مايكل أشر وركوب الصعاب
قرأت ، قبل سنوات مضت ، كتابا باللغة الانجليزية بعنوان (In Search of the Forty Days Road)، اي (البحث عن درب الأربعين) لمؤلفه مايكل أشر البريطاني الجنسية والذي تمكن ، خلال فترة عمله بالتعليم بالمدارس الثانوية بكل من دتقلا والفاشر ، في بداية ثمانينيات القرن المنصرم ، من التحدث باللغة العربية بصورة لا بأس بها.
و قد وثق ، من خلال ذلك المؤلف ، لرحلة قام بها من أم درمان الى دار فور ، مرورا بوسط كردفان. وقد عانى في هذه الرحلة ايما معاناة ، وكابد بشدة في سبيل تحقيق هدفه من الرحلة والمتمثل في الوصول الى (درب الاربعين).
ومما يجدر ذكره أن درب الأربعين هو طريق تاريخي يصل مصر بالسودان واشتهر بتجارة الإبل ، يبدا من دارفور وينتهى عند إمبابة في محافظة الجيزة المصرية. وقد كان للطريق دور دينى بحركة الطرق الصوفية خلاله ، من دول غرب أفريقية مرورا بالسودان وانتهاء بمصر.
واود ، هنا ، أن اشير الى ان أشر قد استقال سابقا ، اي قبل قيامه برحلته تلك ، من التعليم ، حيث كان يعمل بالفاشر ، ثم قام برحلة مع الكبابيش وثق لها في كتابه
(A Desert Dies) أي (صحراء تموت).
وفيما يلي الحلقة الاولى من الحلقات التي قمت ، من خلالها ، بالتعليق على كتابه (البحث عن درب الأربعين) مع تحليل بعض ما ورد فيه من أحداث و وقائع ، معتمدا ، بصورة أساسية ، على ترجمتي التلخيصية لما ورد في نسخته الانجليزية. وقد اخترت لهذه الحلقات عنوانا هو (مايكل أشر وركوب الصعاب) ، ليعبر عن معاناة الكاتب غير العادية، وهو يقاسي في بيئة أخرى غير بيئته ويحاول التأقلم عليها.
……………………
مايكل أشر وركوب الصعاب
الحلقة الأولی
عقد مايكل أشر ، في العام ١٩٨٦م ، العزم علی القيام برحلة استكشافية الی دار فور ، مرورا بوسط كردفان ، فتهيأ نفسيا لتحمل مشاق تلك الرحلة الطويلة ، سعيا وراء تحقيق هدفه المتمثل في الوصول إلى (درب الأربعين)
وللشروع في رحلته المزمعة تلك فقد انتوی أشر ان يستقل جملا حتى يتسنى له توثيق الرحلة عبر الوقوف على واقع قرى ومدن ووهاد ونجود وبراري كردفان ودار فور. غير أنه رأى أن يستقل ، عند بداية رحلته ، عربة لوري من أم درمان الی كردفان ليقوم بشراء جمل من أي منطقة بكردفان ثم يواصل رحلته تلك بالجمل. وبالفعل استقل عربة لوري حيث جلس بالخلف مع حوالي عشرة ركاب اخرين ، وسط جوالات القطن وكراتين الصابون المشحونة باللوري.
تحركت العربة من أم درمان قبيل المغرب. كان اللوري، حسبما ورد في كتابه ، يصارع الأرض ، وهو يشق ، بعد خروجه من المدينة ، البراري الشاسعة والخلاء الممتد على مد البصر. ظل يتأرجح يمنة ويسرة ويواصل سيره علی نحو يبعث علی الملل ويجعل النصب يتغلغل في الجسد. ونظرا لأن الوقت كان ليلا فلم يتسن له ، حسبما ذكر ، ان يمتع ناظريه بما كان يمكن ان يشاهد من مناظر علی طول الطريق . كانت الرحلة شاقة الی الحد الذي جعله يتساءل بينه وبين نفسه عن سبب لجوء هؤلاء الأهالی لاستقلال مثل هذه السيارات التي تورث النصب والمعاناة. ليس هذا فحسب بل تساءل عن سبب استقلاله هو كذلك لمثل هذه العربة.
وفي تقديري ان تساؤل أشر هذا هو انعكاس منطقي للصراع الذي اعتمل في دخيلته بين حقيقة نشأته في بيئة تتوافر فيها كل وسائل السفر المريحة وبين شعوره الناشيء عن وجوده في بيئة تعتبر نقيضا لها … يصارع فيها الانسان ليقوم بنشاطاته الحياتية اليومية. لذا فان أشر كان، وقتها ، يحاول ترويض نفسه علی تحمل مشاق تلك الرحلة عبر مغالبته الظروف السودانية غير المحتملة.
وحسبما اورد أشر فانهم وصلوا مدينة ام روابة صبيحة اليوم الثاني. غير أنه ، وما ان توقفت العربة ، حتی حدث عطل في أحد اطاراتها. خرج من العربة مع بقية الركاب ، وسمع ، وهو يفعل ذلك ، سائق (اللوري) يقول ان اصلاح هذا العطل قد يستمر يوما كاملا. بعث هذا في نفسه الاستياء ، ثم ذهب مع بقية الركاب الی حيث توجد امراة تبيع الشاي والقهوة، حيث تناول قهوة ثم بدأ يتجول في سوق المدينة.
أخضع أشر ، بعد سماعه حديث السائق ، الأمر للتفكير ، ثم قرر أن يشتري جملا من ام روابة ليبدأ رحلته من هناك.
وبالفعل اشتری جملا بمبلغ 350 جنيها من رجل عجوز من قبيلة البزعة يدعی يوسف حسن وذلك بعد أخذ ورد و(يفتح الله ويستر الله) استغرقت بعض الوقت. وذكر أشر ان صاحب الجمل كان ، وهو يستلم المبلغ ، جزعا ، يعتصره الأسی ، لفراق جمله ، وظل يرمقه للحظات ، كأنما سرق ابنته .
ومضی أشر بقوله انه اشتری سرجا للجمل و (قربة) ماء ثم قام صاحب الجمل وجماعته بتدريبه علی طريقة (شد) الجمل وغيرها من عمليات ضرورية.
اشار كذلك الی ان كاتب المبايعة ، علي احمد جاد الله ، أوصاه بقوله له أن من الضروري بمكان ان يمتلك سلاحا يحمي به نفسه من اللصوص وقطاع الطرق المحتملين. واردف علي قائلا لأشر انه لا خطورة في الطريق من هنا الی الأبيض ، غير ان الطريق غرب الأبيض محفوف بالمخاطر حيث حمر والكبابيش المسلحين والذين يمكن لأی شخص منهم اطلاق النار عليه واخذ جمله.
غير ان أشر ذكر انه لم يلق بالا للوصية الأخيرة المنطوية علی التخويف واعتبرها من قبيل عدم الثقة بين سكان المدن والبدو.
وفي رأيي ان هذا يؤكد علی شجاعة واستعداد أشر للتضحية بالغالي والنفيس من أجل تحقيق هدفه. وهذا يدل ، بلا شك ، علی قوة ارادة هؤلاء (الخواجات) في سبيل بلوغ أهدافهم التي يعتبرونها امرا دونه خرط القتاد. استطرد أشر في حديثه قائلا انه غادر ام روابة قبيل المغرب عقب توديعه للأفراد الذين حضروا عملية المبايعة و(التدريب) ووسط دهشة رفقائه من ركاب العربة الذين رفع لهم يده مودعا وهو يبارح أم روابة.
وذكر أنه حانت منه التفاتة ناحية ام روابة ، وهو يبتعد عنها شيئا فشيئا ، فبدت أنوارها تختفي رويدا رويدا وتتواری عن أنظاره.
واصل سيره ناحية الأبيض فولج خلاءا فسيحا وبراري ممتدة ، وظلام الليل يزحف علی الدنيا ويغطي الأرجاء. استغرق وقتا ليس بالقصير وهو يواصل سفره مسامرا النجوم ومتلفعا بجنح الليل، وكله عزم علی ارتياد المستحيل وركوب الأهوال بغية بلوغ غايته.
وعندما انتوی ان يحط رحاله في مكان ما بتلك الأحراش ، حاول أن ينيخ جمله ، غير أنه لم يستجب وأبدی تمردا بينا. طفق أشر يحاول اناخة الجمل لكنه استمر في عناده علی نحو يثير الدهشة. وعندما ضاق ذرعا به ، قفز من علی ظهره ساقطا علی الأرض فاذا به يجد نفسه ملقی علی شوك حسكنيت. تشبث به الحسكنيت وغطی ملابسه ثم وخزه في أنحاء كثيرة من جسده. قام من علی الأرض و جر رسن الجمل محاولا ، كرة أخری ، اناخته ، لكن الجمل قاومه بشدة وسقط هذه المرة ، كما ذكر علی أشجار هشاب صغيرة (شقل) فعانی أيما معاناة من وخز شوك اشجار الهشاب الذي كان أكثر ايلاما حسب قوله ، من وخز الحسكنيت. تمزق قميصه وصار في وضع مزر وهو يتوسط الاحراش. ظل في محاولاته الرامية الی تطويع الجمل واناخته ثم تمكن ، اخيرا ، من (عقله).
وبالرغم من انني لا أدعی معرفة بسلوك الابل وامزجتها ، الا أنني أعتقد أن الله قد وهب الجمل قدرة علی التمييز جعلته يدرك أنه فارق (اهله) وبيئته حيث مهد صباه والأماكن الأثيرة الی نفسه ، بعد ان الت ملكيته لشخص غريب بكل معنی الكلمة. لذا فقد عبر عن أساه من خلال هذا السلوك المتمرد.
أشار أشر الی انه حاول أن يوقد نارا ولكنه لم يجد حطبا، حيث لم يكن هناك غير أشجار مخيط متناثرة هنا وهناك ولكنها ، كما ذكر ، كانت لينة ولا يمكن ان تسعفه في مسعاه. وأخيرا دب اليأس في نفسه فعقد النية علی النوم ، لكنه وجد أن الحسكنيت قد عم ملابسه علی نحو لا يستطيع معه النوم قبل ان يتحرر من هيمنته. وبالفعل ظل لوقت طويل ، يبذل جهودا كببرة في سبيل الفكاك من الحسكنيت ، ثم هم بالنوم.
أخرج فراشه الذي هو عبارة عن كيس كما سماه ، وهو قطعة من قماش خاص تماثل طوله ، ينوم ، عادة ، بداخلها. ذكر انه وجد (سستتها) لا تعمل ولكنه ، علی أية حال ، خلد الی نوم عميق.
قال أشر ، في معرض وصفه لتلك الليلة ، أنها تعد اتعس ليلة قضاها أبدا بالسودان.
وأود ، بهذه المناسبة ، ان أؤكد ، تارة أخری ، علی ما سبق وأن ذكرته من ان هذا (الخواجة) قد ال علی نفسه ، كما تجلی من خلال سلوكه، ان يستميت من أجل بلوغ غايته. وليس ادل علی ذلك من تحمله المشاق غير العادية ومواجهته اخطار الطريق المحتملة فضلا عن محاولاته قهر الطبيعة القاسية.
استيقظ ، في الصباح الباكر ، علی صوت رجل من قبيلة الجوامعة يركب جملا. سأله الرجل عن هويته مبديا دهشته البالغة لوجود (خواجة) نائما وسط الأحراش. كما سأله عن عدم لجوئه الی القرية التي تجاور مكانه ، فاجاب بأن الوقت كان ليلا ولم يتمكن من رؤية القرية. ذهب الرجل الی حال سبيله وترك أشر حيث كان. نهض عقب ذلك وامتطی جمله الذي كان أصلا مسرجا حيث تركه كذلك طوال الليل خشية عدم معرفته ل(شده) مرة أخری.
اتجه صوب القرية فاذا به يجد جميع سكانها تقريبا يتحلقون حول بئر للحصول علی الماء لهم ولبهائهم التي كانت حاضرة هي الأخری وفي شوق لاطفاء نار عطشها. وقف علی بعد امتار قليلة من أهالي القرية وقام بتحيتهم. ردوا السلام ، كما ذكر ، ثم انشغلوا عنه بموضوع الماء.
جاءه رجل عجوز فسأله عما اذا كان من (الانجليز) فرد أشر بالايجاب ، فما كان من الرجل الا وان عبر له عن اعجابه الشديد بالانجليز والذين كانت فترة حكمهم ، كما ذكر، يسودها الرخاء حيث وفرة السلع وعدم استشراء الغلاء.
ووجه العجوز فتاتين من بنات القرية بالقيام بسقي جمل أشر ففعلتا ذلك وهن يرمقن أشر ويبتسمن.
وأشار الی ان هذا الموقف اكد له الحس الانساني المتجذر في نفوس اهالي كردفان علاوة علی الكرم الذي كاد ان يتحول الی حق يحق للضيف المطالبة به.
ذكر اشر ان الناس ببلده يعيشون حياة عنوانها الوفرة في كل شيء تقريبا ، وبالتالي فهم لا يحسون بقيمة هذه الوفرة. وقد تفهم تماما قيمة الوفرة عندما رأی بأم عينه مكابدة الناس هنا من أجل الحصول علی الماء.
واصل ، عقب ذلك ، سيره فوصل مدينة الأبيض بعد رحلة استمرت أربعة أيام مبديا خلالها عزما منقطع النظير علی تحدي الصعاب في سبيل تحقيق غايته.
المصدر: صحيفة الراكوبة