التراث العلمي العربي الإسلامي بين جهل أبنائه وجحود أعدائه
إن قضية التراث قضية مشهورة، لا يكاد يوجد إنسان ممن ينتمي إلى الملة الإسلامية والعربية أو غير منتم إليها، ممن يلم ولو إلماما بسيطا بمبادئ الثقافة الإسلامية، إلا ويعرف عنها شيئا. ولكن الناس مع اتفاقهم في معرفة هذه القضية المشهورة يتفاوتون في ضبطها وتحقيقها؛ فمنهم من يعلمها اسما، ولا يكاد يفقه لها تعريفا، ومنهم من يدركها ويعرفها، ولكنه لا يكاد يسميها تفصيلا، وربما كان غيرهم أدنى منزلة من الثقافة، وأقرب درجة من المعرفة فعرفها، وأدرك تفاصيلها، إضافة إلى التعريف بها.
وتفاصيل التراث التي نقصدها هنا هي الأنواع التي ينقسم إليها التراث المخطوط، وما يلحق به من المجسمات، وهي ثلاثة أنواع: التراث الديني، التراث اللغوي والأدبي ويلحق به الإنساني، والتراث العلمي. والذي نركز عليه هنا من هذه الأنواع الأخير منها، الذي أعرض عنه بنو جلدته، وناصبوه العداء والنكران لأسباب مختلفة. فمنهم من يرى عدم الحاجة إليه مع إقراره باحترام تلك الجهود وتقديرها، وأنها خدمت الحضارة الإسلامية في مرحلة ما، ومنهم من يجهله، ولا يكاد يعرف عنه شيئا، فضلا عن التعريف به. وذنب هؤلاء تتنازعه عوامل كثيرة، ويغذيه خلل بيّن في جوانب كثيرة، بدءا بمناهج التكوين في مراحل التعليم المختلفة، وانتهاء بالتقصير الشخصي للباحثين والمختصين في محاولة التقرب لجذور اختصاصهم وتعرف تفاصيلها وإسهامات قومهم فيها؛ أي تاريخ ما هم باحثون فيه.
ومن هؤلاء، وقليل ما هم، من بصر بما لم يبصر به غيره، واطلع على ما لم يكن لغيره حظ في إدراكه، فجاءوا منه بقبس نشرا وتحقيقا، فأطرق سمع الثقافة العربية والإسلامية بأسماء لرجال وآلات ومخترعات، قد فارقتها منذ زمنٍ بعيد. وقد شهدت الخمسون سنة الأخيرة محاولات كثيرة لبعث الروح في هذا النوع من التراث من جديد، وذلك من خلال تأسيس الجمعيات العلمية، ومعاهد تاريخ العلوم، وإقامة المراكز الخاصة بذلك، وعقد الندوات والمؤتمرات، وتخصيص الجوائز للمشتغلين في هذه الميادين وغيرها، ومع ذلك لا تزال الجهود متواضعة في هذا المجال.
وأمام اتساع دائرة التنائي بين التراث العلمي وأهله، راح الغرب في إصرار على الجحود، يجتث غرسه ويغرسه في غير أرضه، ويقطع فرعه ويلحقه بغير أصله، ويحصد زرعه ويدّعي بذره.
وفي نهاية القرن التاسع عشر للميلاد، احتل التراث العلمي من دراسات المستشرقين مكانة بارزة، فعبّدوا طرقا منه، وطوّروا بعض مناهجه. وإن جهودهم فيه كانت متنوعة، بين الفردية التي تناولت موضوعا محدّدا أو ظاهرة معيّنة، والجماعية التي تعاونت فيها طائفة من الباحثين على دراسة التراث العلمي في ميادينه الكبرى، وبيان مسالكه إلى الفكر الأوروبي على الطريقة الاستشراقية التي يعوزها غالبا الإنصاف إرجاع الفضل لأهله.
وتزايد هذا الاهتمام بعد إدراكهم الأهمية الكبيرة للحضارة الإسلامية في العصر الوسيط على طريقتهم، ودورها الأساس في تواصل الحضارة الإنسانية وازدهارها يوم كانت أخت الجهالة في الشقاوة تنعم. وبرز من بين جمهور المستشرقين ثلة عرف الإنصاف إلى عقولهم طريقا، فنطقوا بشهادات أرجعت الفضل لأهله والسبق لأصحابه، واعترفت بالدين الثقافي العظيم الذي عليها للمسلمين، مذكرة بالأيام التي كانوا ينتقلون فيها إلى العواصم الإسلامية ويجلسون إلى علمائها، يأخذون عنهم العلوم والفنون وفلسفة الحياة الإنسانية.
قال كودار في (تاريخ المغرب، ص449): “إذا كان العرب قد تفوّقوا تفوّقا بارزا على اللاتين في عهد من العهود، فإن ذلك لا يمكن أن يكون إلا في الحساب والطب، والجغرافيا، والعلوم الطبيعية”، وأشياء أخرى أيقنتها نفس كودار وجحدها لسانه.
وقال البروفيسور كولر يونج: “وبعد، فهذا عرض تاريخي قصدت به التذكير بالدين الثقافي العظيم الذي ندين به للإسلام منذ أن كنا نحن المسيحيين داخل ألف السنة هذه نسافر إلى العواصم الإسلامية وإلى المعلمين المسلمين، ندرس عليهم الفنون والعلوم وفلسفة الحياة الإنسانية، وفي جملة ذلك تراثنا الكلاسيكي الذي قام الإسلام على رعايته حق قيام، واستطاعت أوروبا مرة أخرى أن تفهمه وترعاه”.
وختاما، ندعو أنفسنا وإخواننا الذين يقاسموننا المسؤولية في إحياء التراث الإسلامي، إلى مزيد من الجهود والتركيز على التراث العلمي، والعمل على تعاون وتواصلٍ في هذا المجال، خدمة لأمتنا وتراثها المجيد.. والله الموفق لما فيه الخير والصواب.
*رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر