ربيع دامع العينين وأربعة هواشم تليق بتقدير مستحق
“ربيعٌ دامعُ العينَيْنِ وأربعةُ هواشِمَ تليقُ بتقديرٍ مُستحَقٌّ”
محمَّد خلف
قبل سنواتٍ من تعريب المناهج في المدارس الثَّانويَّة وقبل عقودٍ أخرى من تخريبِ الجامعات وظهور ذوي السَّبَّاباتِ الطَّويلة، كان ربيع الطَّيِّب عبد القادر يستذكر دروسه بصحبة صديقه هاشم بحوش الكراكسة ببيتِ المال، فتتناثرُ أمامهما كتبٌ سميكة باللُّغةِ الإنكليزيَّة لموادِّ الفيزياء والكيمياء والأحياء والرِّياضيَّات، توطئةً لاستيعابها جميعها لضمان اجتياز امتحاناتِ الشَّهادة السُّودانيَّة من المدرسة الأهليَّة بأمدرمان. وكان الطَّالبانِ الصَّديقان يسهرانِ لوقتٍ متأخِّرٍ من اللَّيل في ديوان جَدِّي محمود سليمان كركساوي، زوج حليمة بِتَّ الطَّيِّب، الأخت الكبرى لربيع: آخرِ العُنقودِ، وبينهما عددٌ من الكريماتِ والأكارم، يستقرُّ معظمهم بالخرطوم تلاتة، جنوب ميدان عبد المنعم (نادي الأسرة لاحقاً). وكانت لدى الصَّديقَيْنِ عادةٌ غريبة، لكنَّها مبرَّرةٌ في حينِها، فقد كانا يطرُدانِ الكَرَى بأكلِ اللُّبِّ (التَّسالي) طوال اللَّيل. ولبُعدِ مكانِ شرائه وحاجتِهُما إلى استثمارِ الوقتِ في التَّحصيلِ الأكاديمي، كانا يستنجدانِ بالصِّبيةِ اليافعين الَّذين يعبرون فناءَ الدَّارِ عصراً، لِيذهبَ واحدٌ منهم لإحضار اللُّبِ من بائعِ “تسالي” على قارعةِ الطَّريق عند ناصيةٍ بود أُرو، بالقرب من موقف “التَّكاسي” الذَّاهبة إلى الخرطوم. وكنَّا نجِدُ متعةً مزدوجة في هذه المشاوير اليوميَّة، لأنَّ بائع “التَّسالي” يبيعُ بضاعته الطَّازجة في “قراطيسَ” مُجهَّزة سلفاً، ثم يُعطي المشتري “هُوادةً” بقبضةِ اليد، يضَعُها على أكفٍّ صغيرة، لكنَّها كافيةٌ لتسليتنا على طرقٍ كانت في واقعِ الأمرِ امتداداً مُسالِماً لبيوتِ الطِّين المطمئنَّة؛ علاوةً على ذلك، كنَّا نتلقَّى “قرطاساً” من هاشمٍ وآخرَ من ربيع، أجراً على المشوار، فتكتملُ البهجةُ بقزقزةِ التَّسالي حتَّى مغيب الشَّمس.
نجح الصَّديقانِ في امتحانِ الشَّهادة الثَّانويَّة، وأحرزا نتيجةً أهَّلتهما للالتحاق بالكلِّيَّة الحربيَّة. فكانا يأتيانِ عصرَ كلِّ خميسٍ من الكلِّيَّة بزيِّهما العسكريِّ المميَّز، وفي اليدِ اليمنى حقيبةُ سفرٍ وتحت الإبطِ عصًا صغيرة، من ذلك النَّوع الَّذي سيستخدمه في مُقبِلِ الأيَّامِ كبارُ الطُّغاةِ في إطالةِ سبَّاباتِهم، وكأداةِ تحكُّمٍ (“جويستيك”) يهُشُّون بها على رعاياهم وينشرون بينهم بتركيزِ الانتباهِ عليها سَيْلاً من الأكاذيبِ الفاجرة؛ فإذا تصادف في الحيِّ حفلُ زِفافٍ، فإنَّهما “يُبَشِّرانِ” بها على أنغامِ “الفنَّانِ الذَّرِّي” وعازفيه المَهَرَة، فتهفو لمظهرِهما اللَّافِتِ للأنظارِ قلوبٌ يانعة. وبعد تخرُّجِهما بوقتٍ قصير، ابتُعِثا إلى إنجلترا؛ وعقب عودتهما بوقتٍ أقصر، احتفل ربيعٌ بزواجه في “نمرة تلاتة”، فصار الصِّبيةُ الصِّغار في الحي يرقصون “التُّويست” على أنغام موسيقى “الرُّوك آند رول”، بتأثيرٍ من أفلام إلفيس بريسلي الَّتي كانت تعرِضُها سينما الوطنيَّة غرب وليس الوطنيَّة جنوب المجاورة كلَّ مساءِ إثنين بشكلٍ راتب. وفي اليوم الثَّاني، انتقل الحفلُ إلى منزل أهلِ العروس بحي “باريس”، جنوب السِّكَّة حديد إلى الغرب من كبري الحرِّيَّة.
وبسبب تأخُّر وصول الفنَّانين وتلكُّؤهم في مواصلة الفواصل الغنائيَّة، أخذتِ الفتياتُ الصَّغيراتُ يهتفنَ: “هاشم، هاشم؛ عايزين هاشم”؛ وكنَّا نظُنُّ أنَّ المقصود هو هاشم محمَّد العطا، رفيق درب ربيع الطَّيِّب وصديقُ عُمُرِه و”وزيرُه” خلال فترةِ الزِّفاف؛ إلَّا أنَّ شابَّاً في مقتبلِ العُمُرِ انبرى مجيباً لهتافهنَّ، فقامَ بشكلٍ تلقائيٍّ بمهامِّ مذيع الرَّبط وألقى على السَّامعين باقةً من أشعارٍ باكِرة، مُرهِصةً بقصائدِه اللَّاحقة، الَّتي سوف يصطفُّ في مُقبِلِ الأيَّامِ حفنةٌ من المهتمِّين بينهم القاصُّ علي المك والشَّاعر صلاح أحمد إبراهيم لساعاتٍ طويلة خلف سياجِ المسرح القوميِّ الجنوبيِّ بأمدرمانَ لمشاهدة بروفاتِ تلحينِ واحدةٍ منها، وهي “الملحمة” الَّتي أخلص في تلحينها المبدع محمَّد الأمين بصُحبةِ ثلَّةٍ من الفنَّانين المميَّزين، من بينهم عثمان مصطفى وبهاء الدِّين أبو تلَّة وخليل إسماعيل وأم بَلِّينا السَّنوسي، بمشاركةِ كورالَ من طلبة الثَّانويَّات، بينهم القاصُّ صلاح حسن أحمد والزَّميل عبد الرَّحمن عبد اللَّطيف والمرحوم كردش.
