التغيير فوبيا في مقال للبروف عبدالله على ابراهيم وعن قصة (..وحتى الصغار) أحكي لكم
كتب استاذي البروف عبدالله علي ابراهيم مقاله الرصين والشيق في هذا الموقع وغيره من المواقع ، بعنوان التغييرفوبيا ، بتاريخ 14 أبريل 2014م وكان عن الثورات “عموم الثورات” التي نقول عنها ، أنها لم تكتمل او أنها أجهضت وأندثرت وماتت ، لكنها دائماً حية ، تنمو خلاياها وتتجدد وتتواصل .
فعدت لهذه القصة القصيرة من مجموعتي القصصية (إليكم أعود وفي كفي القمر) للربط بين الثورة وأكتمالها ، ورؤية البروف عبدالله من داخلها ، وليس قشور خارجها .
وكان أول نشر لها بداية عام 1965م في جريدة الميدان الصفحة الأدبية التي كان يشرف عليها البروف عبدالله على ابراهيم ذلك الزمان وخُتِمت تلك القصة بعبارة النهاية :
(ويراه: الجرح الغائر في جبهته ، تضيئه أشعة الشمس الحارقة ، وصندوقه ملقىً على الأرض ، في جانب منه حيث صورة الشهيد القرشي ، يوجد دم .. وفي جانبه الآخر بقيت كلمه .. لم تكتمل بعد…) .
وثورة أكتوبر ظللنا في وصفها الثابت ، أنها لم تكتمل ، ولكنها حسب البروف لم تمت لأنها الحلم الأبدي المتسع فتواصلت أكتوبر في ثورة مارس / أبريل 1985م ، وأيضاُ قلنا عنها أنها لم تكتمل ، لكنها عادت فتية ناصعة ، وأقوى وأكبر ، في ثورة ديسمبر 2018م المجيدة ، وستستمر الثورة “عموم الثورات الحلم” إلى أبد السودان وشعبه وشغفه الثوري بالتغيير حياً ، فالثورات قد تخبو ولكنها لا تموت وصحيح قد لا تكتمل ، ولكنها تكمل مسيرتها . لأنها بوسع الحلم المتجدد أبداً ، ما عاش ذلك الشعب بداخله ذلك الحلم الأبدي المتجدد ، حتى لو إنتصر ، ويظل شغفه بحلم الثورة متواصلاً لنصرٍ أعمق .
***
قصة قصيرة : [..وحتى الصّغار !!]
***
عام 1965م في جريدة الميدان اشراف عبدالله على إبراهيم
بقلم / عمر الحويج
شارع الأسفلت ، طويل وعريض: على جانبيه ، عمارات ذات أشكال هندسية حديثة ، ترتوار . يتوسط شارع الأسفلت ، مرصوف بعناية ومدهون .. كذلك بمتوالية اللونين ، الأبيض والأسود.. وعلى طوله عمدان عليها لمبات نيون ملونة ، وغير ملونة.
تحت ظل شجرة ، على جانب شارع الأسفلت ، وعلى الأرض التراب.. جلسا : طفلان.. أمامهما ، صندوقا ورنيش ، ملصق على كل منهما ، وباهتمام ملحوظ.. صورة مكبرة للشهيد “أحمد القرشي” أحدهما.. وهو الأكبر من أبناء الشمال ، هزيل الجسد ، حليق شعر الرأس ، حافي القدمين ، على الجسد النحيل ، عرّاقي بلدي ، استنزف منه الكثير من المال ، حين اشتراه ، أخرجها بسخاء عساه يحمي جسده من ويلات الطبيعة القاسية ، ولكنه .. العرّاقي ، فشل في مقاومة هذه الويلات ، فقد تمزقت أطرافه ، واختفى لونه الأبيض ، داخل بقع الورنيش .. متعددة الألوان .. الآخر رفيقه في المهنة وهو الأصغر ، من أبناء الجنوب : ما يعرفه عنه الآخرون، حسب ما رواه هو ، عن نفسه .. إنه وأمه حين أشتد بهم الفقر والجوع و.. ضرب النار ، هربا معاً ، إلى أقرب مدينة ، خارج حدود الجنوب. حين اشتد بهم الفقر أكثر ، قررت أمه ، أن ترسله إلى الخرطوم أودعته يومها القطار ، ووقفت بعيداً عنه ، تحتضنه بعينيها ، والدموع تحجب عنها حتى شبحه ، فلا تراه كما ترغب ، وحين بدأ القطار في إعلان تحركه ، مطلقاً صافرته : تذكر لحظتها .. الفتى الصغير .. حضن أمه الدافئ .. والحنون ، وهذا ما دفعه والقطار يتحرك ، أن يحاول الارتماء ، على هذا الحضن ، ولكن الأرض الصلبة هي التي احتضنته ، وكان دم .. وجرح غائر في جبهته .. لا يزال. ضمَّدته أمه ، بحفنة تراب.. وبعض أعشاب ، وأودعته بعدها ، قطار اليوم الثاني.
الكبير .. ابن الشمال يحفر في صندوقه بعض كلمات. الصغير ابن الجنوب يسأله .. ماذا يكتب؟؟، الكبير ابن الشمال ، يجيبه وهو منهمك في الحفر “دماء الطلبة فداء الشعب“ ، يبتسم الصغير ، ابن الجنوب فقد سمعها كثيراً هذه الأيام ، بل ردَّدها “دماء الطلبة..”، كان ذلك ، حين جاء أولئك الناس ، وتجمعوا فجأة ، من أين أتوا ، هو لا يعرف ، ولكنه يذكر ، أنه تأبَّط صندوقه ، ودخل وسطهم ، وأخذ يردد معهم .. دماء الطلبة فداء الشعب … مد صندوقه إلى الكبير ابن الشمال ، قائلاً .. أكتب عليه عاش كفاح الشعب فهي أيضاً ، عبارات رددها كثيراً ، الأيام الفائتة. الآخر.. يحتضن الصندوق ، يتكيه على الجانب الآخر من المكان الملصقة عليه صورة (القرشي).. يبدأ في حفر كلمة واحدة ، ولكنه أحس بالتعب، أصابعه الممسكة بقطعة الحديد المدببة ، تؤلمه.. ينفخ عليها بفمه ، يشعر بالألم يخف قليلاً ، بطرف العرَّاقي يجفف العرق ، من على وجهه ، يلقي بنظره على طول الأسفلت أمامه ، في نهايته: بناء شامخ ، حوله عسكر ، مدججون بالسلاح ، يعيد النظر مرة أخرى ، بالأمس ، رمونا بالقنابل المسيلة للدموع ، رشقناهم بالحجارة ، حاصرونا بالأسلاك الشائكة ، الناس لم تخف. أنا أيضاَ لم أخف ، كنا نردد الإضراب سلاح الشعب أين يا ترى قرأت هذه العبارة؟.. أيوه .. تذكرت .. أخي ، ورقات كانت له ، كانت المدينة هادئة وصامته ، وشمسها محرقة ، جئت ساعتها من الخارج ، هممت بخلع ملابسي ، وكان أخي ، هو وجماعته كما تسميهم أمي يجلسون في الغرفة الأمامية ، حينما سمعت طرقات ، على الباب. رميت ، ما بيدي .. وعلى عجل ، أسرعت لفتح الباب ، وقبل أن أصله .. الباب ينفتح بعنف.. يندفع إلى الداخل أحدهم ، يتبعه آخرون ، ما حدث بعد ذلك ، يصعب تذكره ، قبضوا على أخي وجماعته كما تسميهم أمي أخذوا يفتشون المنزل : الأرض وحفروها .. كل شيء وبعثروه .. حتى (التُّكُل). لم يستثنوه .. أدخل أحدهم يده في “خمّارة العجين “.. أذكر يومها أن أمي حملتني إياها ، لأسكبها في الشارع .. كل ذلك ، ولم يجدوا ما جاءوا يبحثون عنه. رغم ذلك .. قذفوا بأخي وجماعته كما تسميهم أمي داخل كومر الحكومة وذهبوا. بكيت يومها كثيراً ، ولكن أمي لم تبكِ ، بل أسكتتني بنهرة قوية ، ومن خلال بقايا دموعي ، رأيتها تحفر في جوف جدار مهجور لم تصله أيديهم ، رأيتها تخرج عدة رزم من الأوراق المهترئة ، صبّت عليها كمية كبيرة من الجاز ، ثم أشعلت فيها النار. تركتها مشتعلة ، وغادرت المكان.. يومها دفعني حب الاستطلاع ، لكشف سر كل هذا الذي يجري أمامي ، وأنا لا أفهمه .. فتسللت