أكاديمية المملكة تعمق البحث في تاريخ حضارة اليمن والتقاطعات مع المغرب
اهتمامٌ بحضارة وتاريخ اليمن “تنمية للبحث العلمي” و”تعزيزا لعمق الروابط الأخوية والتاريخية والثقافية” مع المغرب، حضر بأكاديمية المملكة المغربية، في ندوة دولية، انطلقت فعالياتها أمس الأربعاء، ومن المرتقب أن تستمر اليوم الخميس، بتعاون مع سفارة الجمهورية اليمنية.
وتناقش هذه الندوة الدولية قضايا اللغات والآثار القديمة في اليمن، وتراثه الغنائي والموسيقي، وتراثه الحضاري الفكري والمادي، بمشاركة أكاديميين ومتخصصين من المغرب واليمن، وبمحاضرة افتتاحية ألقاها باللغة العربية جان لامبير، الباحث الفرنسي المتخصص في التراث الموسيقي باليمن والجزيرة العربية.
أخوة ثقافية مغربية يمنية
قال عبد الجليل لحجمري، أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة المغربية، إن هذه الندوة الدولية تنظم بـ”تعاون متميز بين أكاديمية المملكة والجمهورية اليمنية”، يستحضر “عمق الصلات التاريخية الأخوية والثقافية واللغوية بين المملكة المغربية والجمهورية اليمنية”، للبحث في “وهج التراث الحضاري اليمني، الذي كان له إسهام كبير في إغناء الحضارة الإنسانية”.
وفي إطار الهيكلة الجديدة للأكاديمية من أجل الإسهام في الأعمال المعرّفة بالموروث الثقافي والحضاري والفني للحضارات الإنسانية والحضارة المغربية، وتعزيز قيم المشترك الإنساني، للإسهام في التقدم العلمي والثقافي، تحدث لحجمري عن منطلق تنظيم مثل هذه اللقاءات العلمية “إيمانا بأن الحضارات ثمرة عبقريات تلاقحت وتدافعت، وتعود إلى أصول مختلفة، ومن الجهل والتجاهل الادعاء بأنها مقصورة على زمن ما أو فئة بشرية معينة، ولكل حضارة ما تقدمه للحضارات الأخرى”.
وتابع مشددا على أنه في زمن الحروب المدمرة للتراث والعولمة المدمرة للهويات تبرز أهمية “الوعي بالهويات المنفتحة المتميزة بأصالة إبداعها وإنسانية انفتاحها وخلود معانيها”، مضيفا: “لست ممن يحدد تاريخا معينا لبناء الحضارات؛ لأنها تراكمات، بنيت على تفاعلات الأخذ والعطاء”، ثم أردف قائلا: “الحضارة اليمنية من أقدم الحضارات (…) وتركت بصماتها في مجرى التراث الإنساني، بنبوغ مهندسيها، وملكاتها، وعطاءاتها”.
وزاد مستحضرا “اليمن والبركة” في تسمية “اليمن السعيد”، و”الحكمة المعبرة المصيبة في الرأي والعمل؛ فالحكمة يمانية”، و”الموقع الاستراتيجي الذي أهلها لتكون مركزا مهما للتجارة العالمية، ونهرا متدفقا بالحضارات الإنسانية، شيد القصور والسدود، وناطحات السحاب، والمآثر”.
ومن بين ما تطرق إليه أمين السر الدائم للأكاديمية “معالم، وقيم الكرامة والحرية وحقوق الإنسان في المجتمع اليمني”، و”أدوار المرأة اليمنية السياسية؛ فيما لا تزال الدعوة إلى الرفع من التمثيلية السياسية مطلبا ملحا في زمننا”، علما أن “انشغال الإنسان اليمني بآلام المجتمع وقضايا حقوقه شهدت بها آثار منقوشة وشفهية”، مع استمرار “النبوغ اليمني” في العصر الحديث في القول الأدبي والفني، والإبداع الشعري والروائي والغنائي والسينمائي.
عز الدين سعيد الأصبحي، سفير الجمهورية اليمنية بالمملكة المغربية، الذي استهل مداخلته قائلا إنه “يصعب الحديث عن اليمن الذي نستذكر حضارته في واقع آخر تماما”، تحدث عن “الإرث المشرق من أرض أول المهد إلى أرض الموحدين والمرابطين”، و”من مهد العروبة إلى رباط الخير”، وعن “رسوخ قوسي المحبة في الجغرافية الممتدة”.
وتابع: “حرص أكاديمية المملكة المغربية على تنظيم هذا اللقاء مع السفارة اليمنية له دلالة نهمة في تعزيز جسور من التواصل الخلاق، لم تنقطع أواصره يوما بين البلدين الشقيقين (…) فأول القوس على مشارف طنجة، وخاتمته في خليج عدن.. ورغم تباعد المكان، فإن البلدين هما الأقرب تاريخا وثقافة وإرثا مشتركا”.
