مُشكِلةُ الفُقَهاءِ؛ في “قَطعِيّاتِهم” لا مَع العِلمانيّين
مُدوَّنةُ الأُسرَة: مُشكِلةُ الفُقَهاءِ؛ في “قَطعِيّاتِهم” لا مَع العِلمانيّين
من يتابع مُرافعات الفُقهاء عن مُدوَّنة الأُسرة؛ يَجِدُ مَبناها قائِماً على الاحتِماء بِأمرَين اثنين:
أحدُهما؛ الزَّعمُ بمُصادَمة الرائجِ مِن مَطالِب تَعديلِها لقطعيّات الدِّين وثَوابِتِه.
الثاني؛ تَلْويحٌ مُستمِرٌّ بالمَقولة المَلَكيّة: “لن أُحِلَّ ما حرّم الله”.
وغرَضُ هذا المقال؛ أن يضع النِّقاطَ على حُروف هذا الاحتِماء بِمَسارَيْه؛ من خلال بيان تهافت الزَّعم الأول، وسوء التوظيف للمقولَة في الثاني على النحو الآتي:
أولاً: عن دعوى المُصادَمَة للقَطعِيّات والثوابت الدينية
ومُلَخّصُ القول بشأنها؛ أن ما يُروِّجُه أغلبُ المُتَرافِعين من الفقهاء (منهم مَحسوبون على المجلس العلمي الأعلى) عن مُصادَمة مُقترحاتٍ تَقنينِيّةٍ ذاتِ الصِّلة بمدونة الأُسرَة في مَواضيع كالزواج والطلاق والولاية والنسب والإرث وغيرها لقطعيات الدِّين؛ ليست في الحقيقة سِوى آراء مَذهبية أنتَجَتْها قواعِدُ أصولِيّةٌ هي ذاتُها؛ لَيست مِن القَطع في شيءٍ؛ مثل القول بالنسخ في القرآن، والقول ببناء الحُكمِ الدِّيني الواجِبِ من مصادرَ غير القرآن، وغيرها من الأمور التي تُمْلي على “المُتَشرِّعة” اعترافاً بأن المُصادَمَةَ واقعةٌ لآرائِهم المَذهبية في أصول مَخصوصَةٍ؛ ومِن ثَمَّ في فروع مَخصوصةٍ تَبَعاً لتلك الأصول، بمعنى أن الأمرَ يتعلَّقُ بفَهمٍ مَخصوصٍ في الدين (الوَحي)؛ لا أنَّه هو الدِّين، ومُصادَمَتُه مُصادَمةٌ لِفَهمٍ مَخصوصٍ في الدِّين؛ وليست للدِّين.
ولا تكون القطعياتُ قطعياتٍ؛ إلا إذا اجتازَ دَلِيلُها المَعابِرَ الاستدلاليةَ الأربَعَةَ الآتِيةَ اجتِيازاً يَقينِيّاً:
أن يَثبُتَ الدليلُ ثبوتاً يقينياً.
أن يَدُلَّ دلالةً يَقينِيّةً؛ بأن يُدرَك المَعنى إدراكاً يَقِينِيّاً لا تَردُّدَ بشأنه.
أن يستمرَّ الحكمُ / المعنى استمراراً يقينياً (بأن لا يرتبط المَعنى /الحكمُ بزمنٍ مَخصوص).
أن يَرْجَحَ رُجْحاناً يَقينياً على كل ما يُعارضه.
وكلُّ تَعَثُّرٍ حَصَلَ وَلوْ في واحدٍ مِن هذه الموانعِ؛ يُخرِجُ المُستَدَلَّ عليه من دائِرة القَطعِ؛ ويُلقي به في ساحِ الظُّنون دونَ أدنى تَرَدُّدٍ. عِلماً بأن كُلَّ خائضٍ في الدِّين مُلزَمٌ بوَضعِ نَفْسِه تحتَ رَقابَة هذه الحواجِز الاستدلالية المَذكورة قبلَ أيِّ تَقرير.
ولا يملكُ أحدٌ من الفقهاء الخائضين في صَكِّ اتّهام “العلمانيين” بمعاداة مَطالبِ تَعديل المُدونة المُرتقَبِ لِثوابِتِ الدِّين (وهو اتهامٌ يَنطوي على أبعاد تكفيرية خَطِرَةٍ لا تُخطئها العين)؛ أن يُنكِرَ (على قواعد اللغة والعَقل) خُطوات الانتقال الاستِدلالي من الأعلى إلى الأدنى المُثْبِتِ للحقائق بالتسلسل الآتي:
لا حُجَّةَ تقومُ لأحَدٍ على أحدٍ وهو يخاطبه بالظنون المصوغة ب: قَد، رُبّما، يُحكى أنّ، يُروى أنّ، وما كان في حكم ذلك. وتقريرُ هذا نَفْياً أو إثباتاً؛ مِمّا لا يستقيم أيُّ نقاشٍ في الدِّين قبل وُضوحِ البَيان بشأنِه، لِننظُرَ مَن يتَحَمّلُ مسؤوليَّة الجُرأةِ بالقولِ إنَّ زَيداً من الناسِ؛ حِينَ يُقَعِّدُ قاعدةً ظنيةً (أو حكماً جزئياً تفرَّعَ عنها)؛ فإنها تكون حُجّةً على عَمروٍ أمامَ الله تعالى؟ واليقينُ حاصلٌ عندي أنَّ ثلاثة أرباع “الضجيج الديني” (الذي ينبثقُ ويَصدُرُ عن الكلام في الدِّين سِباحةً حُرَّةً دون التزام قواعد النظر)؛ مُرشحةٌ للتَّبَخُّر حالَ التزام هذا الوضوح.
ما كان طريقُه الوحيُ؛ فهو على العدَمِ مَحمولٌ حتى يقومَ دليلُ الوَحي بِخِلاف ذلك إثباتاً أو نَفْياً، فلا يُنسب إلى الله حكمٌ دينيٌّ؛ ما لم يَرِد بِهِ الوَحي.
حيث نحن الآن؛ لا لُغَة تَعلو على لُغة إدراكِ المَعنى الشّرعي (الحُكم الشّرعي) مِن مَباني القرآن إدراكاً مُتَيَقَّناً، وكلُّ معنى يُدرَكُ بالظَّن؛ لا تَقومُ به حُجَّةٌ في بِناءِ الواجبِ الدِّيني.
كُلُّ مُخبِرٍ عن الله بحكمٍ دينيٍّ؛ مُطالَبٌ (رغماً عنه) بالإجابة الصريحة والواضحة عن: كيف ينتزعُ المَعنى (الحُكم) من مَباني الوحي؟ وما الذي يَلتَزِمُه هذا المُخبِرُ من الخطوات الانتقالية العَمَلِيّة في ذلك؛ خُطوَةً خُطوة؟
التزاماً مِنّا بِما سبقَ؛ نقول: ليسَ يُدرَكُ المَعنى (الحكمُ) إدراكاً مُتَيَقَّناً؛ إلا بِدلالَةٍ تَجمعُ بين الوَضعِ والاستعمال ومُراعاة السِّياق المُتصل والمنفصل، المادّي والرّمزي. وليس ذلك مُتاحاً مع غيرِ دلالَةِ العِبارَة بِلُغَة الأحناف؛ أو المَنطوق الصَّريح بِلُغة الجُمهور، لأن أوّلَ دلالَةٍ تَلِيها في الترتيب (وهي دلالة الإشارة)؛ يَنهَدِم فيها أهمُّ شرطٍ لِتَحصيل اليَقين والقَطعِ؛ وهو شَرطُ العِلمِ بِقَصد المُتكلم. ويكون كلُّ معنى (حُكمٍ) يُنتَزَعُ من القرآن بدلالة إشارةٍ فما دونها (كُلِّيّاً قاعدةً كان؛ أو جزئيّاً) ثمَّ يُنسَبُ ويُسنَدُ إلى الله بالقول: هذا حكمُ الله، أو هذا قولُ الله، أو هذا مُرادُ الله / قَصدُ الله؛ نُجيبُ المُسنِدَ بقَولِنا: هذا حكمُكَ أنتَ، وقولُكَ أنتَ، ومُرادُكَ وقَصدُكَ أنتَ، أَيْ؛ تأويلُك أنتَ. ووُلوجِ التأويل (بمعناه الأصولي لا الفلسفي)؛ وُلوجٌ في الظنون. والظنون تَردُّدٌ، ولا يقين في تردُّدٍ، ولا برهان بلا يقين، ولا حُجةَ بلا بُرهان، وذلك بِتقريرِ القُرآن: “قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين”.
أوَّلُ ما ينبغي أن يَحسِمَ فيه الوَحيُ (القرآن) من الحقائقِ: أن يَحُدَّ “نَفْسَه”، أي لا بد أن يرسُمَ الوَحيُ الثابتُ حيث نحن الآن حُدودَه وماهِيتَه، وأن يُقرِّرَ ما إذا كان هناك وحيٌ آخر غير القرآن، أو مَصدرٌ آخر يَحوزُ صِفةً آمريةً تَشريعيةً. وهذا شأنُ من تَجرّدَ لبناء عِلمه وحقائقه بما تُمْلِيه قَواعِدُ اللّغة والعَقل، وتحرَّرَ ممّا سواها؛ أما الذين لا يجدون غضاضَةً في رَمْيِ الناس ب”أحكام دِينيّة” وكلُّ دليلِهِم: قال العلماء، أو أجمعَ العلماء (والقاعدةُ تَطَّرِدُ)؛ فهؤلاء نَهمِسُ في آذانهم؛ أنْ قَدْ صَحَّحتُمْ وصَوَّبتُم باستدلالِكم هذا عقائِدَ البُوذِيِّين (مَثلاً)، إذ هؤلاء البوذيون (وهم على ما ترونه أنتم باطلاً)؛ لا يُرَدِّدونَ إلا ما أجمع عليه عُلماؤُهُم، وجَرى به عَمَلُهم، وتَناقَلوهُ مُنذُ مِئاتِ السِّنين !! فليسَ إجماعُكُم “أَجمَلَ” من إجماعهم.
بما أن القرآن (الوحيُ المُثبَتُ الآن) يَخلو عن نَصٍّ صريحٍ في وجود وَحيٍ ثانٍ؛ وبِما أنَّ ما أَشكَلَ من الآيات المُخاطِبة للرسول عليه الصلاة والسلام بما يتصل بموضوعنا هي آية “لِتُبَيّن لهم” التي جعلوها تعني أن الرسول يُفَصِّل المُجمَل، ويُقيِّد المُطلقَ، وينسَخُ الآيات، ويزيد بنفسه على ما فرض القرآن وما حرَّمَ القرآن؛ فإنّ فَهمَ الجمهورِ فيها ضَعيفٌ وعَليلٌ ومَرجوحٌ؛ لأنَّ المعاني التي أنيطت بتلك الآية وعُرِضت على أنها مُراد الله منها؛ قد كانت “بِباطِن” الإشارة لا بصريح العِبارة التي تُؤَمِّنُ وُضوحَ قصدِ المُتكَلِّم. وما اتَّضحَ من قصدِ المتكلمِ بها (أي بآية “لتبين لهم”)؛ هو جعلُ البَيان إظهاراً يُقابِلُ الإخفاء (هكذا يستعملُ القرآنُ لفظَ البيان حَصراً “لَتُبَيِّنُنّه للناس ولا تكتمونه” وخيرُ شارِحٍ للنَّصِّ؛ صاحِبُه)، فلا وجودَ حَيثُ نَحنُ في تسَلسُلِ استدلالنا لِما يستندون إليه في القولِ بمَصدَرِيَّةٍ تشريعيَّةٍ خارجَ القرآن.
لا يملكُ الجمهور في التشويش على هذه الحقيقة غيرَ:
استدلالِهم بآيات طاعة الرسول “وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول”، “وما آتاكم الرسول فخذوه”.
استدلالهم بآيات الاتباع “قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله”.
استدلالهم بـ “فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم”.
وهذا كُلُّهُ؛ إذا نحنُ التَزَمنا تَمْحيصَهُ على ضوء المُقدِّمات أعلاه، والتي لا انفكاك لهم عنها؛ فإنه يصيرُ مَنقوضاً كالآتي:
الاتفاقُ واقِعٌ على أنْ لا قولَ يعلو على قولِ الله سبحانه.
ما كان من تلبيسِ الحقِّ بالباطلِ حاصلاً في الاستدلالِ بآياتِ الطاعةِ والاتباعِ والتحكيمِ؛ يَصيرُ مُتهافِتاً ومَفضوحاً بِتَفْكيكِ خاصِّيَّة التلبيس تلكَ؛ وذلكَ كالآتي:
ليسَ الاختلافُ حاصلاً بشأنِ: هل نُطِيعُ الرَّسولَ أو لا نُطيعُه؛ إنَّما السؤالُ الحقيقيُّ: في ماذا نطيعُه؟ أي هَل الطاعةُ واقعةٌ له بشأن كلِّ ما أتانا به (كما تُوهِمُ به مُرافعاتُ المُخالِفين)؛ أمْ بِشأن بَعضِه؟ فإن قالوا أن الطاعة في الكل؛ ناقَضوا أنفُسَهم، لأنهم قالوا بِعَدَم لُزوم طاعته في ثلاثة أرباع “السُّنّة” حين رَفَعوا لُزومَ الطّاعة عن الجِبِلِّي مِنها، والخاصّ، والاجتهادي؛ باجتهادٍ مِنهم لا باتِّباعِ وحيٍ صريحٍ في استثنائهم ما استثنوا، بل حتى الربع المُتبقي حين جعلوه وَحياً وتشريعاً؛ لم يَجرؤوا على الحَسم في أخذ العقائد منه؛ بما يَكشِف عن ارتباكهم وتَردُّدِهم وهم يُقَرِّرون كونَه وَحياً، وإن قالوا بوجوب الطاعة في بعض ما أتانا به؛ سقطَت مُحاجَجَتُهُم المُطلَقَةُ بآيات طاعة الرسول؛ لأنّا استوينا معهم في القول بذلك البعض؛ واختلفنا فقط في تحديده حين قَصَرناهُ نحنُ على القرآن.
وليس الاختلافُ حاصلاً بشأن: هل نتّبِعه أو لا نتّبِعه؟ إنما الاختلاف واقعٌ في: نتَّبعه في ماذا؟ ونفس ما قيل تعليقاً على استدلالهم عن الطاعة؛ يَصدُق تنزيله هنا.
وليس الاختلاف حاصلاً بشأن: هل نُحَكِّمه أو لا نُحَكِّمُه؟ إنَّما الاختلافُ حاصلٌ فقط بِشأن مادَّة حُكمِه المُلزِمةِ حين نقولُ أنَّ أيَّ إيجابٍ منه أو منعٍ لم يَرِدْ في القرآن؛ فهو بصفة الإمامة تقنيناً اختيارياً للمباح؛ قابلاً للتغيير حسب الزمان والمكان.
مُحَصِّلَةُ الكشف عن هذا التلبيس وتَفكيكِه؛ أن الآيات المُستَدَلِّ بها على الطاعة والاتباعِ والتحكيم لا تَفي للمُخالِف بغرضه في إثباتِ أدلةٍ زائدةٍ عن كتاب الله تكون مَحلَّ الصُّدورِ عَنها في نِسبةِ حُكمٍ دينيٍّ مُلزِمٍ إلى الله إثباتاً قطعيّاً، وذلك بسبب الاحتمال الواضح “المفضوح”، وليس لهم إلا البحث عن دَعمٍ استدلاليٍّ آخر.
تبعاً لذلك؛ نعود من جديد إلى نُقطَة الاستدلال المتعلقة بلفظ “البيان النبوي”؛ فنؤكِدُ أن لفظ الآية {لتبين لهم} لا يُسعِفُ من جهةِ الوَضعِ في انتزاع أي مَعنى (نَزعمه أو يَزعمونه) انتزاعاً متيقَّناً؛ اعتباراً لاحتماله الآيل إلى الظن، لكنْ؛ قد كان تَلافِيه (أيْ: تلافي الظن) بالنسبة لنا حاصلاً (كما مضى) بالفزعِ إلى تَبيُّن قصدِ المتكلِّمِ به من خلال استعماله إياه “لَتُبَيّنُنَّه للناس ولا تكتمونه”؛ فكان إدراكُ معنى التبيين على أنه الإظهارِ الذي يقابل الإخفاءَ إدراكاً يقينيّاً على قاعدة المتفق عليه من أن الوضع حين لا يسعف في الدلالة؛ يُفزَعُ إلى استعمالِ المتكلِّم، فلا زيادة على هذا المعنى تَثبُتُ؛ إِذْ لا دليلَ يُساوي (بلْهَ أن يتفوَّقَ) الخطوةَ الانتقاليةَ المتَّبَعَةَ في ضبط العلاقة بين اللفظ والمعنى.
بل أكثرَ من ذلك؛ فإنّا خَطَونا خطوةً إضافيةَ في تمتينِ معنى الإظهار الذي يقابل الإخفاء بأدلَّةٍ أخرى من القرآن (الدليل الأول عندنا وعند المخالِفِ)؛ باعتماد المنطوق الصريح أو دلالة العبارة (الدلالة الأولى عندنا وعندهم) من خلال نقدٍ ذاتيٍّ على شكل أسئلةٍ نُوجِّهُها لمعنى الإظهار المُحَصَّلِ هذا نِيابةً عنهم، وذلك كالآتي:
السؤال الأول: إذا كان لفظ “لتبين لهم” يعني فقط؛ الإظهار الذي يقابل الإخفاء كما مضى؛ فهل يعني ذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام ليس عليه إلا البلاغ؟ ثم نجدُ أنَّ هذا المعنى الأخير المُفترض؛ ليسَ معنىً يُنتَزَعُ استنباطاً؛ وإنما هو الآخرُ مَنصوصٌ عليه عبارةً واضحةً لا لبس فيها في قوله تعالى “وما على الرسول إلا البلاغ”، فكان حُكماً (معنىً) صريحاً؛ يُعزِّزُ حُكماً (معنىً) صريحاً.
السؤال الثاني: حين يتقرَّرُ ما مضى؛ هل معنَى ذلك أن البيان واقعٌ في الكتاب لا خارجه؟ ثم نجدُ هذا المعنى (أي كون البيان من داخل الكتاب) ليس بِمُستَنبَطٍ أو مُحَصَّلٍ باللُّزوم؛ وإنما هو واردٌ بالتنصيص عليه بالعبارة الصريحة في قوله تعالى “من بعد ما بيَّنّاه للناس في الكتاب” وقوله “ثم إن علينا بيانه”.
السؤال الثالث: هل يعنى ذلك أن الله لم يفرِّط في الكتاب من شيء؟ ثمَّ يأتيك الجواب هو أيضاً منصوصاً عليه عبارة في قوله تعالى “ما فرّطنا في الكتاب من شيء”.
السؤال الرابع: هل معنى ذلك أن أي تنازُعٍ لا يُرفَعُ إلا بحكم الله؟ ثم يكون الجواب: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمُه إلى الله}؛ مُخصِّصَةً العموم الوارد في {فإن تنازعتم في شيءٍ فردوه إلى الله والرسول} (لأن المتفق عليه أن العام حين يطالُه التخصيص؛ يُحمَل على خُصوصه) إذ الرسول رسولٌ بالرسالة (فلا أَمْرَ ولا نَهْيَ دينِيَّ مُلزِمَ إلا منها)؛ وبَشرٌ بالإمامة والقيادة يتصرف ويحكم بما يراه مناسباً في تقنين المُباح الواسعِ؛ إذناً قابلا للتغيير، ومَنعاً قابلاً للتغيير.
السؤال الخامس: هل نفهمُ مما سبقَ أن الدِّين قد كان مُكتَمِلاً قبل وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام؟ ثم نجدُ الجواب: “اليومَ أكملتُ لكم دينكم” فنصدقه على الحقيقة؛ ونترك غيرَنا في رَيبِهم يَتَردَّدون.
السؤال السادس: هل يعني ذلك أن الحُكمَ (المُلزِمَ دِيناً) يكون لله حَصراً؟ (ومن المُلزِمِ دِيناً؛ إبقاءُ ما ليسَ يَلزَمُ دِيناً؛ غَيرَ مُلزِمٍ دِيناً) وأنَّه لا يُشرك في حُكمِه أحداً؟ ثم تَجِدُ هذا المَعنى غيرَ حاصلٍ استنباطاً؛ بل مَنصوصاً عليه هو الآخرُ تصريحاً في قوله تعالى {إن الحكمُ إلا لله} وقوله تعالى: {ولا يشرك في حكمه أحداً} مِن خَلقِه؛ بِمَنْ فِيهِم رَسولُهُ الذي لَيس عليه إلا البلاغ؛ وذلك أيضاً تصريحاً واضحاً بالنص لا بالاستنباط.
السؤال السابع: هل يعني ذلك أن ما أوجبه الله علينا فِعلاً وتَركاً، وما حَرّمَه علينا قد جاء على سبيل التفصيل لا الإجمال؟ ثم يكون الجواب أيضاً بالتنصيص عليه في القرآن عبارةً صريحةً عن التفصيل في جِنسِه؛ بقوله تعالى {وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً} وقوله {كتاب أحكمت آياته ثم فصِّلت}، فدخل هنا التفصيل في الواجب، بما في ذلك الصلاة التي كان الإخبار عن كونها هي نفس صلاة السابقين؛ صادراً من الله بذكرها مع كل الرسل؛ وبذكر أن ما قيل وشرع للرسول هو ذات ما قيل وشرع للرسل من قبله إلا ما استثنى القرآن؛ فلم يعد ثمة حاجة للسؤالٍ عنها مطلقاً، ثم كان التفصيل في نوع مخصوصٍ منَ الأحكام (التحريم)؛ وذلك في قوله تعالى {وقد فَصَّلَ لكُم ما حرّمَ عليكم} (من أشياء أو أفعال)؛ فلا يُفهمُ ما يُذكَرُ من تَحريمٍ منسوباً للرسول إلا تحريماً بالرسالة، أي ما حُرِّم في القرآن، إذ سبقَ التقريرُ أنَّ الله {لا يُشرِكُ في حُكمه أحداً} من خَلقِه بمنْ فيهم رَسولُه الذي حصرَ مَهَمَّتَه في: {ما على الرسولِ إلا البلاغ}. فَمَن نُصَدِّقُ؟ إخبارَ الخالِق عن إثباتِ التفصيل لما أوجب وحرَّم بصريح العبارة؛ أم نُصدِّقُ نفيَ المَخلوق للتفصيل بشطحات الإشارة؟
وتكون حصيلَةُ هذه الانتقالات الاستدلالية؛ حُزمَةً من المعاني (الكُلِّيَّة / التقعيدية) المُتسَلسِلَةِ يشهد اللاَّحِقُ منها للسابِقِ، كُلُّها مُنتَزَعَةٌ بالدّلالَة الأولى من الدّليل الأول. ولَئِنْ كان ثمةَ مَسلكٌ بُرهانِيٌّ ما؛ على قواعد اللغةِ والعقلِ يُساوي (بَلهَ أن يَفوقَ) هذا المَسلكَ انضباطاً في بناءِ العلاقة بين مبنى الوَحي ومعناه (حُكمه) فليُخْرِجوه لنا.
وللعِلم؛ فإنَّ أولَ زَلَّةٍ أصوليةٍ فتحت البابَ نَحو “التيه الأصولي” الذي تَوَّهَ الفِقهَ فيما بعدُ؛ هي جملةُ الشافعي رحمه الله وهو يؤَسِّس للقولِ بوجودِ وَحيَيْن إذْ قال: “ليست تنزلُ بأحدٍ من أهل دين الله نازلةٌ إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدي فيها” وذلكَ حين أقحمَ باطلاً (هو نفي التفصيل في المُلزِمِ) في حقٍّ (هو هديُ الله وسُنَنه في خلقه؛ مِمّا يؤخذ به في سعةٍ وحريةٍ تامةٍ في منطقة الاختيار التي تشمل كل ما خَيَّرَ الوحيُ في فِعله أو تركِه). وعلى مقدمته المُختلَّة تلكَ؛ انبنت مقدماتُه الفاسدةُ الأخرى عن البيان المنوط بالرسول عليه السلام. كما أنَّ المنافَحةَ عنها لا تكون كلاماً مضطرباً عن صِلة الوُجود التشريعيّ (أمرُ الله) بالوجود الحِسّي (خلقُ الله) على نحو ما يبدرُ من بعض المتخصصين، وذلك بتقريرِ تكافئهما في جُملَةٍ؛ ثمَّ في جُملَة أخرى (ذاتَ ذُهولٍ) بإعدام الحسِّ لصالِح “النقل / الشرع الموجود في أذهانهم” بشكل ينسف ما تقرر سابقاً من تساوي الوجودَين (خلق الله / الحسّ، وأمر الله / الشرع)، والصَّحيحُ أنه لم يكن ثمةَ تناقضٌ بينهما؛ إلا من جهة شطحات الإشارة اللغوية وما انبنى عليها من إلزام نُسِبَ خطئاً إلى الوُجود التشريعي.
ويتقرَّرُ بناءً على ما سبقَ؛ أنَّ أصول الفقه في المُلزِمِ من الدين؛ ليست سوى الوضوح في التقرير بشأن أقسامِ الدلالة، والعام والخاص؛ والأمر والنهي، والوضوحِ بشأن موضوع النسخ (فِريَة النسخ التي يُرجَعُ في بيان بطلانها من سبعة أوجه؛ إلى كتابنا الذي صَدرَ مؤخراً: “البرهان في حاكمية القرآن: نَسَقٌ ثالث في أصول الفقه”. والتزامُها (أي تأصيل الأصول) على نَحوِ ما سَبقَ؛ آيِلٌ إلى مَصدَرٍ واحدٍ في إنشاء الحكم الشرعيِّ والكشف عنه؛ هو كتاب الله. وما خلا ذلك؛ إنما هي أصولٌ للمباح تنتشر ولا تنحصر، أي هي أصول “للفقه في الدنيا” لا في الدِّين، لا إِذْنَ لأحَدٍ أن “يزايد” بشأنها على أَحَدٍ، إذْ (مَثَلاً)؛ مُراعاةُ العُرفِ ساعتَها؛ ليسَ بأقل شأناً من القياسِ في تدبيرِ المُختَلفِ بشأنه ضمنَ ما جعله الوحي اختيارياً، والخَلطُ بين النوعين؛ هو ما يُوقع في سوء الفهم. وما ينسَب من سوء الفهمِ هذا إلى أهل التأصيل (الأصوليون؛ بالمفهوم العِلمي)؛ هو ذاته يغرق فيه “أهل التنزيل” من الحركة الإسلامية، (أو الأصوليون بتسميتهم من خصومهم السياسيين) وهم يتخبطون إلى اليوم؛ من المحيط إلى المحيط دون استثناء في فَكِّ شفرة العلاقة بين الدعوي والسياسي.
لذلكَ كنّا نجد عند أكابر المتقدمين رحمهم الله ما يقترب من هذا المنحى حين أَلْفَيْنا:
أبا حنيفة؛ يشترطُ التواترَ فيما تعمُّ به البلوى.
مالكاً بن أنس يؤخر خبر الواحد إن عارَضَ عمل أهل المَدينة.
إنكارَ الشافعي لنسخ القرآن بالسّنة.
إنكارَ الإمام أحمد للإجماع.
إنكارَ ابن حزم للقياس.
