشاعر والمترجم محمد تركي النصار إلى أنَّ علاقته بالمقاهي الثقافية تمتدُّ إلى نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضي، فـ”بعد إكمالي للدراسة الإعدادية بدأت بالتردّد على مقهى البرلمان في بداية شارع الرشيد مقابل جامع الحيدر خانة، حيث تعرفت على عدد كبير من الأدباء أذكر منهم خزعل الماجدي وعبد الزهرة زكي وحميد قاسم وسلام كاظم وزاهر الجيزاني، كان الانطباع الأول مزيجاً من الدهشة والشغف بالنسبة لشاب يافع كان مسكوناً بقراءة السيّاب والبيّاتي وشعراء المهجر وروايات دار التقدّم والشعر الفرنسي، وإذ أستعيد الآن تلك اللحظات الأولى ينتابني الإحساس بالخشوع ورهبة المكان الذي كانت تحوم حول جدرانه أرواح الأسماء الأدبية الكبيرة والمهمة بكلِّ ما انطوت عليه عقود الستينيات والسبعينيات تحديداً من روح التحدّي والمغامرة واضطرابات الواقع السياسي ومخاضاته المركّبة التي يطول الحديث عنها. ويضيف: ما أريد أن أركّز عليه هنا هو أنَّ الهمَّ الثقافي والشغف بالقراءة والأدب كانت تمظهراتهما وتجلّياتهما واحتداماتهما لصيقة بشكل أصيل بالمقاهي الأدبية، وليس شرطاً أن تكون شاعراً أو قاصّاً أو روائيّاً أو ناقداً لترتاد الأماكن تلك، لكن من المؤكد أنَّ الغالبية الأعظم من مرتادي تلك المقاهي هم قرّاء وأصحاب هم معرفي أو سياسي أو الاثنان معاً، ولم يكن ارتياد تلك المقاهي لمجرّد تزجية الوقت واللقاء الاعتباطي مع حشود شبحية لا تجمع بينها مشتركات الوعي والذوق الأدبي والحلم بعالم أفضل كما يحصل هذه الأيام. يمكن القول إنَّ مقاهي اليوم حتَّى لو سعى أصحابها لتحويلها إلى ما يشبه المنتديات الثقافية بنشاطات وقراءات شعرية ونقدية لم تعد تتوفّر إلَّا على قدر شحيح جدَّاً من تلك الروح التي امتلكتها على مدى عقود سابقة تلك المقاهي الأولى التي أذكر منها مقهى البرلمان وحسن عجمي والبرازيلية والمعقدين وسواها. إنَّ البدائل التي وفّرتها الانفجارات التقنية وثورة الإنترنيت بكلِّ ما توفّر للإنسان من حرّية معرفية وخيارات كبيرة جدَّاً وتحديث دائم وانقلابات متسارعة أسهمت كلّها في الحلول محلّ ذلك الشغف بتلك المقاهي السحرية حيث كانت تمثّل مكاناً مصغّراً لتلقّف الأخبار وتبادل الآراء وتحديد بوصلة الحلم، وببساطة يمكنني أن أقول إنَّ تلك المقاهي كانت تمثّل عنواناً ومركز جذب ومكاناً للنشاط الروحي والتجلّيات الأدبية بما توفّرت عليه من تقاليد وأسماء مبدعين كبار في مختلف حقول الإبداع. في حين يرى النصار أنَّ مقاهي اليوم من وجهة نظره صارت أمكنة للدخان والضجيج والثرثرة وتلقّف الشائعات واللقاءات العابرة بين غرباء أو أصدقاء يلتقون مصادفة أو ربَّما مرَّة كلّ بضعة أسابيع أو أشهر. وحتى ما يقام أحياناً من نشاطات أدبية، فيها يقترن في كثير من الأحيان بما هو اجتماعي تغلب عليه المظاهر والاستعراضات السطحية ويفتقر إلى مقوّمات الشد والجذب الأصيلين اللذين كانا أهم ما يميّز مقاهي أيّام زمان. من المقهى إلى الكافيه ويكشف الفوتوغرافي صباح والي عن أنّهم الجيل الذي شاهد المقاهي التي كانت تجمعنا كلّ يوم تقريباً، التي عشنا تجربتها الذهبية في الثمانينيات وعشناها كونها متنفّساً في التسعينيات، وشاهدنا أفولها بعد التسعينيات. وتذكّر أنَّ ذلك ليست نوستولوجيا، ولكنَّها واقعية الدخول في عصر الميديا والعولمة. المقهى بشكلها القديم لن تعود بسبب التغيّرات الاجتماعية وتنامي شكل المدينة بشكلها الحديث، لذلك فإنَّ الكافيهات ليست بديلاً عن المقاهي وظهورها عجّل كثيراً باختفاء المقهى بشكلها القديم. فلا يمكن مقارنة ما تبقّى من مقاهٍ لغاية الآن بمقاهي العقود السابقة. ويبين والي أنَّ المقهى بشكلها القديم مكان رجولي بامتياز، عالم الرجل وأحاديثه وعوالمه وألعابه، كان غريباً وجود العنصر النسوي. وتلك خاصّية عجّلت بنهايته، بعد الانفتاح الاجتماعي انزوت المقهى القديمة في الأحياء لتؤدّي دوراً محلّياً، واختفى بذلك دورها السابق من أن تكون مكاناً يضمُّ مختلف الفئات، ليقوم محلّها الكافيه الذي يختلف دوره تماماً عن دور المقهى. المقهى بمعناه مكان ثقافيّ انحسر دوره تماماً، وربَّما اختفى تماماً. ولا يستطيع مقاومة الميديا ولا حضورها. ظاهرة مدينية من جانبه، يبين الشاعر محمد كاظم أنَّ المقاهي الأدبية شكّلت ظاهرة ثقافية مدينية مهمّة، استقطبت الكثير من الأدباء الذين يجدون في فضاءاتها متنفّساً للحوارات المنتجة ومكاناً مناسباً لقراءة الصحف والمجلّات ومتابعة الراهن الثقافي الذي شهد ثورة في كسر الجمود والتطلّع إلى أفق التجديد. وكان لكلِّ مقهى روّادها المواظبون على التواجد فيها بشكل منتظم. دائماً تكون المقاهي في قلب المدن، ففي شارع الرشيد كانت هناك مقهى البلدية والزهاوي وحسن عجمي والبرلمان والبرازيلية وقد كتب عن تأثير هذه المقاهي بشكل مستفيض الشاعر حسين مردان في كتابه الأوراق تورق داخل الصاعقة وكذلك الشاعر هاشم شفيق في كتابه بغداد السبعينيات، فهذه المقاهي مكان عام يرتاده الناس لتزجية الوقت، فمنهم من يمرُّ عابراً، ومنهم من يجعله مكاناً لإقامته لساعات طويلة، وقد احتلَّ بعض الأدباء جزءاً من مساحتها لتشكل ظاهرة لتجمّعات متباينة تلتقي أو تختلف في طبيعة الحوارات التي تصل أحياناً إلى حدِّ الخصومات المؤقّتة، وفي ظلِّ هذه الأجواء المنتجة تلتقي بشعراء وكتّاب وفنانين لهم حضورهم الفاعل في المشهد الثقافي، فيقرؤون قصائدهم وقصصهم الجديدة ويحضر أغلب محرّري الصحف الثقافية، وفي باقي المحافظات يختار الأدباء مقهى مناسبة، ففي محافظة بابل كانت هناك مقهى أبو سراج الملاصقة لشطِّ الحلّة كان يرتادها أغلب أدباء المحافظة، منهم عبد الجبار عباس وباقر جاسم محمد وموفق محمد وناجح المعموري وغيرهم. الجميل في هذه المقهى أنَّها تضم شرائح المجتمع كلّها، وكان بطل رواية ناجح المعموري الأولى (النهر) هو عامل المقهى كاظم الأدرد. غير أنَّ أغلب المقاهي الشعبية اندثرت وتحوّلت إلى مشاريع تجارية بحكم موقعها المهم وتحوّلت المقاهي إلى أماكن مغلقة، وبحكم تسارع الحياة وانتشار صفحات التواصل الاجتماعي، فقدت المقاهي البديلة حميميتها وأصبح اللقاء نادراً، غير أنَّنا نظل نبحث عن مكان به رائحة المقهى في زوايا المدينة المهملة. المقهى… الكومبيوتر القديم ويختتم الشاعر رعد كريم عزيز حديثنا قائلاً إنَّ المقهى هي بيت الألفة العتيق أيّام زمان، حيث كانت المقاهي ملاذاً من وحشة البيوت أو الفنادق الرخيصة. وكان يمكن للزمن أن يرسم تاريخه في زاوية منها، فهنا يجلس الشاعر وهنا الشغّيل الذي يأكل فطوره في ساعة محدّدة. وأغلبها تتمتّع بزاوية لرفٍّ من الكتب وأخرى لكؤوس فريق المحلّة وأسماء الفرق منقوشة على الأعلام المثّلثة الصغيرة. ويضيف: لقد كانت المقهى بمثابة الكومبيوتر العتيق الذي يحفظ ذاكرة المدينة واجتماع الأدباء والفنانين فيها. في بغداد تركّزت المقاهي الأدبية في السعدون وشارع الرشيد والأكثر في شارع المتنبي ومقترباته. وتستطيع أن تجد ضالتك عند الشاعر أو الأديب الفلاني وكأنَّه يداوم رسميّاً في زاويته الأثيرة، وتسلّمه نتاجك الأدبي كي ينشره في الصفحة التي يشرف عليها. كانت المقاهي مؤسّسة يحضر فيها الشاعر والموسيقي والفنان.. ورجل الأمن كذلك. وأتذكّر مقهى “أبو سراج في الحلة” كانت مقسّمة على قسمين، يمينك يجلس المثقفون وعلى يسارك يجلس أهل الأركيلة والدومينو والطاولة.المقهى كانت نوعاً من الإدمان الاجتماعي، ولكنَّها أيضاً كانت منجماً للأبداع، حتَّى أنَّ الكثير من الأعمال الأدبية خلّدت المقاهي في القصص والروايات.اليوم تحوّل الإنسان إلى الهاتف الخلوي، فأصبح يحمل مقهاه في جيبه، يحدّق فيه أغلب الوقت ويكتب فيه ويشاهد العالم من زاويته الصغيرة. والمقهى تحوّلت إلى الكافيه الذي يوثّق روادها يومياتهم كلّ لحظة بالصور والفيديويات والبث المباشر.