لوقوع مباني الإذاعة (والتِّلفزيون والمسرح) بالقرب من حي بيت المال، إلى الجهةِ الجنوبيَّة خلف السُّور، كان أبناءُ الحيِّ يحسُّون بأواصرَ قربى متينة تربطهم بشكلٍ مُحكَمٍ بالحيشانِ الثَّلاثة؛ لذلك، لم يكن غريباً أن تنشأ وسطهم فرقةٌ غنائيَّة “دكاكينيَّة” بقيادة هاشم حبيب الله، أخذت تُنافِسُ ليلةً على إثرِ أخرى حفلاتِ الأعراس الَّتي يُحييها فنَّانو الحقيبة وفنَّانو الحقبةِ الثَّانية من روَّاد الغناء بالعاصمة القوميَّة. ولاعجبَ، فقد نشأ هاشمٌ في “حوشِ البنَّا”، وكان يقوم مثل غيره من أبناء الحوش المتعلِّمين بتحفيظ الأغاني لفنَّاني الحقيبة؛ وقد ساعدته ذاكرته الفوتوغرافيَّة في حفظ كافَّة الأغاني الموجودة في أرشيف الإذاعة السُّودانيَّة، سواءً كانت لشعراء الحقيبة أو رُبوع السُّودان أوِ الأغنية الشَّعبيَّة أوِ الحديثة. وحدث أن صادفنا في أواخرِ السِّتينيَّات الفنَّان المخضرم حسن عطيَّة أمام البوَّابة الشَّرقيَّة للإذاعة المواجِهة لنهرِ النِّيل ونحن مازلنا طالِبَيْنِ بالمدرسة الأهليَّة بأمدرمان، فقلنا له: “أهلاً يا أستاذ”، فاستغرب من تعرُّفنا عليه، إذ كان نجمُه قد خبا ضوؤه وتضاءلت سيرةُ المغنِّين من أضرابِه، وصارتِ الحملةُ الَّتي يقودها الصَّحفيُّ حسن مختار في عموده الرَّاتب “حزمة تفانين” تصِفُ أولئك الفنَّانين من شاكلتِه بفنَّاني السَّاعة حداشر، إذ كانتِ الإذاعة لا تبِثُّ أغانيهم لتراجعِ عدد المستمعينَ لها إلَّا في وقتِ قبل الظَّهيرة (أوْ ما كان يُسمَّى بالوقتِ “الميِّت”). فقال له هاشم بل نحفظ أغانيك كذلك ونسعدُ دائماً بترديدها في حفلاتنا الخاصَّة. فبدأ أبو علي على الفور في إجراء اختبارٍ شفويٍّ مركَّزٍ لهاشم: هل تحفظ هذه الأغنية وهل تحفظ تلك؟ وعندما أسمعه هاشمٌ أبياتَ إحدى القصائد، جلس حسن عطيَّة على حافَّة كتلةٍ أسمنتيَّة أمام البوَّابة، وقال لنا مندهِشاً إنَّ السَّبب الَّذي أتى به ذلك اليوم إلى مبنى الإذاعة هو أنَّ لجنة النُّصوص الَّتي شُكِّلت مؤخَّراً قد استدعته طالِبةً مساعدتها في فكِّ طلاسم هذه الأغنية بالذَّات، ولكنَّه فشل في مرَّةٍ سابقة في فكِّ شفرتها؛ فساعتَها قلنا له: “طيِّب يا أستاذ.. لماذا تُغنِّي بهذه الطَّريقة، إذا كنتَ أنتَ ذاتُك لا تفقه عن نفسِك ما تقول؟”؛ فأجاب قائلاً: “يا أبنائي إذا نظرتم في لوحةٍ وأعجبتكم بشدَّة وتمكَّنتم بسرعة من الكشفِ عن تعرُّجاتِ خطوطها وتوزيعِ ألوانها وأدركتم ما يرمُزُ إليه مُبدِعُها، فإنَّكم لن تُعاوِدوا النَّظر إليها، ولكن إذا استبهم عليكم أمرٌ فيها، فستعودون إليها مراراً وتكراراً لتغييرِ زاويةِ النَّظر أو الاقترابِ منها مليَّاً حتَّى تظفُروا منها بفهمٍ ما أو متعةٍ فنِّيَّة متجدِّدة؛ فهكذا أريدُ للنَّاس أن يُعايشوا معي دوماً ما أصدحُ به متعمِّداً من أغنيات”.
من بيوتِ “بيتِ المالِ” العتيقة بأزقَّتها الضَّيِّقة المتعرِّجة، وإلى ذاتِ الإذاعةِ القريبة من الحيِّ العريق، خرج إلينا ذاتَ صبيحةٍ باكرة من شهر يوليو في أوائل السَّبعينبَّاتِ من القرنِ الماضي فتًى شهمٌ ليُذيعَ للنَّاسِ بيانَه الأوَّل، واصفاً خطوتَة الجريئةَ تلك بالثَّورةِ “التَّصحيحيَّة”، متعهِّداً للكبار بإجراءِ إصلاحٍ فوريٍّ للحال والمآل، وواعداً معجبيه الصِّغار بقراطيسَ لُبٍّ وعناقيدَ عنب. غير أنَّ أيَّامه في الحُكمِ كانت قصيرةً للغاية كما أنَّها انتهت بفصلٍ دموي مؤسف، فأصبح من غير الممكن التَّكهُّن بما كان سيكون عليه الحال لو طالت مدَّتُه في الحُكمِ المُنتزع بالقوَّةِ من عَلٍ: هل كان سيبدأ مشروعاً جادَّاً للتَّحوُّلِ الاقتصاديِّ الاجتماعي كما كان يأمل الكثيرون من مناصري الانقلاباتِ العسكريَّة في المنطقة العربيَّة أم كان سيشرع أسوةً بمَن سبقه وإرهاصاً لِمَن سيأتي بعده في تطويل سبَّابته القصيرة. إلَّا أنَّ ربيعاً لم يكن راضياً عمَّا غامر بحدوثِه هاشمٌ رفيقُ صباه، وقد كانت عيناه تغرورقانِ بالدُّموع كلَّما جاءت سيرته؛ فكان يُردِّد: “فقط لو اسشارنا، فقط لو استشارنا !” لأنَّ كثيراً من الضُّباط لم يكونوا راضينَ عن الوضع، مضيفاً بحسرةٍ وغُصَّةٍ في الحلق: لكنَّ هاشماً لا يستشيرُ أحداً، فطوالَ عمرِه يحتفظُ بقدرٍ من الأسرار لخاصَّته ولا يغدِر أبداً بمَن أودعه سرَّاً من أسرارِه. في تلك الأثناء، كان يعتملُ في الحيِّ الوديع “ثورةٌ تصحيحيَّة” في شأنٍ آخرَ من شؤون الحياة الإبداعيَّة في البلاد، حيث تراجعت حملة “حزمة تفانين”، وبدأتِ الفرقة الدَّكاكينيَّة بقيادة هاشم حبيب الله تفعلُ فعلها في تغيير الذَّائقة الفنِّيَّة لجمهورِ الحيِّ ومنه إلى الأحياء الأمدرمانيَّة المجاورة. وقد ساعد في ذلك صلة هاشم وتأثيره على العديد من الفنَّانين؛ فغير صلته بأولاد الحوش، الفرجوني والأمين البنَّا، كان يُشجِّع كمال ترباس على استخدام الآلاتِ الوتريَّة وعدم حصر نفسِه في الأدوارِ الَّتي رسمها له غيرُه من النُّقَّاد غير المتخصِّصين. وكنَّا نزور بادي محمَّد الطَّيِّب يوميَّاً بمنزله بحي الأمراء بالعبَّاسية، حيث كان يسكنُ معه عددٌ من الشَّيَّالين أبناء بلدته من بينهم عبَّاس كما كان يسكنُ معه عبد الرَّحيم سليمان، الَّذي لا يكتفي بأداء أغاني الحقيبة، بل كان يحفظُ ويُردِّد في حضرةِ فنَّاني الحقيبة بدارِهم ما كنَّا نُسمِّيه أغاني الحقبة الثَّانية من فنِّ الغناء السُّوداني في العاصمة