خلسة إلى حيث النيران المشتعلة ، استطعت أن ألتقط إحدى الأوراق ، التي أبعدها الهواء ، عن السنة النيران ، أزلت ما علق عليها من تراب ورماد .. رأيت عليها كتابة باهتة ، التقطت عيناي بصعوبة عبارة لم أفهمها في حينها ، تتحدث عن الإضراب السياسي ، وحتى أمي لم تتركني أفهم أكثر .. كفاية أخوك الكبير .. هكذا تمتمت ، وهي تمزق الورقة ، التي كانت في يدي .. ولكني الآن بدأت أستوعب معناها. يرفع رأسه ينادي رفيقه الآخر. بعد أن تأكد له أن رفيقه أعطاه انتباهه ، يهمس له : الناس كلهم أضربوا عن العمل .. ليه نحن ما نضرب عن العمل مثلهم. رفيقه الآخر لا يجيب. بل تجذب انتباهه ، وقع خطوات ، والتي دائماً ما تعني له الكثير ، الخطوات تتوقف أمامه ، صاحبها يسأل .. عندك ورنيش أحمر؟.. كلمات رفيقه ترنّ في أذنه .. لماذا لا نضرب عن العمل مثلهم .. رد سريعاً على صاحب الخطوات .. عندنا ، ولكن نحن أضربنا عن العمل ، يتبادل ورفيقه ، ضحكات انتصار مرحة .. حمل الكبير ابن الشمال صندوقه ، وأراد التحرك. الآخر الصغير .. ابن الجنوب يوقفه: أكمل لي كتابة الكلمات ، التي بدأتها. يتوقف الكبير .. ابن الشمال يأخذ منه الصندوق، يمر بنظره سريعاً ، على الكلمات التي أكمل حفرها: “عاش كفاح…” بقيت كلمة واحدة يمسك بقطعة الحديد المدببة ، قبل أن يشرع في حفر الكلمة الأخيرة ، رفيقه يلكزه على كتفه .. سامع ، مظاهرة .. أيوه .. سامع ، أجرى نحصلها. يتأبّطان صندوقيهما ، يجريان بسرعة وجهتهما الأصوات الهادرة ، المتجهة صوب البناء الشامخ .. يجريان أسرع . الكبير ابن الشمال يجري وأفكار سريعة تجري داخله .. جلابية المدرسة ، ما زالت في دولاب أمي ، آخر مرة رآها .. الجلابية .. لم تكن جديدة ولكنها نظيفة .. غير بقع من الحبر .. يا لخبثه!! ، لقد رشها بنفسه ، يوم سمح له معلم اللغة العربية ، باستعمال الحبر لأول مرة .. يا ربى حاجة مدينة تكون هي أيضاً ، أضربت عن العمل . إنه اشتاق لطعميتها .. إلى القصر حتى النصر .. يردد مع الآخرين . صوت فرقعة قوية ، إنها ليست أصوات القنابل المسيلة للدموع ، التي اعتاد على سماعها ، الأيام السابقة ، لا .. إنها أصوات ، رصاص .. والناس تتقدم . الرصاص لن يرهبنا.. ناس تقع على الأرض .. وناس تتقدم ، و… يلتفت بحثاً عن رفيقه.. ويراه : الجرح الغائر في جبهته ، تضيئه أشعة الشمس الحارقة ، وصندوقه ملقىً على الأرض ، في جانب منه ، حيث صورة الشهيد القرشي، يوجد دم .. في جانبه الآخر بقيت كلمه .. لم تكتمل بعد …
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة