هل ساهمت الدولة في صناعة القبلية؟ (23) السودانية , اخبار السودان
عصام الدين عباس أحمد
حينما بدأ التحضير لتطوير نظام السجل المدني السوداني الإلكتروني، وفي مرحلة الدراسات الفنية وإعداد وثيقة النظام اشتد النقاش، وبلغ أشده في شأن القبيلة بين مدرستين. مدرسة انتمي إليها، وترى أنه ليس من المعقول تدوين بيانات قبيلة السوداني في سجله الإلكتروني، ويجب عدم الاعتماد على الأمر الإداري الذي يعتبر القبيلة معرفاً أساسياً لهوية مقدم الطلب، وكانت دفوعنا تدور حول عدم قانونية ذلك الإجراء خاصة وقانون الجنسية لم يشر من قريب أو بعيد للقبيلة، كما أن التداخل القبلي الحدودي يمكن أن يكون ثغرة ينفذ من خلالها غير المستحقين، وعلى الضباط المتحرين استخدام وسائل الإثبات المعروفة لإثبات هوية مقدم الطلب، إلا أن تلك الدفوع لم تصمد أمام الرأي الآخر المسنود بارث شرطي متوارث منذ العام ١٩٥٧ قوامه وعموده الفقري هو القبيلة، وأن لا بد من إضافة حقل في بيانات السوداني يحدد إلى أي قبيلة ينتمي، وأن تحتوي استمارة الحصول على الرقم الوطني على بيانات القبيلة.
بالفعل صدرت النسخة الأولى من نظام الرقم الوطني السوداني متضمنة لبيانات القبيلة، وأصبح لزاما على أي سوداني أن يثبت انتماءه إلى قبيلة بعينها، أو يوضع ضمن تصنيفات أخرى مثل (من أصول كذا أو مواليد أو غيره.
لم تفتر همتي في اقتناص أي فرصة لإلغاء هذا الأمر المعيب وما حفزني أكثر أننا حينما أرسلنا فريقاً فنياً لتسجيل الإمام الصادق المهدي (عليه الرحمة) وحينما شرع في تعبئة استمارة البيانات استوقفته القبيلة، ورفض إكمال التسجيل احتجاجا على هذا البيان. اضطرت رئيسة الفريق الفني للاتصال بي، وتحدثت إلى السيد الإمام الذي قال لي محتجا كيف تقبلون إضافة بيان القبيلة لسجل السوداني الإلكتروني؟ وماذا سيكون موقفكم إذا تسببت سجلاتكم هذه يوما ما في إنتاج تقارير توزع السودانيين وفقا لاثنياتهم الأمر الذي سيزيد المشهد السوداني تعقيدا على تعقيده. رحم الله الإمام الصادق فكأنه كان ينظر بعين زرقاء اليمامة فما هي إلا شهور معدودة، واتصل بي هاتفيا إحدى قيادات الجهاز التنفيذي بولاية الخرطوم طالبا إحصائية سكان ولاية الخرطوم موزعة بالقبائل لتدعيم رأي في المجلس المحلي للولاية يقول إن قبيلة كذا هي صاحبة الحق الأصيل والوجود التاريخي في الخرطوم ولحسن الحظ كنا قد حصلنا على قرار إلغاء بيانات القبيلة في السجل، ونفذناه في قاعدة البيانات؛ وبالتالي اعتذرت له أن ذلك غير ممكن تقنيا.
أعود إلى رحلة إلغاء بيانات القبيلة، ففي أحد اجتماعات اللجنة العليا لمشروع السجل المدني وهو مجلس يترأسه مساعد رئيس الجمهورية يومذاك، ويضم وزراء الداخلية، الصحة، الحكم الاتحادي، العدل، الاتصالات، مدير عام الشرطة، مدير جهاز الأمن والمخابرات، نائب رئيس الجهاز القضائي، مدير المركز القومي للمعلومات، رئيس جهاز تنظيم الاتصالات، مدير السجل المدني ومدير مشروع السجل المدني. في إحدى الجلسات وعند ختامها سأل رئيس المجلس هل هناك أي قضية أخرى قبل ختام الاجتماع، وبما أنني مدير المشروع طلبت بإصرار النظر في إلغاء بيانات القبيلة من السجل الإلكتروني والإبقاء عليها فقط من بين وسائل الإثبات الأخرى. ما إن قلت ذلك حتى ضجت القاعة، وتعرضت لأسوأ تعنيف في حياتي المهنية، حتى انتابني إحساس أنهم سيوجهون لي تهمة الخيانة العظمى أو تقويض النظام الدستوري.
أواصل في حلقة أخرى كيف سارت الأمور.
المصدر: صحيفة التغيير