مشاهدات من واقع الحرب والنزوح والمعاناة السودانية , اخبار السودان
لم يكن هناك خيار متاح سوى النزوح، بعد ستين يوما من المعاناة في ولاية الجزيرة وسط السودان بعد أن استحالت أبسط مقومات العيش الحياة.
ولاية الجزيرة: التغيير
شهران بالتمام والكمال قضيتهما رفقة أسرتي بمدينة ود مدني حاضرة الجزيرة عقب دخول قوات الدعم السريع للولاية، في جو مشحون بالخوف والحزن والمعاناة وتردي الخدمات وصولا إلى انقطاع شبكات الانترنت والمكالمات الهاتفية.
توقف خدمات الاتصالات كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير لقطاع عريض من المواطنين الذين باتوا يعتمدون على التحويلات البنكية لتسيير إمورهم.
شبح المجاعة
شبح المجاعة بات يهدد الكثيرين الذين فكروا جديا بمغادرة المدينة والنزوح إلى مناطق أخرى أو اللجوء إلى الأقطار المجاورة.
حسمنا أمرنا وقررنا الخروج، فقط مجرد الخروج من ود مدني والجزيرة بلا هدى أو هدف محدد، هربا من جحيم قوات (الجاهزية) وشبح الجوع وتذبذب الكهرباء وشح المياه وانقطاع الاتصالات.
المعضلة الأولى تمثلت في عدم وجود النقد الكافي للسفر بعد أن حبست الأموال في التطبيقات البنكية، الشيء الذي جعلنا نبيع بعض مقتنيات المنزل والمواد الغذائية بأثمان بخسة للحد البعيد لمن يشترونها مستغلين حاجة البائع.
قبيل شروق الشمس قصدنا جسر حنتوب بحثا عن مواصلات لمدن شرق السودان، تحركنا راجلين فالسيارات لا يقودها أحد سوى الدعامة، وعربات الكارو باهظة التكلفة.
وقتذاك انتشرت تمركزات مكثفة لقوات الدعم السريع في معظم المحطات الرئيسة بالمدينة، قال منشؤوها أنها أقيمت للحد من ظاهرة (المتفلتين).
عند أول ارتكاز وبعد أن تخطيناه بخطوتين فوجئنا بأحد الجنود ينادي علينا ويسأل بصوت جهور عن الوجهة وحينما اخبرناه أننا سنغادر الولاية قال: إن شاء الله ما نكون اتلومنا معاكم؟
أحزان وحقائب
مضينا مثقلين بالأحزان والحقائب التي لم نلو على حملها فتارة نتوقف وتارة نجلس على جانب الطريق الخالي من المارة إلا لمامًا.
تمركز الأفراد زاد بصورة ملحوظة في الأحياء الراقية التي تحتوي على العمارات على غرار حي الزمالك والمطار وغيرها.
ويشاهد أفراد القوات وهم يتحلقون أمام هذه البيوت صباحا، في وقت نصبت فيه مضادات الطائرات في قمة المباني العالية.
اعيانا المسير فأنقذتنا سيارة دفع رباعي طلبنا من قائدها التوقف لتوصيلنا ففعل، بعد صمت طويل سألنا عن مقصدنا وحينما ذكرنا له أننا متوجهون إلى ولاية القضارف تطاير الشر من عينيه وقال مهددا: سوف نقنحمها بعد أسبوع.
ترجلنا قبيل جسر حنتوب، أوقفنا تمركز آخر ومضى شاب عشريني يتفحص الأوجه والهويات، قبل ان يسمح لنا بالمرور.
قطعنا الجسر مشيا على الأقدام، في تلك الجمعة، ونحن نشاهد أناسا قادمين إلى مدني وآخرين مغادرين.
وجدنا الحافلات المتجهة إلى القضارف، واخرى نحو مدينة الفاو فاخترنا الأخيرة.
بعد أن تحركت الحافلة بدأت رحلة المعاناة مع نقاط التفتيش التي بلغت ثمانية، لا يفصل بينها سوى أمتار قليلة.
عند كل ارتكاز يصعد جندي نحو الحافلة يتفحص الوجوه، يطلب من الرجال الترجل للتفتيش مع إبراز الهويات وأحيانا يقوم بمراجعة المستندات داخل المركبة.
تتفاوت المعاملة من نقطة تفتيش لأخرى، لكنهم يتفقون جميعا في عدم تفتيش النساء.
أسئلة وأسلحة
تكثر الأسئلة عما إذا كان هنالك ضباط في الحافلة أو جنود يتبعون للشرطة أو الجيش، مع مفاجاة الشباب بنزع القميص من جهة الكتف لبحث اثر محتمل لحمل السلاح.
استغرقت نقاط الارتكاز اكثر من ساعة، والركاب يحتملون في خوف وضجر سخافات الجنود والإجراءات البيروقراطية.
آخر تمركز لقوات الدعم السريع كان شرقي مدينة ود مدني بين قريتي الشبارقة وحفيرة، دون وجود مظاهر عسكرية واضحة إذ لا توجد سوى سيارة دفع رباعي واحدة وعدد قليل من الجنود.
ذات الوضع ينطبق على أول نقطة تمركز للجيش قرب منطقة الخياري، التي قلت فيها اجراءات التفتيش من قبل أفراد الاستخبارات مقارنة بإجراءات الدعم السريع.
بعد توغلنا في مناطق سيطرة القوات المسلحة السودانية بدأت تظهر بعض المقاتلات المرتكزة هنا وهناك مع حركة حرة للمواطنين والسيارات والدواب.
وفي منطقة الشواك بولاية القضارف ازدادت إجراءات التفتيش دقة في نقطة العبور للمدينة، مع مراجعة للهويات والأمتعة.
بحلول الساعة الثانية والنصف دخلنا مدينة الفاو التي استقبلتنا بعدد من ارتكازات التفتيش حتى وصلنا الخيمة الرئيسية التي قضينا فيها اكثر من أربعين دقيقة قبل ان نبلغ السوق الشعبي.
بعد التزود بالماء والطعام استغلينا سيارة صغيرة نحو القضارف، فالحافلات ممنوعة من المغادرة لجهة انها ستصل بعد السادسة مساء وهو موعد حظر التجول.
غادرنا الفاو لنقابل ارتكازات عادية في الطريق تسأل فقط عن الوجهة مع نظرات روتينية للحقائب والوجوه.
الوصول للفاو
دخلنا مدينة الفاو في السادسة تماما ووصلنا إلى سوقها الشعبي لنقضي ليلتنا تلك مع أحد الركاب الذي أصر على أن نبيت بمنزله.
وداخل المدينة نصبت عشرات الارتكازات التي يشرف عليها المستنفرون بمعاونة أفراد القوات النظامية الذين يوقفون السيارات العامة والخاصة، في مشهد فوضوي خلق ازدحاما عظيما أعاق حركة المرور.
بعد احد عشر يوما من انقطاع الانترنت فتحنا هواتفنا في لهفة بمدينة القضارف بعد ان وصلنا للمنزل، أخرجناها من مخابئها التي أودعناها فيها خوفا من السرقة، انهالت الرسائل المشفقة والسائلة عن احوالنا، قمنا بالرد على بعضها وغلبنا النعاس على أمل أن نصحو غدا للبحث عن منزل للإيجار، وهذه معاناة أخرى.
المصدر: صحيفة التغيير