مرضى السرطان بـ”نهر النيل” في مواجهة ثالوث الحرب والنزوح والعوز
لم تجد “زينب” بدأً من السفر إلى مدينة شندي بولاية نهر النيل، لمواصلة العلاج في مركز خاص بالأورام بعد أن حرمتها الحرب المندلعة لأشهر بين الجيش وقوات الدعم السريع من مواصلة جرعاتها التي تحاول أن تهزم بها السرطان. لم يكن لزينب التي تسكن أم درمان، أقارب في شندي، ومع ذلك حزمت أمرها وتوجهت إلى هناك، وتعرفت على إحدى الأسر مصادفة فقرروا التكفل بمصروفات علاجها وترحيلها للمركز، تبدي الشابة فرحا طفوليا وهي تروي لـ«جورنايل» قصتها ثم تقول بسعادة بائنة “أمة محمد بخير والحمدالله”.
أما “حليمة” فبدأت رحلة العلاج من الخرطوم ومنها انتقلت الى مدني ثم وصلت إلى مركز شندي مؤخراً، لكنها تشكو في حديثها مع «جورنايل» عجزها عن توفير تكاليف الجرعات البالغة 200 ألف جنيه نجح صديق ابنها في تدبير جزء منها.
بدورها تتحدث “إيمان” التي تعاني من سرطان الثدي، لـ«جورنايل» عن معاناة كبيرة تواجهها في تلقي الجرعات غير المتوفرة بالمركز والتي تقوم بتدبيرها أسرتها وسط صعوبات كبيرة في الوصول للمركز لإقامتها بمنطقة تقع في ضواحي شندي.
ولا تنتهي القصص المأساوية لمصابي السرطان الذين تعقدت حياتهم ومراحل علاجهم بسبب الحرب التي اندلعت في الخرطوم وانتقلت الى ود مدني حيث تتركز في المدينتين أكبر مراكز علاج الأورام في السودان.
وتكشف إحصائيات رسمية حصلت عليها «جورنايل» عن زيادة كبيرة في معدلات الإصابة بالسرطان في ولاية نهر النيل بنسبة وصلت الى 70% مقارنة بالأعوام الخمس الماضية، صاحبها ارتفاع معدلات الوفاة بالمرض الذي يطرق أبواب الولايات الشمالية بقوة.
وتحيط بنهر النيل التي أصبحت الملاذ الأكثر تفضيلا لمرضى السرطان بعد غزو الدعم السريع لولاية الجزيرة مشاكل متراكمة في القطاع الصحي يتأثر بتفاصيلها مرضى السرطان.
وتبرز هذه المشاكل في تلك التي فرضتها الظروف التاريخية المتعلقة بسوء الوضع الصحي العام بالبلاد، يضاف اليه الحال داخل الولاية التي تستقبل حالياً أعدادا كبيرة من النازحين الحرب.
وتجسد حالة “صديق” الذي يعاني من مرض السرطان منذ 15 عاماً التي رواها لـ«جورنايل» الوضع البائس للمرضى الذين يعانون في توفير كلفة العلاج والحصول على مسكن لانتظار موعد الجرعات التالية، حيث واجه صديق خلال رحلة علاجه الطويلة تعقيدات تفاقمت مع اندلاع القتال في الخرطوم ومن ثم دخوله رحلة معاناة مزدوجة بعد اجتياح الدعم السريع المدني التي لجأ إليها لمواصلة علاجه الذي انقطع.
يسعى صديق، الآن لإكمال علاجه في مركز شندي.
تزايد الحالات
تبين احصائيات رسمية صادرة عن وحدة الإحصاء بمركز الأورام في شندي (حكومي) حصلت عليها «جورنايل» تسجيل 1405 إصابة بالسرطان بعد الحرب التي اندلعت منتصف أبريل الماضي.
وتوضح الإحصائية تسجيل 325 إصابة عام 2019، و 312 خلال عام 2020 لتقفز الى 484 عام 2021، و 521 خلال عام 2022م، لكن تفسيرات طبية من العاملين بالمركز ترى أن الزيادة تعود إلى وصول حالات من الخرطوم بعد الحرب.
وحوت احصائية قسم الاحصاء كذلك زيادة كارثية في معدلات الوفيات بواقع 153 حالة خلال العام الفائت فقط، فيما كانت تسجل نحو 70 حالة سنوياً في الولاية حتى عام 2022.
وطرأت زيادة واضحة في عدد الإصابات المستقبلة منذ اندلاع الحرب، طبقا لتحليل قسم الإحصاء، لكن سببها الرئيس هو انتقال المرضى من الخرطوم ومدن أخرى إلى المركز.
وتعزو مصادر طبية واختصاصيين تحدثت إليهم «جورنايل» ارتفاع معدلات الوفاة بالسرطان مؤخراً وتحديداً خلال العام المنصرم إلى انعدام عدد من الجرعات و تكاليفها العالية بجانب قلة الاختصاصيين.
ويضطر المرضى وذويهم في كثير من الأحيان إلى توفير الجرعات من الصيدليات التجارية بأسعار عالية جداً حيث لا تتوفر في مركز الأورام بشندي.
وتؤكد الصيدلانية د. نهال الطيب، في حديث لـ«جورنايل»، تقلص مراكز علاج السرطان والأدوية والجرعات بسبب تمدد الحرب لمساحات أكبر.
وكشف مدير مركز الأورام الدكتور عوض الطيب، خلال حديث لمندوب لـ«جورنايل» مع مجموعة من الصحفيين، تسجيل 721 إصابة حتى شهر مايو 2023م، مؤكداً تسجيل 266 حالة خلال شهر مايو الماضي وحده، لتصل إلى 1380 حتى نهاية عام 2023م.
صورة من داخل مركز الأورام في شندي
ويضم المركز الوحيد في شندي أقسام العلاج الكيميائي و صيدلة الأورام والصيدلة الاشعاعية بسعة 70 سرير، وغرفة عزل مكونة من 4 أسرة لمرضى سرطان الغدة الدرقية.
وتعد حالات الإصابة بسرطان الثدي هي الأكبر بين حالات السرطان في الولاية إذ سجلت 450 حالة خلال عام 2023، بينما كانت الأنواع الأخرى 37 بسرطان القولون، و 88 حالة بسرطان المبيض، و 83 بسرطان الرحم، و 25 بسرطان الرئة، و 23 بسرطان البلعوم، و 68 بسرطان الدم.
ونوه عوض، إلى استمرار العمل بالمركز رغم زيادة حالات التردد بسبب تعطل جهاز الاشعاع في المدينة، وتوافد المرضى بكثافة لمدينة شندي.
تكاليف باهظة
ويتحدث مدير مركز الأورام عن التكلفة الباهظة للعلاج الكيميائي حيث يضطر بعض المرضى لشرائه عن طريق وسطاء “سماسرة” يجلبونه بطرق غير مشروعة بتكاليف كبيرة.
وأكد أنّ المركز بحاجة إلى استيعاب مزيد من الكوادر وتحسين ظروف العمل والتسيير المالي، ووضع المركز تحت الضغط بسبب زيادة نسبة التردد بعد الحرب.
ويشير المدير إلى تعطل قسم الطب النووي وهو المختص بتوفير العلاج لمرضى الغدة الدرقية ما أدى إلى نقص جرعات اليود المشع المتوقفة بسبب عدم استيرادها من الخارج لوجوب شحنها بعمليات آمنة عبر شركات طيران محددة متوقفة حالياً عن العمل بالسودان بسبب الحرب.
ويواجه المركز مشكلات بسبب عدم توافر اختصاصيين وافتقاره للاستشاريين، إذ يعمل فقط خمسة اختصاصيين لا يتواجدون بشكل دائم, مضافاً إلى ذلك أن المركز يواجه مشكلة في القدرة على توفير الجرعات.
بارقة أمل
رغم الظروف القاسية التي يواجهها المرضى والمركز, يعيش مرتاديه أملا في اللحاق بركب الذين تماثلوا للشفاء حيث تجاوز عددهم الثمانين حالة تمكنوا من تحدي المرض الخطير وهزيمته رغم ضعف الإمكانيات اللوجستية بالمركز.