القوميَّة. وإن أنسى لا أنسى شريطاً كاملاً ونادراً سجَّله لنا بادي في غرفةٍ بديوان حبيب الله محمَّد ببيت المال، أرجو أن يكون هاشمٌ محتفظاً بنسخته الأصليَّة، إضافةً إلى احتفاظِه بشريطٍ مع نادية البنَّا وآخرَ مع صلاح حسن أحمد ومحمَّد أزهري؛ فالتَّصحيحُ الحقيقيُّ قد بدأ بإعادة الاعتبار لعمالقة فنِّ الغناء في العاصمة القوميَّة، والخطوة التَّالية المأمولة هي أن يرتفعَ الأداءُ الموسيقيُّ إلى مستوى التُّراث الذَّي خلَّفه العمالقة، ليس على الطَّريقة الكوريَّة أو الكوراليَّة أو بجهدٍ مقدَّر على شاكلة ما قدَّمه أندريا رايدر لأغنية “الوُد”، وإنَّما بإنتاجٍ أوركستراليٍّ سودانيٍّ موازٍ، يأخذ موضوع “الشَّيَّالين مأخذ الجد، ويستصحب تجربة “عقد الجلاد” و”السَّمندل”، ويستقبلُ بالأحضان انفجار الأصوات النِّسائيَّة بعد تشذيبها والانتقالِ بها من التِّلقائيَّة والارتجال إلى أفقِ الإبداعِ الموسيقيِّ المفتوح.
في “بانت شرق”، كانت داخليَّة طلَّاب معهد الموسيقى والمسرح تضمُّ بين طلبتها عدداً من الشُّعراء والمبدعين المعروفين، بينهم محمَّد محي الدِّين ويحيى فضل الله وقاسم أبوزيد وخالد عبد الله، ومن النُّقَّاد عبد الله عبد الوهاب والسِّر السَّيِّد وأحمد طه أمفريب، هذا إلى جانب أعضاء فرقة “عقد الجلاد”: عثمان النَّو وعوض الله بشير وأنور عبد الرَّحمن وبقيَّة العقد الفريد، إضافةً إلى أعضاء فرقتَيْ “السَّديم” و”الأصدقاء” المسرحيَّتَيْن؛ وكانت الدَّاخليَّة تستضيفُ بشكلٍ يوميٍّ الشَّاعرَيْنِ المشاغبَيْنِ عادل عبد الرَّحمن ومحمَّد محمود الشِّيخ (الشَّهير باسم “محمَّد مدني”)؛ وقد شهِدت سطوحُها حواراتٍ فكريَّة مثمِرة إبَّان تأسيس “جماعة تجاوُز للثَّقافة والإبداع” الَّتي كانت تُقيمُ أنشِطتُها في معهد الموسيقى والمسرح الَّذي يقع على مرمى حجرٍ من الدَّاخليَّة بمباني قصر الشَّباب والأطفال بأمدرمان المواجه لمجلس الشَّعب عند مدخل كبري النِّيل الأبيض. وكانت أنشطة الجماعة بشهادة عددٍ من طلَّاب المعهد امتداداً طبيعيَّاً لأنشطةِ الفصول، وتطويراً وتعميقاً لِما يتلقَّونه بين جُدرانها. إلَّا أنَّه من “طبائعِ الاستبدادِ” الأكاديميِّ المسترذَل، لم يكنِ الأساتذة بالمعهد يُشارِكون في أنشطة المنتديات الَّتي تُقيمُها “جماعة تجاوُز” وربَّما يتعالون عليها؛ لذلك، لم نكُن نشهدُ الأستاذ الشَّاعر هاشم صديق بين مِنصَّة المساهمين أو مقاعد المستمعين؛ لكنَّنا كُنَّا نسهرُ يوميَّاً مع “حروف اسِمك” ونشاركه الإعجابَ الزَّائد بما يُلهِمُ كلمات “حاجة فيك تقطع نفس خيل القصائد”، ممَّا يجعلُنا “نرجع للقلم”، مثلما “نتحدَّى” أحياناً “بالحرفِ الألم”؛ وكم كان سيُسعِدنا استضافته بين أنشطتنا والاستضاءة بقبسٍ من تجربته الفذَّة؛ ولكن مَنِ الَّذي شيَّدَ بادئ الأمرِ هذه التَّماثيلَ المترفِّعة، ومَن أبدعَ هذه الأيقوناتِ الموضوعةَ بعنايةٍ فائقة في أبراجٍ عالية؛ ومَن سيقومُ ذاتَ يومٍ قُبيلَ الفجرِ اقتداءً بإبراهيمَ بالشُّروعِ في تهشيمِها؟
في “بانت غرب”، كان يسكنُ مَن بدأ باكِراً في تصميمِ وصناعةِ مِعولٍ فولاذيٍّ صَلبٍ للهدم. ففي بيتٍ مستأجَرٍ صغيرٍ، كانت تسكُنُ الفنَّانة التَّشكيليَّة الطَّليعيَّة أمُّ الخير كمبال وزوجُها المتمرِّدُ منذُ صباه الباكر هاشم محمَّد صالح؛ وكان منزلُهُما بحقٍّ امتداداً عامِراً للحلقاتِ الثَّقافيَّة ومختبراً ناجعاً للعلاقاتِ الاجتماعيَّةِ الجديدة؛ ففي ذلك البيت، تعلَّمنا أدب التَّحاور وتفهُّم موقف الخصم الحامل لأفكارٍ معارضة، والاستعداد للتَّنازل عن الأفكار الهشَّة الَّتي ظللنا نعُضُّ عليها سنينَ عدداً بالنَّواجز، ونحافظُ عليها بالأظافرِ والعصي الغليظة؛ كما تعلَّمنا فنَّ الطَّبخ وغسلَ الأواني ونظافةَ الغرف والأواني و”رشَّ السَّهلة” واحترامَ العملِ المنزليٍِ والحفاظَ على حقوقِ الطِّفلِ وغسلَ ملابسِه ورعايتِه؛ هذا إضافةً إلى سَعَةِ الصَّدرِ وتحمُّلِ “هيجانِ” الأصدقاءِ غيرِ المبرَّرِ في كثيرٍ من الأحيان. وفي أوَّلِ نشاطٍ للجماعة بقصر الشَّباب والأطفال، جاء هاشمٌ محمَّد صالح يحملُ إلينا زاداً من معرفته باللِّسانيَّات، وهي علمُ اللُّغة الحديث؛ لكنَّ الأهمَّ من تلك المعرفة الضَّروريَّة، أنَّه جاءنا بزادٍ لا يفنى من السُّلوكيَّاتِ الجديدة. فمن جانبنا، أعددنا له المنصَّة ورصصنا المقاعد، وطبعنا تلخيصاً للمحاضرة ووزَّعناها لجمهور الحاضرين؛ ولكن، ما أن بدأ هاشمٌ في إلقاء محاضرته حتَّى هبَّت عاصفةٌ ترابيَّة أمدرمانيَّة متواصِلة انقطعَ بسبِبها التَّيَّارُ الكهربائيُّ لأكثر من ساعةٍ ونصفِ السَّاعة؛ وكانتِ المحاضرة مُقامةً تحت مبنًى قائمٍ على أعمدةٍ خرصانيَّة ومفتوحٍ من ثلاثِ جهات، ما عدا من الجهةِ الشَّماليَّة التَّي يوجَدُ بها السُّلَّمُ والمِصعَدُ المؤدِّيانِ إلى بقيَّةِ الطَّوابق. وطيلة وقت العاصفة وانقطاع التَّيَّار، لم يتزحزح هاشمٌ عن مقعده أو يهمَّ بالانصرافِ من مكانِه، كما هو متوقَّع من نوعِ التَّبرُّم السَّائد وسط أساتذة الجامعات. غير أنَّ هاشماً كان من طينةٍ أخرى، إذ خاضَ منذ صباه الباكر صراعاً مع الأساتذة بشأنِ المناهج وعلاقة الأستاذ بالطُّلاب، راح ضحيَّته حرماناً من مواصلةِ دراستِه في كلِّيَّة الفنون الجميلة والتَّطبيقيَّة؛ وعندما أصبح لاحقاً أستاذاً في معهد الدِّراسات الأفريقيَّة والآسيويَّة، عكف على إنشاءِ علاقةٍ متميِّزة مع طلَّابه. غير أنَّ الأمرَ المدهش حقَّاً في ذلك اليوم التُّرابيِّ العاصف هو أن لا أحدَ من الجمهور قد تزحزحَ عن مقعدِه، ممَّا مكَّن هاشماً من إكمالِ المحاضرة بعد هدوءِ العاصفة وعودة التَّيَّار الكهربائي. ومن جانبنا كذلك، استيقنَّا في تلك الأمسيةِ تماماً بأنَّنا أمام جمهورٍ جادٍّ وجديد، تعلَّم من تجربةِ مَن سبقه أهمِّيَّةَ تأسيسِ العملِ الثَّقافيِّ وتشييدِ أصرحتِه وترسيخِها، بعيداً عنِ مخاطرِ التَّغوُّلِ السِّياسي.
من “بانت غرب”، خرجنا وقتَ السِّلمِ في منتصفِ الثَّمانينيَّاتِ على ظهرِ عربة “كارُّو”، ترحيلاً لعفش هاشم محمَّد صالح وأمِّ الخير إلى “امتداد ناصر”، حيثُ صار الامتدادُ بعدَ وقتٍ وجيزٍ بالفعلِ امتداداً لِما تمَّ تأسيسه من عملٍ ثقافيٍّ واجتماعيٍّ رائد في غربِ أمدرمان؛ كما أصبح تأسيسُ “اتِّحادِ الكُتَّابِ السُّودانيِّينَ” بحقٍّ امتداداً لِما تمَّ إرساؤه في بيان “جماعة تجاوُز للثَّقافة والإبداع”، إذ أكَّد البيانُ على أهمِّيَّة “الإحاطة بالثَّقافة السُّودانيَّة من جميع أقطارها”، ممَّا يعني عدم إغفالِ ركنٍ من أركانها أو تجاهل أيِّ فرعٍ من فروعِ المعرفة المؤدِّية إلى الكشف عن أوجهها والتَّنقيب عن خباياها؛ وممَّا يعني أيضاً حتميَّةَ الانتقال من “الأدب” إلى “الكتابة”، وتأسيس “اتِّحاد الكتَّاب” جنباً إلى جنب مع “اتِّحاد الأدباء” توطئةً لاستيعابه بمجمله، فكلُّ أديبٍ هو بالضَّرورةِ كاتبٌ وليس كلُّ كاتبٍ بذاتِ الضَّرورةِ بأديب؛ لذلك، بدأنا أنشطتنا في “جماعة تجاوز” بعلم اللِّسانيَّات” الَّتي حرص هاشمٌ على توضيح جوانبه في تلك الأمسية العاصفة؛ ووفقاً لهذه العلاقة غير المتساوقة بين الأدب والكتابة، أكَّدنا في اجتماعاتِ اللَّجنة التَّمهيديَّة لاتِّحاد الكتَّاب مراراً على أهمِّيَّة استقطاب أساتذة الجامعات وتضمين كلِّ أفرُع المعرفة بلا استثناء في دائرة ما يهتمُّ ويصبو إليه الاتِّحاد، وضربنا مثلاً لذلك كتابات الأستاذ الشِّيخ محمَّد الشِّيخ المتخصِّص في علم الأحياء النَّظريِّ عن رواية “عرس الزِّين” من منظورِ ذلك العلمِ الطَّبيعي. وهذا ما يجعلنا نستغربُ من تضمينِ العلوم