الفيلسوف الحقيقي يقتحم الأخطار ويرابط بثغر “الشر المطلق”
قال الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن، في أحدث مداخلاته، إن “الفيلسوف وهو يدعي اقتحام الأخطار واقتناص الأفكار إن لم يرابط بثغر الشر المطلق، تفكيرا وتنظيرا وتبصيرا، متصديا لشر مستطير لم تشهده الإنسانية من قبل، فلا جدوى من وراء ادعاءاته، ويكون قد ضيع أيما تضييع ما يستحق أن يكون به هذه الساعة فيلسوفا بحق”.
“الشر المطلق”
في كلمة حول مسيرته الفلسفية قال طه عبد الرحمن، في مداخلة ضمن جائزة الدوحة للكتاب العربي، إن حاله “كان ومازال” في كل طور من مسيرته المبادرة للبحث عن الأجوبة الكيانية والمصيرية التي تطرحها “أحداث الساعة الفاصلة في حياة الأمة”، ليستخرج من جزئيات الحدث الفاصل “جملة من المعاني الكلية، أنشئت منها قضايا وأدلة وأحيانا نظريات من شأنها إنتاج إمكانات فكرية تفيد في استجلاء وحل الإشكالات التي يثيرها”.
كل حدث من هذه الأحداث ينزل من طه “منزلة الثغر”، وينزل هو منه “منزلة المرابط”؛ فـ”لا فكر بحق بدون ثغر، ومن لا ثغر له لا فكر له، والخاصية الثغرية والفكرية متلازمتان تلازم البدن والروح (…) والفكر مَخْبَر الثغر والثغر مظهر الفكر”، قبل أن يتابع مشددا على أن الأوان آن لـ”نجعل من الثغرية مفهوما إجرائيا، نحدد به صدق ادعاءات الفيلسوف، بل أن نتخذ منه معيارا حاكما يبث في قيمة توجهاته؛ فكما أن الإعلامي ابن لحظته، والمؤرخ ابن حقبته، والسياسي ابن ظرفه، والصوفي ابن وقته، الفيلسوف ابن ساعته، وتبقى لكل واحد منهم خصوصيتهم الزمنية واختياراته المنهجية”.
وفي سياق القصف الإسرائيلي المستمر على غزة الفلسطينية، والمواقف والاصطفافات الدولية والفكرية الراهنة، ذكر صاحب “ثغور المرابطة” أن “الحدث الأعظم في الساعة التي تمر على اللحظة حاضرا هو الشر المطلق”، وهو “الثغر الأخير الذي أرابط فيه الآن.. هو مسألة أخلاقية قصوى”.
هذا الشر، وفق طه؛ كان موجودا “لكنه لم يكن ظاهرا بكليته، أما الآن وقد قَدَر المقاوِم في أرضنا المقدسة على ما لم يكن يقدر عليه من قبل، وهزم هازِمَهُ ومحق كبرياءه، فقد ظهر هذا الشر في صورة أعمال مؤذية إيذاء يختص بصفتَي: تحدي العقل إذ لا يقدر العقل على تصوره فضلا عن تصديقه، كما يتحدى الإرادة إذ لا تقدر على قصده فضلا عن تخيّره. وهو إيذاء لا ينفذ ولا ينحد، وليست فيه ذرة خير”.
وزاد المتحدث: “ما هذا الإيذاء اللامعقول واللامحدود إلا من أجل (…) تعطيل المواثقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، كما تكون بين الإنسان وخالقه. وتخريب الفطرة إذ هي مستودع القيم في باطن الإنسان، وبذهابهما لا تبقى ثمّة إنسانية. فالشر المطلق محو للأخلاق بالكلية، بحيث يفقد الإنسان القدرة على تمييز الخير من الشر والحق من الباطل”.
وشدّد طه عبد الرحمن على وجوب “التصدي لهذا الشر وجوب عين، كما لم يجب شيء من قبل، إذ يستلزم من المسؤوليات، كما وكيفا، ما لا يستلزمه غيره، ولا يمكن أن يستغنى في تحديد هذه المسؤوليات الثقيلة بالعقل وحده، بل لا مفر من أن يستعين العقل بالوحي (…) ذلك أن قتل النفس بغير حق هو بمثابة قتل الناس جميعا، وهدم القيمة الواحدة بغير موجب هو بمثابة هدم القيم جميعا”.
ثم أردف الفيلسوف متحدثا عن “مسؤوليّتين عظيمتين” عن “الإنسانية جمعاء” و”القيم جمعاء”، موضّحا أن “بقاء العالم سبيلُه أخذ الإنسان هاتين المسؤوليتين بقوة”، فـ”لما كان الأشرار الإطلاقيون يراكمون بلا انقطاع قدراتهم العلمية والتقنية المجرّدة من القيم، فلا مأمن من انطلاق شرهم المستطير في أي لحظة، لا ليفتك بأمة مستضعفة هنا أو هناك بلا حسيب ولا رقيب، وإنما ليجرب مطلق شره، حتى ولو كان ذلك بمحو العالم كله”.
“ثغور المسيرة الفلسفية”
تطرق طه عبد الرحمان في كلمته إلى “الثغور التي حددت مسيرته”، وأول ما لزمه منها “ثغر العقل”؛ وأردف شارحا: “أحدثت هزيمة 1967 هزة عظيمة في كياني لم يذهب عني أثرها (…) إذ شغلني آنذاك سؤال: أيُّ عقل هذا الذي هزم العرب جميعا؟ فأخذت على نفسي أن أجتهد في بناء عقل عربي غير مُنْسَلِب، ومتحرر غير مُتَسَيِّب. فاتخذ هذا البناء العقلي الذي استغرق زمنا غير قصير صورتين: صورة منطقية وهي بيان كيف أن الإبداع العقلي لا يُتوصل إليه إلا بامتلاك العدة المنطقية في أحدث تطور لها (…) والصورة الثانية لهذا البناء صورة فلسفية، وهو بيان كيف أن التحرر العقلي لا يُتوصل إليه إلا بامتلاك القدرة الفكرية في أحدث تشكل لها”.
وزاد المتحدث موضحا: “العمليات العقلية المنتجة للثقافة على وجه العموم، كالتواصل والتفاعل والتخاطب والتحاور والنقل والفهم والعرض والنقد والتفسير والتأويل، لا تُقَوَّم ولا تستقيم إلا بهذه القدرة، ومتى قُوّمت واستقامت انفتح باب الاستقلال الثقافي لمن يأتي لهذا الضرب الثاني من العمليات العقلية، وسميت هذا المجهود المبذول في بناء فكر عربي مبدع ومتحرر الفلسفة التداولية”.
و”الثغر الثاني” هو “ثغر التراث”، فيقول المتدخل: “لقد كانت الساعة يومئذ تضج بالهجوم على التراث العربي والإسلامي طعنا في مختلف معارفه ومضامينه وقدحا في أعلامه ورجالاته، افتتانا بالمنهجيات المنقولة، فتعيّن علي بحكم معرفتي بهذه المنهجيات المغرية أن أنصف هذا التراث، كاشفا أصول المنهجية التكاملية التي يختص بها، ويبرز فيها بديع الإنشاء ومتميز الإبداع”.
ثم كان “ثغر الحداثة”، “فقد كانت الساعة يومئذ تنادي (…) بالانتصار المطلق للحداثة، حتى وكأن الإنسانية لم تعرف أبدا العلم ولا التقدم ولا العدل إلا مع أهلها المنسوبين إلى التنوير والتثوير. كل ذلك بثا لروح العجز واليأس في نفوس أبناء الأمة. فكان واجبي، وقد أحطت بأسباب الحداثة في عقر ديارها، أن أكشف أضاليل هذا التهويل، وأبرز حقيقة الحداثة وحدودها، فميزت بين صور الحداثة وبين روحها؛ لأن صورها تختلف باختلاف المجتمعات المدعيةِ الانتماءَ لها، أما روحها فتشترك فيها الحضارة الغربية مع غيرها من سائر الحضارات، بما في ذلك الحضارة الإسلامية. كما بينتُ كيف يمكن لنا نحن العرب والمسلمين استرجاع هذه الروح المفقودة والانبعاث من جديد واستئناف التقدم المطلوب”، يورد الفيلسوف.
وتلا هذا “ثغر الأخلاق”؛ إذ اعتبر طه أن سبب “الهزيمة المنكرة” “انسداد العقل وانقباض الأخلاق”، وكانت المرابطة في هذا الثغر من مرحلتين؛ “مرحلة كشف الآفات التي أصابت الأخلاق في الحداثة لفصلها عن كل مجالات الحياة من أجل نبذها، عن الفن والثقافة والفكر والعلم والسياسة والقانون، بل وعن الإيمان والدين، وقد كان في الأصل مهدها ومُمِدّها، باسم مبدأين متناقضين هما إطلاق الحرية وحفظ الموضوعية، فأصبح الإنسان الحداثي كائنا معزولا عن الأخلاق بل محجوبا عنها بإطلاق، ولا نستغرب أن يُسار حين ذاك إلى تشريع المثلية كحق مشروع في زمن الحداثة”.
أما المرحلة الثانية من المرابطة في هذا الثغر فهي “إعادة بناء الأخلاق على أسس إيمانية، وهي أسس ينبغي أن تكون قادرة على معالجة الكسور التي لحقت ذات الإنسان، بسبب التمادي في الفصل بين ميادين الحياة”، انطلاقا من “مبدأ رجحان الإيمان”؛ حيث “ينبغي أن يكون عنصر الإيمان في تدبير المجتمع بالقوة نفسها التي لعنصر التقدم العلمي والتقني أو أكبر حتى يقدر على دفع أقطاره”.
وذكر الفيلسوف المغربي أنه اشتغل “بتأسيس الأخلاق على مبدأ الميثاق الإلهي، بدل مبادئ العقل البشري”، ومن ذلك أن “علاقة الإنسان بالعالَم ليست علاقة سيادة، بل علاقة أمانة، والأمانة توجب تبعية الحقوق للواجبات، وتبعيةَ المسؤولية الجزئية للمسؤولية الكلية، وتوجبُ تبعية الواقِع للقِيمة”.
وفي سياق شرحه فلسفته الأخلاقية المسمّاة “ائتمانية” لاستبدالها “الفصل العلماني بالوصل الإيماني”، قال طه عبد الرحمن: “المقابل الإيماني لـ’العقد’ هو ‘الميثاق’ في الكتب المنزلة، وهو أقوى من الأول الذي عند المحدثين (…) فالعقد استنساخ علماني للميثاق؛ والنسخة أدنى من الأصل”.
المصدر: هسبريس