اخبار المغرب

“أختام المدينة الفاضلة” لبن عرفة.. رواية طيْفية تحتاج غير قليل من النباهة

1 لقراءة رواية “أختام المدينة الفاضلة” لعبد الإله بن عرفة ينبغي التسلح بغير قليل من النباهة، لأنك تدرك منذ الصفحات الأولى أنك بحضرة نص مختلف وحكاية غير مألوفة، وعليك لكي تفهم مقتضى الكلام، مبنى ومعنى، أن تتمثل تصورا للرواية بما أنه التجنيس الذي ارتضاه المؤلف بفطنة وبلاغة.

هذه رواية لا يلزمنا قراءتها باستعجال؛ حكايتها مليئة بالرمزية واللغزية وتعلن انتماءها لنوع من السرد حاضر في الوعي الفني لكاتبها بمعالم وحدود شاقة ومعقدة: السرد العرفاني. ولا غرابة في ذلك فعبد الإله بن عرفة اتخذ منه شكلا من التعبير لا يجد عنه بديلا ولا يملك أن يغيره منذ صدوره روايته الأولى “جبل قاف” مرورا بعشر روايات من “بحر نون” وصولا لرواية “إدريس”، وأخيرا وليس آخرا “أختام المدينة الفاضلة”.

انسجام وتناغم ملحوظ في هذا المشروع الأدبي بتنويعات أسلوبية تستهدف الإحاطة بموضوعه من زوايا مختلفة وخيالات محبوكة بخيوط التاريخ والسياسة وفواجع المصائر ومهازل الأقدار وألوان متناغمة من الفكر والبيان. نحن إذن أمام مشروع روائي يسمح لنا بإثارة جملة من القضايا، أستهلها بجملة اعتبارات:

يعلم المنشغلون بدراسة السرد الروائي عموما أن كلّ رواية تُنتِجُ أحداثها من خلال العلاقة، عبرها تضبطُ أحوال الوقت ومصائر الناس.

وتنبني كل علاقة روائية على لحظات يفترض أن تكون منعطفات حاسمة في التاريخ والجغرافيا بمعناهما العامّ. العلاقات أفكارٌ تترجم الإغراء والامتحان والمحنة والمجد والنقص، والوعي الشقي، والندم، والفشل. ولذلك، فالقارئ مدعو دوما “للقبض” على هذه الفكرة أو تلك. الأفكار هي ما يمكّن الرواية من التقاط ممكنات الوجود والتاريخ والواقع، وتسمح للمعتقدات والمشاعر والأحاسيس بالتوالد والانبعاث؛ الرواية لا تحلل الواقع، بل الوجود… والروائي ليس مؤرخا ولا نبيا: إنه مكتشف وجود، هذا ما عبّر عنه ميلان كونديرا في كتابه “فنّ الرواية”.

2 هذا الاكتشاف هو ما يجعل السرد في رواية “أختام المدينة الفاضلة” مليئا بالمفاجآت، ويجعل الكتابة في هذه الرواية طيْفية موضوعها قضية ختْمية المراتب كما انشغلت بها الأديان والفلسفات ووصفتها الحكاية، كما هي عند كل من الترمذي الحكيم والفارابي الفيلسوف والمتنبي الشاعر والمعري الأديب وفي مجلس خيالي بمدينة فاضلة، يظهر فيها أيضا ابن عربي شاهدا بحكمته وكشوفاته؛

ولانفتاح الرواية بسيرة الحكيم الترمذي أكثر من دلالة، ذلك أنها تختصر كل السير علما وفضيلة وحكمة وأدبا، فمن رواية الحديث وعلومه عن والده، إلى ملازمة الرجل الغيبي مشرق الوجه، بهيّ الطلعة وقور الشيبة، سيزداد الحكيم معرفة بأسرار العلوم ومجالات الفنون والمعارف في الشعر والفلسفة والفقه، ولأنه كانت له رغبة في معرفة الفارق الذي يميز الحق عن الباطل فقد قرّ قراره أن يشغل باله بأسئلة عن شروط الصلاح: هل هو العلم أم التقوى؟ أم هو مجموعهما؟ هل هو اصطفاء إلهي ومحة ربانية، أم هل هو شيء مكتسب؟ (ص 1718). من هنا ينشغل الراوي في هذه الحكاية بوصف مجاهدات الحياة الروحية من صدق ومِنَّة ومحبة إلى صعود المنبر وراء الرسول في رؤيا منامية هي إيذان باستيفائه لنطاق الصدق في الحياة الروحية ودخوله في نطاق المنة الإلهية (ص 27). من منامة إلى أخرى يجد الحكيم نفسه في مدينة عجيبة ليس لها مثال في المدن مفتوحة لا أسوار حولها، أهلها لا يعرفون الجريمة والشر، حاراتها حلقات حكمة وفلسفة متحدثوها يعربون عما في ضمائرهم من رأي حول الحسيات والعقليات في الحياة والاجتماع، إلى أن يبلغ مجلسا بديعا به ثلاثة من الرجال الفارابي وأبو الطيب والمعري وحديث عن الأسباب الكفيلة بتحقيق السعادة في المدينة الفاضلة. وتكون بقية فصول الرواية حديثا ذاتيا لكل حكيم عن تجربته في الحياة من خلال مصنفات وغايات دالة على اعتباره أن يكون ختما مستحقا للمدينة الفاضلة.

3 لماذا كتابة رواية عن المدينة الفاضلة اليوم؟ أ لأننا نعيش في عالم يعج بالخيبة وسوء الأحوال ويرغب في التحرر من شروره ونشدان الانسجام الفكري والاجتماعي والسياسي؟

المدينة الفاضلة مجتمع خيالي يتحقق فيه الكمال، إنه يوتوبيا شغلت الفكر البشري على الدوام بِبُعْد فلسفي وآخر سياسي، وهذا ما انتبه إليه Jacques Berchtold حين بين أن اليوتوبيا كانت موضوعا للريبة وعدم المصداقية، من وجهة نظر فلسفية، وكانت أزمة ثقة وتساؤل غير مسبوقة، من وجهة نظر سياسية؛ لذلك نجده يؤكد على أن فكرة اليوتوبيا حاضرة في انعكاس التاريخ القديم والفكر السياسي، وأن فكر العصر الحديث يصوغ علاقات معينة مع هذه الأصول، فهل لا يزال هناك مكان ما ليوتوبيا إيجابية تحتفل بإنسان جديد يتزامن وجوده مع مسيرة تحرير التقدم التقني؟

كأني بالمشروع الروائي لعبد الإله بن عرفة يجد صداه في السؤال السالف؛ ذلك أنه يندرج في نظر العديد من الدراسات ضمن ما يعرف بالرواية العرفانية، وهي كما نعلم صنف من التخييل الأدبي اقترن ظهوره بنهاية الألفية الثانية ومطلع الثالثة، وفي صلة بما راج من أفكار حول صراح الحضارات، وبما عرفته مجتمعاتنا المعاصرة من تنامي ظاهرة الإرهاب والتطرف؛ واللافت للنظر في تجربة عبد الإله بن عرفة نسجها لعوالم الكتابة على الأحرف النورانية التي تبدأ بها بعض السور القرآنية بعد البسملة بمقطع مؤلف من حرف أو أكثر من الحروف المفردة، مثل: (ن ــ قم ــ حم ــ الر)؛ قال العلامة الزمخشري في تفسيره “الكشاف”: “وأعلم أنك إذا تأملت ما أورده الله عز سلطانه، في الفواتح من هذه الأسماء، وجدتها نصف أسامي المعجم، أربعة عشر حرفا هي: (ا ل م ص ر ك هـ ي ط ح ع س ق ن) في تسع وعشرين سورة، على عدد حروف المعجم”؛ على أن اعتماد بن عرفة على الحروف النورانية واختياره لها عناوين لرواياته ظل وثيق الصلة بما تعرض له كل حكاية؛ ففي رواية “قاف” مثلا تكون سيرة ابن عربي الحاتمي مدار الأحداث والشخصيات؛ وفي رواية “بلاد صاد” تأملات في سيرة الصوفي أبي الحسن الششتري، وفي رواية “بحر نون” سفر لفهم أسطورة أطلنتس وما رافقها من أهوال وأحوال.

4 بهذا المعنى، تظل الرواية العرفانية متعلقة بسرود التاريخ والسير وإشراقات التصوف والفلسفة، كل ذلك من أجل فهم الجوّ الفكري بما هو جوّ واقعي أكثر منه عقلي لأننا “بحكم الضرورة، ننظر إلى العالم إما بعين التاريخ، وإما بعين العلم، فإذا ما نظرنا بعين التاريخ رأيناه في تكوّن مستديم، وهو بناء على هذا لا يمكن فهمه إلا على وجه التقريب، وإذا ما نظرنا بعين العلم، رأيناه مما ينبغي أن نسلم به منا هو، على أن نبدل أنفسنا لتستقيم فيه الحياة بقدر الإمكان”.

لذلك، يتعلق تصور المدينة الفاضلة بمشروع إصلاح اجتماعي وسياسي وثقافي، ولا حاجة بي للتذكير أن الأدب العربي عرف منذ القديم بعض الأعمال ذات الصبغة الطوباوية، والتي تتحدث عن عالم قَصِيٍ تتحقق فيه أحلام البشر المؤمنين الصالحين بالعدالة والمساواة والخير. ومن هذه الأعمال “رسالة الغفران” للمعري، إضافة إلى عدد من مؤلفات الفارابي ومنها “المدينة الفاضلة” و”تحصيل السعادة”.

كما ظهرت منذ عصر النهضة في منتصف القرن التاسع عشر بعض الأعمال القليلة ذات الصلة بمفهوم الطوباوية، مثل “غابة الحقّ” (1865) لفرانسيس مراش، و”أم القرى” (1901) لعبد الرحمن الكواكبي و”لطائف السمر في سكَّان الزُّهرة والقمر” (1907) لميخائيل الصَّقال، وهناك “الدين والعلم والمال” (1903) لفرح أنطون اللبناني. أما القاص والمسرحي يوسف إدريس فقد أسهم في هذا النوع الأدبي بقصة “جمهورية فرحات” (1956). ويمكن القول إن الكاتب العربي الوحيد الذي كتب اليوتوبيا حسب المفهوم الأوروبي هو سلامة موسى، ولا سيما في كتابه “أحلام الفلاسفة” (1926) وفي قصة “من أحلام اليقظة” في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين.

يتساءل عبد الإله بن عرفة في بيانه الأدبي الملحق بروايته “أختام المدينة الفاضلة”: هل هناك حاجة دعت إلى فتح هذه القضية (يقصد المدينة الفاضلة أو الروحانية) من جديد في وقتنا الراهن؟ هل الاختلالات الحاصلة في تدبير الشأن العام أملت إعادة التفكير في المدينة الفاضلة من أجل مدينة جديدة للإنسانية؟ (ص 211)؛ أضيف للسؤالين السابقين هذا السؤال: لماذا ربط بن عرفة قضية الختمية بالمدينة الفاضلة في هذه الرواية؟ الأجوبة المقدمة في البيان تدور كلها حول تغير أنماط التفكير والسلوك والتشكيك والحيرة وتحصيل السعادة والحقيقة …. وكلها أنماط لا تجعل المدينة الفاضلة بعيدة في التصور عن معطيات الواقع والتاريخ، ولا متعالية عنهما.

5 يضع عبد الإله بن عرفة في هذه الرواية كلا من الحكيم الترمزي والفارابي والمتنبي والمعري في وضع إشكالي، أي يحولهم من شخوص معلومة إلى أبطال إشكاليين بالمعنى الغولدماني، يبحثون عن قيم أصيلة في مجتمع متدهور. لذلك يغلب على الرواية طابع السرد بضمير المتكلم والحوار ذي الطبيعة الفلسفية والروحية العميقة بأبعاد رمزية تصل الواقع الاجتماعي بارتداداته الثقافية والسياسية كما تجليها المدينة الفاضلة لا باعتبارها “لا مكانا” بل مكانا مضادا يوجه السلوك نحو حالة غير متحققة في المجتمع والواقع التاريخي؛ لذلك تبدو أصوات الحكيم والفيلسوف والشاعر غير مقتنعة بأنصاف الحقائق كي لا تظل رهينة قدَرٍ لم تصنعه.
كأني بعبد الإله بن عرفة في هذه الرواية يقول لنا:

خذوا العبرة الآن مما جرى ويجري قبل أن نَمْضي إلى نفق مُفْلسين وخائبين؛ بعد سقوط الروحانيات والإيديولوجيات، ماذا يتبقّى للإنسان؟ حياةٌ مُختلّة وكئيبة ورتيبة وطافحة بالخدائع لا بخديعة واحدة.

السرد في الرواية سردٌ أثرٌ وخبَرٌ يلتفت إلى الماضي ويستشرف المستقبل، ويقيم علاقة حسّية بالعالم، مُشبعة بالدهشة والصفاء والعفوية.

الكتابة في الرواية حياة، والحياة كتابة: من الحروف والكلمات، إلى الجمل البطيئة والسريعة، المباشرة والاستعارية، تتصادى الأصوات والملامح، الأزمنة والأمكنة، الأسئلة والأجوبة؛ حكيم وفيلسوف وشاعر وأديب يؤثثون الرواية بآراء وتجارب عن الحياة من أجل معرفة خبايا الأنفس والطبائع بِعِبَر تساعدنا على تجاوز قصورنا الميتافيزيقي، لأنه لا يمكن للحقيقة أن تسود إلا بقوة الحقيقة التي تخترق العقل بكل وداعة وقوّة.

المصدر: هسبريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *