التسفير.. أنامل ذهبية تعتني بالكتب وتتشبث بمهنة عريقة (فيديو)
خلف طاولة خشبية أمام ورشته الصغيرة بشارع الجزاء في قلب المدينة العتيقة بالرباط، يستغرق سيف الدين بوهادي في إعادة الروح للكتب، يضع الغراء على قطعة جلد قبل أن يلصقها بعناية بدفتي كتاب ثم يضغط، ليبدو السِّفر في حلة جديدة.
ولإبراز الأجزاء المحدبة يشرع سيف الدين في الضرب على الكتاب بأداة خشبية تدعى “الخفيف”، قبل أن يضع قطعة ورق لامع أصفر فوق الكتاب لتذهيبه، وذلك بتمرير أداة حديدية فوقه بعد تسخينها، وهي عبارة عن بكرة بعجلة عليها نتوءات تسمى “الروليطا”.
ولتسفير الكتاب ينطلق عمل “المعلم” من جمع الأوراق وربط الكراسات بخيط وإبرة، ثم وضع الغراء على كعب الكتاب ودفتيه، قبل تغليفه بالجلد وذلك بتثبيته على الدفتين، إذ غالبا ما يستعمل جلد الماعز نظرا لمتانته وجودته، وخلال هذه العملية تستعمل أدوات من قبيل “الروليطا” و”الخفيف” والإبرة ومسطرة لأخذ المقاسات، ناهيك عن الغراء وفرشاة لوضعه، و”الزواقة” لتذهيب الكتاب بعد تسفيره، وذلك بوضعها بعد تسخينها على الكتاب وورق التذهيب فوقفه.
ينظر سيف الدين، الذي أنفق 49 سنة من عمره في هذا الميدان، بعين الحسرة إلى ما آل إليه حال هذه الصنعة، التي ارتبطت على مر تاريخها بالدين الإسلامي، إذ بها تصان المصاحف وكتب الأحاديث والعلوم الشرعية، كما أتقنها بعض العلماء، مثل البطاوري التهامي بن علي الرباطي ومحمد بن سليمان السوسي الروداني، بحسب ما ورد في كتاب “تسفير وتذهيب الكتب وترميم المخطوطات” للسعيد بنموسى.
يحكي هذا “المعلم” لجريدة “العمق” أنه تعلم هذه الحرفة في أحد مراكز التكوين بمدينة الرباط في السبعينات من القرن الماضي، فقرر أن يفتتح ورشة بالقرب من المكان الذي توجد فيه ورشته اليوم، “بعد أن اجتزت ثلاث سنوات في المركز وأنهيت تكويني، أخذت قرضا من البنك وافتتحت ورشة لتسفير الكتب”.
يتذكر “المعلم” سيف الدين كيف كان الإقبال كبيرا على هذه الصنعة في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، حين كانت تلجأ إليه بعض إدارات الدولة من أجل ترميم وتجليد الكتب. وعن مداخيله في تلك الفترة يقول: ” كنا تنصورو فلوس صحيحة ومنها وفرت تقاعدي، أما اليوم اللي ربحتو راه غير فضل”.
كان سيف الدين، قبل حوالي أربعين سنة، يرمم ويسفر كتبا لوزارة العدل والمحاكم ووزارة الأوقاف وغيرها من الإدارات، “كنت أتوصل من وزارة الأوقاف بـ 200 أو 300 مصحف من المساجد، بين الفينة والأخرى، لترميمها، لكنها الآن توقفت عن ترميم المصاحف ولم تعد في حاجة إلى مهنة التسفير، إذ تفضل شراء مصاحف جديدة على ترميم القديمة”، يقول “المعلم” متحسرا.
أما اليوم، يقول هذا الشيخ الستيني، فقد تراجع الإقبال على التسفير باستثناء بعض المؤسسات العمومية التي مازالت تلجأ إليه لترميم أرشيفها، “أما بخصوص الخواص فإن العمل معهم نادر جدا، إذ لا يلجأ إلى هذه الصنعة إلا بعض الفئات القليلة، من قبيل طالب باحث يريد تسفير بحث تخرجه أو باحث حصل على كتب ومخطوطات نادرة ويريد تسفيرها لحفظها من الضياع”.
الركود الذي أصاب هذه المهنة لا تخطؤه عين من يزور ورشة سيف الدين الصغيرة، حيث تتكدس أكوام من الأغراض المستعملة في هذه الصنعة. وأمام الورشة يقف “المعلم” وحيدا أمام طاولته الخشبية منهمكا في ترتيب أدواته وأغراضه فوقها أو تسفير كتاب، كما يغلق باب الورشة بعد الزوال في أغلب الأيام.
البحث عن مسفر للكتب في مدينة الرباط أصبح اليوم مهمة صعبة، حيث بات الممارسون لهذه “الصعنة” معدودون على رؤوس الأصابع، في ظل غياب سلف يحمل مشعل الحرفة. يقول سيف الدين: ” كان يبعث لي مركز التكوين المهني بين الفينة والأخرى متعلمين ليتلقنوا المهنة مقابل 200 أو 250 درهما في الشهر عن كل واحد منهم، لكن ورشتي صغيرة، وتعلم هذه الحرفة يحتاج إلى مقر ومؤطرين”.
توجه المغرب نحو الرقمنة من أكبر العراقيل التي تعترض طريق استمرار مهنة تسفير الكتب بالمغرب، فأرشيف المحاكم والجماعات وغيرها من الإدارات، الذي كان يعكف سيف الدين وزملاؤه على ترميمه وإعادة الحياة له، سيصبح في يوم من الأيام متاحا بضغطة زر، ما سيزيد من دفع هذه المهنة العريقة إلى حافة الزوال.
المصدر: العمق المغربي