الاجتماعيَّة وحدِها في النُّسخةِ النِّهائيَّة لدستور الاتِّحاد الَّذي أشرف على طباعته أوَّلُ لجنةٍ تنفيذيَّة للاتِّحاد، مسقِطةً كلمة “الطَّبيعيَّة” من عبارة الكتابات الَّتي تتناول “العلوم الاجتماعيَّة والطَّبيعيَّة وفقَ منحًى إبداعي”، مثلما جاءت في كتاباتِ الشِّيخ وغيره؛ لكنَّنا نأملُ أيضاً أن يتمَّ التَّعديلُ بتضمينِ الكلمة المُسقَطة في أقربِ سانحة، حتَّى لا يضيع مجهودُ هاشمٍ محمَّد صالح لِيُصبِحَ هشيماً تذروهُ الرِّياح، فالثَّورةُ “التَّصحيحيَّة” يجب أن تشملَ كافَّة مناحي الحياة الثَّقافيَّة والاجتماعيَّة، مثلما أنَّ الكتابة يجب أن تشملَ كافَّة ضروب المعرفة البشريَّة، بلا استثناءٍ لفرعِ علم وبلا إسقاطٍ لحقِّ كاتبٍ في الانضمامِ إلى الاتِّحاد الَّذي يفتح صدرَه وأذرُعَه لاستيعابِ الجميع، بموجبِ دستوره الَّذي ينفرُ من فكرةِ الإقصاء الكريهة.
ومن “بانت شرق”، خرج الشَّاعر هاشم صدِّيق وقتَ الحرب في أوائل عشرينيَّاتِ هذا القرن محمولاً على ظهرِ عربة “كارُّو” يجرُّها حصان، في رحلةٍ استغرقت ساعةً ونصفَ السَّاعة إلى سوق ليبيا، تمهيداً لإخراجه من المدينةِ الَّتي أحبَّها، في تهجيرٍ قسريٍّ له ولملايين المدنيِّين السُّودانيِّين إلى داخل البلاد وخارجها، وفي مفارقةٍ كئيبةٍ لا تحدُث في بلادِنا إلَّا في زمنٍ القهرِ البليد؛ ففارسٌ للكلمةِ مثله كان ينبغي أن يكونَ راكباً على ظهرِ المطايا لا مسحوباً خلفها؛ ومع ذلك، قدِ التحم هاشمٌ في ذلك المشهد المؤلم بمُلهميه البسطاءِ من عامَّةِ الشَّعب. وكما تعلَّمنا من هاشم محمَّد صالح بشأنِ أهمِّية السِّياق في تغيير الدَّلالة، فإنَّ سياق التَّدريس بالمعهد العالي للموسيقى والمسرح كان قد أظهر هاشماً في مقامٍ متعالٍ على طلبته؛ أمَّا في سياقِ الحربِ والنُّزوح، فقد ظهر “شاعرُ الملحمة” على حقيقته في قلب الشَّارع إلى جانب الغلابة والمحرومين. وبهذا التَّغييرِ في السِّياق، تمَّ “تصحيحٌ” عفويٌّ ومعافًى لانطباعٍ ساذجٍ استقرَّ رَدَحاً في الأذهان؛ غير أنَّ “التَّصحيحَ” كما مارسه هاشم حبيب الله بصبرٍ من داخل الأحياء الشَّعبيَّة، وليس كما جرَّبه هاشم العطا في محاولةٍ يائسة لإجراءٍ تغييرٍ من أعلى ينبغي أن يكونَ أمراً لازماً وهاجساً يوميَّاً لتغيير كافَّةِ مناحي الحياة، من مفاهيمها العفويَّة السَّاذجة إلى افتراضاتها العلميَّة الَّتي توجِّه وتُبدِّل بشكلٍ دائم كلَّ تفاصيلِ ومستلزماتِ حياتِنا المعاصرة.
[email protected]المصدر: صحيفة الراكوبة