المغرب ودول أمريكا اللاتينية.. تحديات سياسية تستدعي “دبلوماسية براغماتية”
على اعتباره ثاني فضاء جيوسياسي يتفاعل مع ملف النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية بعد الفضاء الإفريقي، وفق ما تُجمع عليه عدد من الدراسات، ظل الفضاء الأمريكي الجنوبي يفرض على الدبلوماسية المغربية مجموعة من التحديات المرتبطة بمواقف بعض دوله من هذا الملف وطبيعة التحولات السياسية وإيديولوجيات أنظمة الحكم في هذه البلدان، إذ ظلت القاعدة المؤطرة لهذه المواقف هي ميل النخب اليمينية إلى التقارب مع الرباط مقابل تماهي اليسارية منها مع أطروحة الانفصال.
وعلى الرغم من كل العوامل فإن المغرب استطاع المحافظة على علاقات جيدة مع بعض دول هذا الفضاء، خاصة تلك التي ظلت وفية لموافقها بعدم الاعتراف بـ”الكيان الوهمي”؛ على غرار البرازيل والأرجنتين، هذه الأخيرة التي نقلت صحيفة “لاراثون” الإسبانية أن السفير المغربي المعتمد لديها وجه دعوة إلى رئيسها المنتخب حديثا لزيارة المغرب. وقد هنأ العاهل المغربي الرئيس الأرجنتيني الجديد بمناسبة انتخابه؛ فيما حضر راشيد الطالبي العلمي، رئيس مجلس النواب، في مراسيم التنصيب الوافد الجديد على قصر “كاسا روسادا”.
في المقابل، فإن كسب رهان استمالة مواقف الدول الأمريكية المترددة أو المتماهية مع المشروع الانفصالي يتطلب، حسب متتبعين، من الدبلوماسية المغربية، الرسمية منها وغير الرسمية، تكثيف الجهود والانفتاح أكثر على النخب السياسية في هذه الدول، خاصة أن أغلب هذه الأخيرة باتت تتخلى شيئا فشيئا عن مواقفها الكلاسيكية تجاه هذا النزاع متوجهة نحو تعزيز التعاون الاقتصادي مع الرباط.
علاقات متميزة وتحديات سياسية
محمد عطيف، باحث في العلاقات الدولية مهتم بشؤون أمريكا اللاتينية، قال إن “المغرب تربطه علاقات جد متميزة مع مجموعة من الدول اللاتينية التي لم تعترف يوما بالكيان الوهمي وتتبنى موقف الحيد الإيجابي من هذا الملف؛ أهمها الأرجنتين والبرازيل والشيلي، إذ حاولت الرباط كسب ثقة هذه الدول، سواء على المستوى السياسي أو على المستوى الاقتصادي وكذا الثقافي من خلال التبادل العلمي والجامعي في إطار ما يعرف بالدبلوماسية الأكاديمية”.
في المقابل، أشار عطيف، في تصريح لهسبريس، إلى أن “بعض الدول الأخرى ما زالت مواقفها متذبذبة تجاه قضية النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية نتيجة مجموعة من العوامل؛ أهمها تأثر هذه المواقف بالإيديولوجيات السياسية التي يتباها الحكام المتعاقبون على هذا البلدان، فتارة نشهد تقاربا مع المغرب مع حكم النخب اليمينية وتارة أخرى نرى نوعا من الفتور خاصة في ظل حكم النخب اليسارية التي تميل إلى الطرح الانفصالي”.
وأوضح المتحدث ذاته أن “طبيعة تأثر مواقف هذه الدول بالتوجهات السياسية للحكام تظهر جليا في سحب بعض العواصم الأمريكية لاعترافها بالكيان الوهمي قبل أن تعيد تسجيل هذا الاعتراف من جديد إبان حكم اليسار الراديكالي؛ كالإكوادور وبوليفيا وكولومبيا، على سبيل المثال”، معتبرا أن “التحدي الذي يفرض نفسه على السياسة الخارجية المغربية في هذا الإطار هو التحدي المرتبط بالتحولات السياسية التي تعرفها هذه المنطقة”.
في السياق ذاته أشار الباحث في العلاقات الدولية إلى أن “بعض دول أمريكا اللاتينية ما زالت تؤمن بتحالف بوليفار وبالأفكار الاشتراكية، على رأسها فنزويلا التي تربطها علاقات قوية مع الجزائر وتراهن عليها هذه الأخيرة في الدفاع عن أطروحة الانفصال وحشد الدعم لها في الفضاء الأمريكي الجنوبي”، مبينا أن “المغرب أصبح يلوح بورقة الاقتصاد والشراكات من أجل استمالة مواقف هذه الدول على مبدا رابح رابح واحترام مبادئ القانون الدولي”.
وخلص إلى أن “العلاقات الدولية لم تعد اليوم تؤمن سوى بالمنطق البراغماتي الذي جعل عددا من الدول، على رأسها البيرو، تتخلى تدريجيا عن مواقفها السياسية وتتوجه نحو التقارب مع المغرب وعقد شراكات استراتيجية معه، خاصة أن الرباط اليوم صارت لاعبا جيوسياسيا مهما في إفريقيا تراهن عليه أغلب الدول من أجل التموقع الاقتصادي والتجاري في القارة”.
إرث تاريخي وضرورة انفتاح
في تفاعله مع هذا الموضوع، قال البراق شادي عبد السلام، خبير دولي في إدارة الأزمات وتحليل الصراع وتدبير المخاطر، إن “طبيعة العقيدة الدبلوماسية المغربية، المرتكزة على الرؤية الملكية المستنيرة المبنية على الندية والوضوح والالتزام والمسؤولية والشفافية في التعامل، كان لها دور كبير في إدارة علاقات متميزة مع دول أمريكا اللاتينية بغض النظر من مواقفها من الوحدة الترابية”.
وأضاف البراق، في تصريح لهسبريس، أن “الإرث التاريخي والحضاري للمملكة المغربية كدولة أمة وكفاح الشعب المغربي من أجل الحرية والاستقلال تحت قيادة المؤسسة الملكية من براثن الاستعمار كان ولا يزال محط إعجاب عدد من الشعوب اللاتينية، وكلها عوامل جعلت التقاطعات الإيجابية بين المغرب وشعوب المنطقة متعددة ومتفردة؛ مما جعل هذه العلاقات تحافظ على زخمها وحضورها المتميز”.
وتفاعلا مع سؤال حول أهمية انفتاح الدبلوماسية الموازية المغربية على الدول والنخب السياسية الأمريكية المترددة في دعم الاختيارات الاستراتيجية للرباط، أوضح المتحدث ذاته أن “المملكة المغربية تشتغل على هذا الملف من خلال العديد من المبادرات، سواء من خلال الاعتماد على الدبلوماسية الملكية أو باقي الفواعل المؤثرة في صياغة القرار الدبلوماسي التي تلعب دورا كبيرا في بناء تصور سياسي مشترك بين المغرب ودول أمريكا اللاتينية؛ وذلك بالانفتاح على النخب السياسية بمختلف توجهاتها في هذه المنطقة من خلال لقاءات أكاديمية وعلمية”.
وشدد الخبير ذاته في هذا الصدد على أن “النخب المغربية والأوساط الأكاديمية والعلمية والمجتمع المدني وكذا الأحزاب السياسية مطالبون اليوم بفتح قنوات التواصل الفعال مع نخب أمريكا اللاتينية لتهيئة الأرضية المناسبة ولإنضاج الشروط الموضوعية الكفيلة بحث هذه الدول على اتخاذ مواقف تتناسب من انتظارات المملكة المغربية”.
وخلص إلى أن “التوجه الأطلسي للمملكة المغربية والانخراط الجدي والمسؤول في المبادرات الدولية متعددة الأطراف المهتمة بالفضاء الأطلسي وكذا البنية التحية المتميزة للمملكة المغربية تجعلها وجهة متميزة لآفاق التعاون البيني مع دول أمريكا اللاتينية؛ وذلك من خلال تعزيز التجارة الثنائية ودعم جهود التكامل الاقتصادي مع هذه الدول وبناء قاعدة صلبة للروابط التجارية والاستثمارية معها، مما يمهد الطريق لتحقيق تقارب سياسي يخدم المصالح العليا للأمن القومي المغربي “.
المصدر: هسبريس