ويقول رئيس قسم الفيزياء الطبية بالمركز الدكتور الصادق أزرق، لـ«جورنايل» إن نسبة التردد على قسم اليود المشع تصل إلى 200 مريضا في قائمة الانتظار ما يمثل ضغطاً على المركز الذي يعالج 4 مرضى كل أسبوعين. ويكشف أزرق عن مفاوضات تجري حاليا لاستثناء بعض شركات الطيران لتنفيذ رحلات لاستجلاب اليود من الخارج.
خطر التعدين والأسمدة
ويرى استشاري طب الأورام وأورام الدم وزراعة النخاع رئيس لجنة البحوث بمجلس التخصصات الطبية السودانية، الدكتور الصادق الجيلاني محمد عبد القادر، صعوبة وجود احصائية دقيقة للأمراض في الولاية في الوقت الراهن مع قدوم الوافدين إليها.
ويضع الجيلاني، في الحسبان في حديث مع «جورنايل» حزمة من الأسباب التي قد تكون سبب في إصابات السرطان، بينها مخلفات المصانع التعدين وخاصة التعدين التقليدى نتيجة استخدام الكيماوية عالية الخطورة، التي تصيب بأمراض عاجلاً على غرار أزمات القلب والتحسس، والتي تتطور مع مرور الزمن مسببة للسرطان.
ومضى في حديثه مؤكداً أن الاستخدام غير المرشد للأسمدة في عموم البلاد وعلى وجه الخصوص بولاية نهر النيل، يمكنها التسبب في الأمراض، في حين لفت إلى تحول طريقة الزراعة من الطريقة السابقة بشأن استخدام السماد والتقنيات الموجودة، حتى حال كانت مشروعة، قائلاً: “المحك يأتي في طريقة استخدامها بشكل غير مرشد. فيما مثلت عملية تسريع إنتاج بعض المحاصيل الطماطم وكذلك البطيخ مؤثرًا على الإنسان نتيجة الإفراط في استخدام الأسمدة”.
واستدعى الاختصاصي الجيلاني، عوامل أخرى بشأن ما يتعلق بالبيئة، وعدم الرياضة لتحفيز الطاقة الذاتية للإنسان، واعتماد الأشخاص خلال السنوات الأخيرة للحاجات أو الأشياء المريحة التي تتسبب في السمنة وزيادة الوزن ونقص الأنسولين عوامل تؤدي للسرطانات.
الجيلاني أكد أن ارتفاع معدلات الإصابات بمرض السكري بما يعزز نسبة الاصابة بالسرطان مستقبلاً.
ونوه الجيلاني، إلى عامل أخر يرتبط بالإصابة بالسرطان يتمثل في عدم الوعي، معتبرا أن تلك مشكلة كبيرة جداً.
وقال إن نسبة الإصابة بسرطان الثدي في السودان أعلى من المعدلات العالمية رغم اختلاف أسباب الإصابة به، منوها إلى افتقار ثقافة الفحص الدوري والتى يجب تدريسها للطلاب بالمدارس والجامعات لمعرفة كيفية إجراء الكشف الدوري والذاتي.
ونبه إلى حضور 45 مرضى للعلاج دائماً ما يكون بينهم ثلاثة في حالة متأخرة، بينما تعد 10بالمئة من أمراض الثدي هي وراثية، محذرا من تسبب تعاطي التبغ والشيشة” خاصة وسط النساء يؤدي للإصابات.
وأتم: “إضافة إلى الاستخدام غير الآمن لأدوات التجميل غير معروفة المنشأ”.
وكشف الدكتور الجيلاني، عن مواجهة مدينة عطبرة لمشكلة تتعلق بأجهزة الكشف، الموجودة في مروي وشندي، حيث لا يوجد بالمدينة مركز حكومي أو أجهزة الكشف ما يضع كذلك على الأشخاص في مدن بربر والدامر أعباء إضافية للتنقل بين المدينتين الأخيرتين.
وأكمل: “هناك بعض الجرعات المتوفرة في شندي لكن الأشخاص في عطبرة وغيرها مضطرين للذهاب إلى هناك، بجانب التكاليف العالية للرنين المغنطيسي والإشعاع اللذان يكلفان نحو 4 ملايين جنيه”.
التأثير النفسي
يصنع السرطان أثر نفسي قوي لدى المريض حسبما قالت الاختصاصية النفسية فاطمة السر، . مؤكدة لـ«جورنايل» أن النساء أكثر تأثراً بالمرض من الرجال لطبيعة المرأة.
دكتورة فاطمة تؤيد وضع إرشادات نفسية للمريض قبل الفحص بغية تخفيف الاضطرابات النفسية.
وكشفت فاطمة، عن الآثار النفسية لمرضى السرطان التي تتمثل في الضغط النفسي، الاكتئاب، الدخول في نوبات هستيرية وتشنجات وإغماءات، نوبات الهلع، والصدمة النفسية.
التعدين المتهم الأول
بينت دراسة أعدها طلاب الماجستير في جامعة وادى النيل عام ٢٠١٨ مؤشرات عن احتواء دم الأشخاص في المناطق المجاورة لمناطق التعدين على كميات كبيرة من الزئبق، كما أكد المسؤول بالمجلس الأعلى للبيئة بالولاية المتخصص في الكيمياء د. عصام محمد زين.
وقال زين، الذي يتعاون كذلك مع وزارة الصحة ولاية نهر النيل، في حديث مع «جورنايل» إن المجلس مهموم بالاكتشاف المبكر للأمراض والإصابات التي تتسبب فيها ملوثات التعدين عبر التحليل للمعدنين ومستقبل المناطق حوله.
وثمة جانب آخر أشار إليه، يتعلق بالدراسة وهو البحث عن طرق المعالجة الكلية والمعالجات للحد من هذا الخطر.
وأكد زين، ان امراض التعدين السبب الرئيس فيها المواد الخطرة المستخدمة كالزئبق والسنايل، لافتاً إلى أن المجلس الأعلى للبيئة يمضي بخطوات حثيثة لتلمس الأسباب المباشرة وغير المباشرة لمخلفات صناعة التعدين المتسبب في أمراض خطرة كالسرطان والفشل الكلوي وغيرها من الأمراض ذات الأثر المباشر على الإنسان.
وتوقع زين، حدوث كوارث بيئية نظرا ما وصفه بـ توسع الصناعات “القذرة” كالتعدين والأسمنت وما تلقيه من مخلفات خطيرة وكبيرة مثل الغازات والاتربة الملوثة على البيئة.
وأكد ناشطون في مجال البيئة بالولاية، طلبا حجب أسمائهم، في إفادة لـ«جورنايل» إخفاء السلطات المركزية والولائية لدراسات خطيرة متعلقة بالتعدين في الولاية وتأثيراته على صحة الإنسان، التربة، والحيوان.
ويشوب القصور حصر المرضى أو المترددين للفحص على المضابط الرسمية عند الجهات المعنية داخل الوزارة وفق ما أظهرته متابعات لـ «جورنايل».
وأشارت دراسة اطلعت عليها «جورنايل» أجريت في كلية الطب جامعة عطبرة تحت عنوان (أكثر الادوية الكيماوية استخداما لعلاج الاورام السرطانية) بمركز العلاج النووي محلية شندي أعدها ست من الطلاب إلى احتلال السودان للمرتبة السادسة من وفيات السرطان في أفريقيا.
وجاء على دراسة للدكتورة ملاذ بكري، بجامعة الخرطوم، تحت عنوان “تقييم جودة الحياة الذاتية لدى مرضى سرطان القولون والمستقيم” عام 2023، أن دراسة أجريت عام 2016 عن انتشار مرض السرطان بين ولايات السودان كانت الولاية الشمالية الأعلى لمعدل الانتشار بينما جاءت ولاية نهر النيل في المرتبة الثانية وحلت ولاية الخرطوم في المرتبة الثالثة.
ونبهت في بحثها إلى عدة دراسات أجريت في ولاية نهر النيل أظهرت زيادة في عدد المصابين بالسرطان، بسبب زيادة معدل تلوث الهواء والتربة.
جورنايل
المصدر: صحيفة الراكوبة