وحين تتأمَّلُ كلَّ هذا التّرابُط تَأمُّلَ مَن يَقرأُ القرآنَ كما لو أنّهُ عليه أُنزِل (وذا مَطلوبٌ)؛ تَتَبَيَّنُ تهافُتَ ما يُوهِم بِه السَّطحِيّون من المعاصرين (الذين خَزّنوا في أذهانهم قِطَعَ الغِيَار الأُصولي بالتشقيقات المنتزَعة من “جَمْعِ” السّبْكي؛ أو بمقاصدهم المأخوذة من “موافقات الشاطبي”) حين يَصوغون عباراتهم في اتهام غيرهم بِمُصادَمَة الأصول والقطعيات الدينيَّة (وهي في الحقيقةِ أصُولهم، وقطعيّاتُهم)؛ صِياغَةً خَطابيةً فَضفاضةً لا التِفاتَ فيها إلى مقتضيات التَّعالُقِ الذي يَقومُ به الاستدلال (وليس الاستدلالُ شيئاً سِوى النَّظر في التَّعالُق)، ولا التفاتَ فيها إلى اللُّزوم الأُصولي المُجَرَّد (وليسَ علم الأصول شيئاً سوى النظرِ في اللزوم بين الدّالِّ والمَدلول) بما يُبعِدها عن جهود إنتاجِ المَعرِفَة العِلميةِ المُنضَبِطَة؛ ويُقَرِّبُها من “الرُّقْيَة الشَّرعية” في العِلم، بصورةٍ تَجلِبُ الإِشْفاقَ على أهلِها؛ فَتَرمي بها في بَحر التَّجاهُلِ الذي لا ساحل له.
ماذا عن مدونة الأسرة في ضوء ما سبق؟
لستُ هنا في مَوقِع المُضطر لتناول مَوادِّها؛ الواحدة تِلوَ الأخرى، إذْ ليس بالضرورة أن يكون ما أقتَرِحُه مَحَلَّ الاقتناعِ به وتَنزِيلِه في هذه النُّسخَة مِن مُدوّنات الأُسرَةِ أو تِلك؛ فتلكَ مَسألَةٌ مَوْكولَةٌ للزَّمن وللأجيالِ المُتَعاقبة (والأفكارُ لا تَموت؛ فقد كتبَ الشاطبي رحمه الله “الموافقات”؛ وظلت خمسمائة عام لا يعرفُها أحَد، ثم شَغلَت فيما بعدُ كوكَبَ الأرض رغم تهافت الكثير من مخرجاتها في الأصول والفروع)، لكنْ يهُمُّنا إِحقاقُ ما نَراه حقاً؛ غَيْرَ هَيّابين مِن أحدٍ سوى الله؛ ولا طامِعين في أحدٍ سِواه سبحانه، فَنُنَبِّهَ على المِساحَةِ العريضة جِدّاً للإمكان الدِّيني في الاستيعاب لِواقِع الناس الذي تَتَّسع له حُدودُ اللهِ المتَرامِيةُ أطرافُها إِباحَةً؛ وتَضيقُ به “حدودُ الفقهاء” و “قطعِيّاتُهم” و “ثوابتُهم” (وقوانين الأسرة جزءٌ من هذا الواقع) فيها. وأنَّ الكثيرَ من المَفاهيم؛ حين يَتِمُّ نَخْلُها على ضَوء ما مَضى (أي على قواعد كتاب الله)؛ يَخرج بذلك الكثيرُ من صُوَر التَّقْنين عن وَصفِه بأوصاف مُعاداةِ الدِّين؛ ومُناقَضَتِهِ (مُعاداةً مُتوهَّمَةً، ومُناقَضَةً متوهَّمَةً)، كالذي رأيناه في “التَّشَنُّجات الفقهية” التّافِهةِ تَعليقاً على الدكتور أحمد التّوفيق وهو يَبني (في الدَّرسِ الحَسَني) مَفهومَ الرِّبا بناءً مِن داخلِ القُرآن، وبحدودِ القرآن، وشروطِ القرآن على غيرِ مَعهودِ القَوم.
ولنضربْ (على هذا الأساسِ) أَمثِلَةً في بيانِ مَوضوع الأُسرَة كالآتي:
موضوع الزواج؛ و”ضجيج” العلاقات الرضائية
واختلالُ النقاش بشأنه وارِدٌ من أوجه:
الوجه الأول: عدمُ الاكتِراثِ بِحَصرِ الأركانِ التي حَدَّها القرآنُ في بناءِ مَفهوم الزّواج وتَعيينِ ماهِيتِه؛ حِينَ قَصَرها على الإيجابِ والقبولِ والمَهرِ (مع مُرونة في الرُّكن الأخير؛ مِفتاحُها بِيَدِ الزّوجة). وتكون كلُّ مُصادَمةٍ لِشرطٍ زادَ عن ذلك (أيّ شرطٍ؛ بدءاً بالتوثيق وطريقته)؛ مُصادمَةً لشروطٍ وَضعيةٍ يَجوزُ فيها النُّقصانُ كما الزيادةُ حَسَبَ الأوضاع السُّلوكية للمجتمع (انضباطا وانفلاتاً) دون أن يتعلقَ ذلك بمعاداة الدِّين.
الوجه الثاني: إهمالُ منطق القرآن عن مفهوم “مِلكِ اليمين”؛ واستصحابُ الهُراء الذي ارتبطَ به (بالمفهوم) وصاغَهُ من خارجِ القرآن؛ حين تم ربطه حصراً بما يُسترَقُّ من سبايا الأسرى (يُجتَلَبن كرهاً، ويتمُّ بَيعُهُن كرهاً، ومُضاجَعتُهُن كرهاً)؛ في مُخالفةٍ صَريحةٍ وواضحةٍ لِكتابِ الله الذي حَصَرَ خيارَ التعامل معهم (أي مع أسرى الحرب) في العتق أو الفداء، وذلك بقوله تعالى {فإما مَنّاً بعدُ وإمّا فداءً}، وأَكَّدَهُ في مَوضع آخر بقوله {وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضاً لم تطؤوها} دون أن يذكُرَ نِساءَهم؛ إلا ما كان من أفهام مَبنية على شَطحات الإشارةِ في اللغة حين تَمتزجُ بِشطَحات النَّفْس الشَّهوية.
ذلك أن العودةَ بهذا المفهوم (مِلك اليمين) إلى المُحَدِّدات الحَصرِيَّة في القرآن الكريم؛ ستَجعلُنا أمامَ مَفهومٍ آخرَ مُختَلِفٍ جِذرياً عن الصِّيغة المُتوارثة، ويكونُ القرآنُ ساعتَها قد وضعَ بين يَدي الأُّمَّةِ والإنسانيَّة نَوعين مِن أنواعِ الحِلِّيَّة في العلاقة بين الرَّجلِ والمرأة لا ينقطعان إلى يوم القيامة:
الزواج: وهو عَقدُ إحصانٍ (استِمتاعٍ) شَرعيٍّ بِخصائِص الاستقرار؛ من مَسكَنٍ، ونفقةٍ، وأولاد، ورعايةٍ مُستدامَة، وغيرها مِمَّا عُلِمَ. وبأركانِه الثلاثة (إيجاباً، وقَبولاً، ومَهراً)، مع شرط البلوغ والرُّشد المَنصوصِ عليه قرآنياً في قوله تعالى {حتى إذا بلغوا النكاح؛ فإن آنستم منهم رُشداً فادفعوا إليهم أموالهم} بحيثُ جعلَ سِنَّ الزواج مُحَدَّداً بالرُّشد الذي تَصِحُّ به أهلِيَّتان اثنَتَان؛ أهليةُ الزَّواج، وأهليةُ التَّصرُّف في الأموال، ولا يُعدَلُ عن ذلك؛ إلا استثناءً تُحدِّده الخِبرةُ، ويَبُتُّ فيه القَضاء.
مِلكُ اليَمين: وهو عَقدُ إحصانٍ (استمتاعٍ) شرعيٍّ بِغير خَصائِص الاستقرار؛ بحيث يتعلق الأمرُ ساعتَها بِوضعٍ يَتنازلُ فيه طرفٌ ما أو كِلاهُما؛ عن حقٍّ من الحقوق التي يكفلُها الزواج العادي تأسيساً على {ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة} (التي تمثلها الأركانُ الثلاثةُ الموجودةُ في كِليهما)، وذلكَ مثل:
أن تتنازل المرأةُ عن السّكَن لِعُذرٍ يمنعها من مغادرة بيت أبويها؛ بسبب كونهما في حالة إعاقة مثلاً؛ وهي وحيدتُهما ومغيثتُهما، فيكون اتصالهما واستمتاعُهما على تباعد في الزمان. فهذا عقدُ إحصانٍ بمِلك يمين وليس بزواج ولو تَسَمّى زواجاً في الوثائق. وقريبٌ من هذا؛ ما كان قد اقترحه الشيخ عبد المجيد الزنداني حينَ تحدَّثَ عن “زواج الأصدقاء” فثارَت ثائِرَةُ حُرَّاس التفسير من خارج القرآن؛ مُتّهمين الرجلَ بالهذيان، في حين؛ كان الهذيانُ أبْعَدَ عن الرَّجُلِ حَصراً؛ وأقربَ من شاتِميهِ حَصراً.
أن تتنازل المرأةُ عن النفقة، والمَسكَن، وعن المَبيت المنضَبِطِ اعتباراً لوضعها المادي المريح؛ لرجلٍ متزوج ذي احتياجٍ طبيعي لم يسُدَّه الزَّواج (وللمرأة إن حصل معها نفسُ ذلكأن تَختارَ بين الاستمرار أو الطلاق)؛ فهذا عقدُ إِحصانٍ بمِلكِ يَمينٍ وليس بزواج.
أن يتنازلَ الرَّجلُ عن حقِّه في إنجابِ الأولاد لامرأة لا ترغب في الإنجاب (وقد يكون هذا التنازل من المرأة للرجلِ لذات السبب)؛ فهذا عقدُ إحصانٍ بملك يمين؛ وليسَ بزواج.
وتكون له صُوَرٌ أخرى تحت أسماء هنا وهناك؛ تستجد في زمن دون آخر، ومكان دون آخر، والجامعُ بينها؛ خُلُوُّ العَقدِ عن خصائصِ الاستقرار (أو عن بعضِها) التي تُشكِّل بمجموعِها ماهِيةَ الزّواج العادي. لذلك كان القرآن قد سمّى المرأة التي تُمَلِّكُ الرجلَ يمينها (كما يُمَلّكها هو يَمينَه) بأنها مُحصَنةٌ (غيرُ زانِية)، ثم راعى ما تَنازَلَتْ عنه عِند العقوبة حالَ إتيانِ الفاحِشة رغمَ هذا الإحصان؛ بِأنْ عاقبها نِصفَ عُقوبة المتزوجة، جاعلا الغُرمَ حَسب الغُنم بِحِسِّ الإنصافِ والعَدل، وذلك في قوله تعالى “فإذا أُحصِنَّ؛ فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب”.
ومعنى ذلك؛ أن كُلَّ علاقةٍ قامَت بينَ بالِغٍ راشدٍ وبالِغَةٍ راشِدَةٍ على حالٍ من نُقصان خَصائِص الاستقرار كالذي ذُكِرَ؛ فهي علاقةٌ شرعِيَّةٌ لا حِرمَةَ تطالها، كما أن الأبناء الذين تُثمِرُهُم هذه العلاقةُ؛ أبناءٌ شَرعِيُّون لا أبناءَ زِنى؛ ولو عاندَ في خلافِ ذلك شَرقُ الكَوكبِ وَغَربُه، إذِ الحِرمَةُ حكمٌ دينيٌّ مُلزِمٌ، والحُكمُ الديني المُلزِمُ لا يؤخَذُ إلا من صريحِ عبارَة القرآن.
فليست المسألةُ سوى نَظر في الوَحي؛ تنبثِقُ عنه قواعدُ تُقَعَّدُ، ومَفاهيمُ تُصاغ؛ وشروطٌ تُشترَط. وكُلُّ قاعدةٍ لا أصلَ صَريحَ لها في القرآن؛ وكلُّ مَفهومٍ صِيغَ خارجَ مُحدِّدات القرآن، أو شرطٍ زادَ عن شروط الله في كتابه؛ مُخالَفَتُه تكونُ مُخالَفَةً لِقانونٍ وَضعي مُتَغيِّرٍ زَماناً ومكاناً؛ وليست لِحرام دينيٍّ ثابتٍ مُتعالٍ عن أثرِ الزمان والمكان، وقُدسيةُ الأَوّل حَتماً تنزِلُ رُتبةً عن قُدسيَّة الثاني رغم وجوب الانضباط للاثنين.
الوجه الثالث: إهمال الآيات المتعلقة بالوجوب الأخلاقي ذات الصلة بالموضوع؛ مثل آيات حفظ الأمانة، والوفاء بالعقود والعهود، وغيرها مما يلزَم معه إنزالُها في الامتثال نفسَ الدَّرجة. إذ (مَثلاً)؛ ليس عِصيانُ الأمر في {وعاشروهن بالمعروف} بأقَلَّ إثماً وعقاباً من عصيانِ الأمر في {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة}. كما أن مسؤولية المجتمع في حماية الأمر الأول (المعاشرة بالحسنى)؛ لا تَنزِلُ رُتبةً عن مسؤوليته في حماية الأمرِ الثاني (الأمر بالصداق)، ونفس ذلك عن الأمانة، والوفاء بالعهد، وغيرها من أوامرِ القرآن الذي يَهدي بِكُلِّه للتي هي أقوم. وحين يُقصِّر المُجتَمَعُ في حماية الجزء الأخلاقي من أوامرِ القرآن تربوياً، وإعلامياً، وتعليمياً، واقتصادياً، وسياسياً، وفنيّاً؛ فإن الاختلالات (ومنها الأسرية) التي تظهر إذّاكَ؛ لا يمكن مُعالجتُها بالكذبِ على الله أنه حرَّمَ كذا وكذا قَدحاً مِن رؤوسِنا؛ إنما تُعالَجُ بوضع السياسات التي تحفظ تلك القيم وجوداً وعدماً، وبتفعيل آليات الرقابة المجتمعية، وتَحميلِ كلِّ مُقَصّرٍ مَسؤوليتَه عن تَقصيرِه الفردي أو الجماعي الذي تَضَرَّرَت بِسببه الاستطاعةُ في {ومن لم يستطع منكم طَوْلاً أن ينكح المحصنات المؤمنات} ليجد المُكَلَّفُ نَفسه مُجبَراً على {فممّا مَلكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات.
موضوع الطّلاق:
ويكونُ حَدُّه بحدود القرآن وضَبطُهُ بضوابطِه؛ عائداً عليه بالتقويم من جوانب نذكر منها:
ربطه (الطلاق) بالعَزمِ على مُقتضى قوله تعالى {وإن عزموا الطلاق}؛ وفي ذلك تمنيعٌ له من التلاعب به، وإبطالٌ واضحٌ لكلِّ طلاقٍ جاء مبناه على الهَزل أو الغضبِ إذِ العزمُ مُنافٍ لِكِلَيْهِما.
لا وجود لطلاقٍ بائنٍ بَينونَةً كبرى من أول تطليق لمجرد التلفظ فيه بجملة “طالق ثلاثاً” لِصَراحَة القرآن في {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} فلا التفات لما سوى ذلك.
جعله بيد القضاء؛ تأسيساً على آية العزمِ أعلاه؛ مُضافَةً إلى آية الشقاق.
موضوع النسب:
ويكون إسلاسُ القِيادِ لقوله تعالى {ادعوهم لآبائهم} بعد العِلم بهم توسلاً بكلِّ ما أرانا الله في الآفاق وفي الأنفُس من وسائل العِلم إلحاقاً للأبناء بآبائهم؛ مطلوباً يتصدَّرُ كُلَّ المَطالب، وأمراً قاضياً على كل الأوامر، وتصريحاً يتقدم ويعلو على كُلِّ تخَرُّصٍ وتخمينٍ، وامتثالاً جالباً لما عُلِمَ من المصالِح والمَقاصِدِ وما لم يُعلمْ، أي كان دليلاً يعلو (في غير ثرثرةٍ) على كلِّ “الأدلَّة”.
موضوع الإرث:
ويكفي فيه أن نشير إلى أن تسعة أعشار اللَّغَطِ بشأنه تَختفي بِمُجرد تخلِّي الفقهاء عن التطاول على قطعيات القرآن في:
الأمر بالوصية المُطلَقِ عن كلِّ قيدٍ؛ سوى قيد ربطها بـ “المَعروف” الذي جعله الله تأميناً للحد الأدنى من العدل بين الورثة.
حَصرِ التَّعصِيبِ في الأبناء دون غيرهم.
موضوع وِلاية المرأة:
ولا يتطلب بيانُه هو الآخر كثيرَ كلامٍ. لأنَّ اختصارَ القولِ في تقرير حَصرِ البيان للقرآن بالقرآن؛ يُسقِطُ كلَّ أوراق اعتمادِ المُخالِفِ وهو ينفي الولاية عنها؛ بِمُجَرَّدِ سماع قوله تعالى {ولَهُنَّ مِثْلُ الذي عليهن بالمعروف} وقوله تعالى {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} دون مُخَصِّصٍ صريحٍ للآيتين من القرآن.
ثانيا: عن الاحتماء بالمقولة المَلَكية “لن أُحِلَّ ما حرّم الله”
ومَفادُ الأمرِ؛ أن التعويلَ على اجتزاءِ هذا النصّ واقتطاعه من الخطاب الملكي للاحتماء به في تعويض ما يَظهَرُ من نَقصٍ شديدٍ “للمواد الصّلبَة” في الاستدلال الأصولي حين كان الأمرُ نظراً في الوحي؛ لا يُسعِفُهُم في مرادِهِم إذا نَحنُ استعرَضنا المَقولةَ كامِلةً غيرَ مُجتَزأةٍ وهي: “وبصفتي أمير المؤمنين فإنني لن أحِلَّ ما حرّم الله، ولن أُحرّم ما أحلَّ الله، لا سيما في المَسائل التي تؤطِّرها نصوصٌ قرآنيةٌ قطعية” (خطاب العرش 2022). وبيان ذلك من أوجه:
الوجه الأول: أن الخطاب المَلكي كان مُتوجِّهاً إلى نَفي أمْرين اثنين عن نفْسِه نَفياً واضحاً؛ وهما:
لن أُحِلَّ ما حرَّم الله.
لن أُحَرِّم ما أحلَّ الله.
ففي الوقت الذي ساغ للفقهاء أن يحتموا بالنفي الأوَّلِ وَهُمْ يَتَّهِمون غَيرَهُم بِتَحليلِ ما حرّمَ اللهُ؛ كان لهذا الغَيرِ كلُّ الحق بالمُقابل؛ في الاحتِماء بالنَّفيِ الثاني وَهُمْ يعيدون البوصلة إلى الاتجاه المعاكس اتهاماً للفقهاء بتحريم ما أحلَّ الله.
الوجه الثاني: نفسُ المقولَة كانت واضِحةً في أنّ ترجيح هذا “التعادُلِ” لا يكون إلا بالبناء على القطعيات؛ وأن المرجع الحصري في هذه القطعيات (على النحو الذي ننادي به) لا يخرج عن النصوص الصريحة القطعية من القرآن الكريم لا من خارجه.
الوجه الثالث: أن النفيَ الوارِدَ في هذا الجُزءِ من الخطاب المَلَكي؛ واقِعٌ على مُقتضى ما دَوَّنتُه في مقالي هذا؛ وسَوَّدتُه في كتابي “البرهان في حاكمية القرآن: نسقٌ ثالث في أصول الفقه” عن ضرورة التمييز في الدِّين بين الحُكم المُلزِم فِعلاً وتَركاً؛ مما لا مصدَرَ له إلا نُصوص القرآن الكريم، ومِساحته ضيقةٌ جدّاً؛ والحُكمِ غير المُلزِم (المباح الذي يشمل الكراهة والندب)؛ مما يكون فيه الاختيارُ بين الإقدام فيه والإحجام عنه، أي بين التصرُّف فيه إذناً أو منعاً دونَ أن ينشأَ عن ذلك التصرفِ حَرَجٌ في الدين الذي كان هو من تولى تحديد كون هذه المنطقة منطقةً اختياريةً، فكانت مباني الوحي قد باحَت بسِرِّها وقالت كلِمتَها بمجرَّد هذا التحديد؛ ليكونَ ما يأتي بعد ذلك من تَقنين وتقييد لها (للأحكام غير المُلزِمة) لا يجعل السلطة في موقع المُضطَرِّ إلى جِهةٍ مَخصوصَةٍ لأخذِ الرُّخصة الدينية لذلك التقييد والتقنين؛ لأن الدين قد قال كلمته. فلو كنّا مثلاً أمام مَسبَحين اثنين رخصتُهُما مأخوذةٌ من سلطة واحدة؛ أحدُهما يُوجب سباحةً بطريقةٍ مُحدَّدة (مَنطقةُ وُجوب)، والثاني يجعلُ السباحَة حُرّةً؛ فلا يعني هذا أن أحداً سيسألُ في المسبَحِ الثاني أن يُرَخَّصَ له في أن يسبحَ بكيفيَّة ما، لأن الرُّخصَة الأصلية في كل الكيفيات قد صدَرت فعلاً وانتهى الأمر.
أعلَمُ أنَّ هذه المقاربةَ لا يُتيحُها النَّسَقانِ الأصوليان المُتوارَثان (نسقُ الجمهور؛ مَعطوفٌ عليه تأويلُ الشِّيعَة، ونَسقُ ابن حزم)؛ لكن يَسمحُ بها النَّسقُ الأصولي الذي اقترحتُ هنا وفي كتابي المذكور. ذلك أن نَسفَه لمقولة “سكوت الشارع” لم يكن له عائِدٌ بالإبطال على إقحام القياس الجزئي الأصولي في الوجوب الديني فَحسبْ؛ وإنّما بإبطال القياس المَصلحي (المقاصدي) في الواجب (أي الفرض والحرام) بناءً على تبعية القول بالمصالح المرسلة لمقولة السكوت التافهة التي كانت تُجبِرُ على الرجوع إلى الفقهاء للاجتهاد في ما “سكت” الشرعُ عن اعتباره أو إلغائه من المصالح؛ ليتَولّوا هُمْ هذه المَهمَّةَ إكمالاً للدين، إذِ الحُكم بالسكوت حُكم بِنقصٍ ما. في حين؛ أنَّ ما يَصحُّ من ذلك بناءً على نَسَقِنا هذا وعلى نظريتنا في المقاصد؛ هو القول بربطِ المَصالح بالحُكمِ التكليفي؛ لننتهيَ إلى مَصالح واجبةٍ (الفرض)، ومصالحَ مُلغاة (الحرام)، ومَصالح مُباحَة تشمل ما تعلَّق بالندب والكراهة. وكونُها مُباحةٌ؛ فإن الحُكمَ بإباحتها حُكمٌ من الله، وهو القول الدِّينِيُّ النِّهائيُّ بشأنها، ويكون بموجب ذلك أن تصير تَصرُّفاتُ السُّلطةِ الزَّمنية بِشأنِها تقييداً للإقدام فيها أو الإحجام؛ غيرَ مُلزَمَة بإذنٍ دينيٍّ جَديدٍ من أَحَدٍ.
هل يَعني هذا أنه يمكن (مثلاً) الاستغناءُ عن خدمات المجلس العلمي الأعلى مركزياً ومَحَليّاً؟ والجواب: أي نعم، لأن كُلًّ تدخلاته لا تملك الخروجَ عن نِطاقِ ما تَسمح به مَقولة السُّكوتِ الفاسِدَة تِلكَ، وتَبَعاً لها؛ مَقولَةُ المَصالِحِ المُرسلة الفاسِدة تلك أيضاً. ويمكنُ أن يُعادَ النظرُ في الأرضيةِ المَعرفية للمجلسِ؛ لننتقل بها من أرضية فِقهيةٍ دينيةٍ خاصَّةٍ؛ إلى أرضِيَّة معرفية عِلمِيَّة عامَّةٍ، بنفسِ البناء التنظيمي، بحيثُ لا يتغيرُ شيء إلا في شروط العضوية التي تصيرُ تابعةً للأرضية المعرفية الجديدة لنرى المجلس في حُلَّتِه الجديدة؛ وقد بُنِي بتمثيلياتٍ للحقول المعرفية كلها.
كما أنَّ المُؤَسسة المَلَكِيّة نَفْسَها؛ لا حاجَةَ حَيَوِيّةً لها مُرتبطةٌ به في حُلَّتِه الحالية. وكيف تحتاجُ مؤسسةٌ عُمْرُها قرونٌ؛ إلى مؤسَّسَةٍ عُمرُها أعوام؟ ولأن المَلَكيةَ باعتبارها خِياراً من الخيارات التي عرَفَتها الشُّعوب في تأطير اجتماعِها؛ قد ذكَرها القرآنُ في غير إلغاءٍ صريحٍ لها، بمعنى أن التنازُعَ الذي يحصل عادةً في المجتمعات على قاعدة مَطالب العدالة الاجتماعية والحرية والكرامة؛ لا يُمتَنَعُ فيه (بالمعيار الديني) أن يتمَّ في ظلها.
هذا النسقُ الأصوليُّ الذي أَقتَرِحُ، والذي يؤَطِّرُ ما مضى من الحقائق المَنهَجِيَّة والقَضَوِيَّة؛ نسقٌ مُتماسِكٌ مُؤَسَّسٌ على تَعالُقِ مُقدِّماتٍ لا انفِكاكَ عنها، بحيثُ يمكن (ضمن نسبية النظر؛ ومنه نَظَري أنا) أن يقع الاختلافُ معه اتساعاً للنظر في واحدة من مُقدماتهِ العُلويِّة أذهبُ مِنها ذاتَ نفيٍ؛ ويَذهب غيري ذاتَ إثباتٍ (كأن يوجدَ مَثَلاً من يقرن الحِجِّيّة بالظن)؛ فيكونُ خلافاً عالياً، وهذا لا يضرُّ، أمَّا إلغاؤُهُ أو نَفْيُه؛ فَلَوْ تَآزَرَ عليه المُتخَصِّصونَ (فما بَالُك بغيرهم) القادمون من التعليم العَصري أو العتيق، من القرويين، ومعها الزيتونة، والأزهر، ومجمع الفقه بجدَّة، وحوزات قُمْ، ودار النَّدوي؛ لما أَمكَنَهم ذلك، بل لو قُدِّرَ لكلِّ هؤلاء أَن يُعتَصَروا في عَقلٍ واحدٍ؛ لَمَا وَسِعَ هذا العقل أن يَهدِمَه، لأن القضيةَ احتمالاتٌ تتواردُ؛ ومَعرفةٌ تَتراكَمُ بِترتيب ما تَوارَد. كما أنَّ هذا النسقَ الثالث؛ هو الأقدرُ في نظري على جلب لِقَاحٍ فعّالٍ يعالِجُ أسقامَ المتشدّدين في الدّين والمتَشَدّدين في الدنيا على حدٍّ سواء. لذلك؛ لَسنا اليومَ بحاجةٍ إلى إِلْجامِ العَوامِ أو “العِلمانيين” كما حصلَ ذاتَ تَرتِيبٍ؛ وإنَّما نحنُ اليومَ بحاجةٍ إلى إِلْجامِ الخَواص من الفقهاء عن الوِصايَةِ على أَحكام الله المُباحَة.
المصدر: هسبريس