وقدم مثالا على ذلك من “فنون العمارة الطينية واللهجة المتقاربة والمتطابقة حتى، وفي الأزياء والأغاني”، مع استحضاره علاقة البلدين “مثالا في التعاون المشترك والروح الأخوية الصادقة”؛ فـ”المغرب ملكا وحكومة وشعبا معنا، كان واقفا معنا في كل المنعطفات والمحن، واليمن سند للمغرب منذ تحقيق الاستقلال إلى استكمال الوحدة الترابية”، وقدم في هذا السياق مثالا بخطاب علال الفاسي في الأمم المتحدة قبل استقلال المغرب الذي تم ببطاقة على عنوانها اسم “بعثة اليمن”.
ومن بين ما تطرقت له كلمة السفير اليمني “التاريخ المشرق من القواسم المشتركة”، و”الدور المغربي المتعاظم إقليميا ودوليا، ووحدته من طنجة إلى الكويرة، ووجوه الأمازيغ وأغانيهم التي مثل بهجة اليمن”، وتحدث بعيدا “عن سباق الأقدمية”، منتصرا لـ”التكامل الحضاري”، الذي “لا تعيقه عائقة، وتؤكده الأهازيج من جبال الأطلس إلى شواطئ تهامة، والألوان كذلك”.
هذا التشابه أيضا من وجوهه الخلط المتكرر في اليمن بين صوت فنان يمني معروف محليا وبين صوت الفنان المغربي محمد رويشة، وفي تشابه أسماء وأنساب، واستعمال أقوال مثل وصف ما لا يعجب بـ”الهضرة الخائبة”، ووصف كل جميل بـ”غزال”.
وهذه الوقفة البحثية عند التراث الحضاري اليمني ليست “استلابا زمنيا” وفق سفير الجمهورية بل “التفاتة نحو المستقبل والعصر (…) وتعزيز للثقة بقدرات أمتنا التي عاشت مجدا، وهذه نكسة عابرة”؛ فـ”أجمل الأيام تلك التي لم تأت بعد”.
الموسيقى اليمنية
عرّف جان لامبير، المتخصص في العلوم الاجتماعية والتراث الموسيقي اليمني، في محاضرته الافتتاحية، بالتسجيلات الموسيقية التجارية الأولى في عدن، بين سنوات 1935 و1960، في وقت كان فيه اليمن منقسما إلى جزءين.
وتابع: “هذه التسجيلات هي أول توثيق للموسيقى والأغنية اليمنية، وهي تسجيلات تمت في عدن التي كانت مدينة كبيرة للتجارة والثقافة والاقتصاد وكان فيها اختلاط مع الاحتلال البريطاني”.
هذه التسجيلات يستوحي منها الفنانون إلى اليوم موسيقيا، وفق المتخصص؛ وهي “ذاكرة موسيقية لليمن بالدرجة الأولى”، وأولى الشركات التي سجلتها “أوديون” الأجنبية، وهي ألمانية وإنجليزية معروفة عالميا، ثم بعد رحيلها فتحت الباب لشركات تسجيل محلية من قبيل: “شركة التاج العدني” و”شركة جعفرفون”، و”شركة كايافون”.
ومع تقديمه نماذج تسجيلات صارت نادرة اليوم، من بين ما نبه إليه الباحث أن هناك جالية يمنية كبيرة في الهند من أبنائها المغني جمعة خان؛ وهي جالية انتقلت جزئيا إلى إندونيسيا وماليزيا، و”الحضارمة ما زالت لهم علاقات أسرية وثقافية كبيرة”، فهم عائلات تجارة قادتهم إلى الاستقرار بمناطق متعددة.
ونبه المحاضر إلى أن هذا الفن الموسيقي اليمني “مهدد”، رغم كونه “ذاكرة تاريخية”؛ فـ”الأسطوانات صارت نادرة، وصارت تجارة مثل تجارة الآثار، والكثير منها خرج من اليمن، وصارت في مجموعات خاصة أكثرها في أوروبا وأمريكا، ويجب علينا مع زملاء يمنيين أن نجمع المعلومات والتوثيق والتسجيلات لننجيها من الاندثار”.
ووضح لامبير معالم مشروع انطلق قبل أربع سنوات، قام فيه مع باحثين يمنيين “بتوثيق الموجود من القطع الموسيقية في قاعدة بيانات، توثق بمطلع الأغنية، والفنان، وشركة الإنتاج، والمصدر، والمالك (…) وهي قاعدة بيانات قابلة للبحث”.
وزاد: “هذا مشروع كبير لم يكتمل بعد لإنشاء موقع خاص بهذا التراث الثمين؛ ونحاول أن يتعاون معنا عبر الإنترنيت كل الهواة اليمنيين والعرب والغربيين، للمشاركة في توثيق التراث، خاصة بسبب الظروف الصعبة التي تعيشها اليمن حاليا، ونحاول جعل التكنولوجيا في خدمة التراث”.
المصدر: هسبريس