يضمُّ عنوان مقالتنا أعلاه قطبين رئيسين بارزين هما: الكتابة والتأثير، ولكنَّ هناك قطباً ثالثاً يخفيه العنوان يتمثَّل في القراءة، فمن دونها فاعلةً وحيويَّة، تنعدم أهمية الكتابة لجهة التأثير في المتلقّي لما هو مكتوب. الذي حفزنا على الكتابة عن موضوعة الـتأثير، كونها مازالت متجدَّدة الطرح، مثلما زالت تتردَّد مقولة الكاتب الأميركي الراحل إرنست همنغواي:» إن إدارة الإرادة للنصر لا تكون بتحريك المخزون النووي، ولكن بتحريك مخزون الأقلام». هذا يقودنا إلى القول بأنَّ الكتابة المؤثِّرة، وفق كتّابٍ ومبدعين، وتنظيراتهم وتجاربهم، هي التي تحدث تغييراً ما في دواخل متلقّيها، عقلاً وعاطفةً، تغييراً يبدو جليَّاً في طرق تفكيرهم ووجهات نظرهم تجاه الذات والآخر، تّجاه طرق العيش، ومن ثمَّ المنظومات السياسيَّة والاقتصاديَّة والثقافيَّة. وهنا نعرّج إلى أنَّ التأثير الحادث فعليّاً، رُبَّما يكون إيجابيّاً أو سلبيّاً. الإيجابي يكمن في تغيير قناعات المتلقّي، وتوجيه بوصلتها نحو الإيمان الحقيقي بقيم الخير والجمال والعدالة والإحساس بالآخر والعمل على انتشاله من سلبيَّته أو حياديَّته، باتّجاه أن يكون فرداً فاعلاً في بيئته الاجتماعيَّة.
كيف يكون الـتأثير السلبي إذاً؟ هذا السؤال يقودنا إلى الإجابة، بأنَّ مُخرجات المعرفة، ليست ايجابيَّة دائماً، بل هناك النقيض ماثلٌ في الكتابات التي تروِّج إلى كراهية الآخر المختلف عنّا عرقيّاً أو دينيّاً، بل والتحريض على إلغاء وجوده، كما التحريض على الانتقاص من الجنس الآخر المرأة، والحطِّ من دورها في الحياة السياسية والاجتماعية. وهنا نلاحظ مع التقدُّم العلمي والتقني، والانتشار المعرفي مسموعاً ومرئيّاً ومقروءاً، بأنَّ هناك خللاً قيميّاً آخذاً في الاتّساع، وتزايد الاستقطابات الدينيَّة والعنصريَّة والطائفيَّة، بأيِّ حقٍّ مثلاً، يبيد الكيان الصهيوني الغاصب أهل غزَّة، في مسعىً عنصريٍّ محمومٍ لتهجير الفلسطينيين في أرجاء العالم، ليصبح العرب المسلمون من أهالي فلسطين شتاتاً، بعد أن كان اليهود هم الشتات؟ وأين هي ثوابت أميركا الدولة الأولى في العالم، بلد الديمقراطيَّة العريقة، ثوابتها في حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، واحترام حقوق الإنسان، ونشر قيم العدالة، من كلِّ ما يحصل على أرض فلسطين؟ كانت كتب الأديان السماويَّة، الأسس الراسخة للمعرفة الإنسانية، لكنَّ تطوَّر العلم دقَّ إسفيناً في تصنيف المعرفة، بين خيِّرةٍ أو شرِّيرة، بوساطة ما يقوله الفيلسوف ميشيل فوكو عن العلاقة ما بين المعرفة والسلطة:” تقوم السلطة على المعرفة وتستفيد من المعرفة؛ من ناحيةٍ أخرى، تعيد السلطة إنتاج المعرفة من خلال تشكيلها وفقاً لنواياها المجهولة”.
وفي هذا الصدد، يذكر الكاتب الأردني الفلسطيني رامي أبو شهاب، في مقالةٍ له بعنوان” الكتابة.. معضلة التأثير” منشورةٍ في “القدس العربي” اللندنية بتأريخ 5 2 2024 عن التوظيف السلبي للمعرفة، فيقول” اختراع الطباعة، وظهور الكتاب، بالتوازي مع نشوء القيم الصناعية، التي أنتجت مجتمعة معرفة هائلة غير أنها قادت إلى حروب دموية يمكن وصفها بأنها الأكثر بشاعة في التاريخ، ولكن هل يمكن أن نلقي اللوم على الكتاب أو المعرفة، أم على الطريقة التي وُظِّفت فيها الكتابة؛ بمعنى أنها أمست جزءاً من مخطط الإنسان للهيمنة والسيطرة والإقصاء”. ومن ثمَّ يستطرد أبو شهاب بضرورة مساءلة وظيفة المعرفة، في كونها لا يمكن توصيفها بأنَّها خيرٌ مُطلق، بل تحتوي الشرَّ المُضمر أيضاً. ومن هنا، تلك المساءلة تشمل وظيفة الكتابة وتأثيرها، ومن ثُمَّ المُنتج لها، أي الكاتب، ومن ثمَّ الوسيط المباشر إلى إعلان نتاجه على الملأ، أي دار النشر.
على المستوى العربي، نلاحظ التزايد المضطرد لدور النشر، تتبع ذلك ظاهرةٌ ملفتةٌ للنظر، هي الانتشار اللافت لمعارض الكتب في الحواضر العربية، تتبنّاها مختلف المؤسسات الثقافية والإعلامية. وهي عموماً ظاهرةٌ حضاريَّةٌ تسهم في نشر الكتاب والترويج لقراءته، ومحاولة استقطاب أكبر عددٍ من الناس، ممن هم على مستوياتٍ ثقافيَّةٍ مختلفة، وتجعلهم على إطّلاعٍ على ما تنشره دور النشر العريقة والجديدة، كذلك لأجل الفرجة وقضاء وقتٍ ممتعٍ مع البرامج الأدبيَّة والفنيَّة الموازية. ويمكن الاستدراك بأنَّ نوعيَّة الكتب المُقتناة من قبل نسبةٍ كبيرةٍ من الجمهور العام، تنحصر في الكتب التجاريَّة الرخيصة الثمن، ذات النفس العاطفي والتوجِّه التعليمي، أمّا الكتب الرفيعة المحتوى، فهي ذات أسعارٍ باهظة الثمن، ويقتنيها القلّة من ذوي الاختصاص في معارف الأديان والفلسفات والفكر النقدي، فضلاً عن الكتب الإبداعيَّة الجادة. إذا الكتّاب والمبدعون المؤثِّرون، قرّاؤهم من النُّخبة، فضلاً عن مطبوعاتهم الغالية الثمن، لأنَّ دور النشر تضع في حسبانها ندرة الكتّاب والمبدعين المؤثِّرين، بما معناهُ أنَّها تزن حساباتها جيَّداً لكل نوعٍ من الكتب الثمينة أو التجاريَّة.
كيف يتمُّ إحداث التأثير، إذا كانت سوق الكتاب الرائجة تنحصر غالباً على الروايات العاطفية وكتب الطبخ والكتب التعليميَّة، وفي هذا الصدد، قال الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه “لابُدَّ من وجود كاتبٍ رديءٍ باستمرار، وذلك لأنه يشبع ذوق الأجيال الشابَّة التي لم تتطوَّرْ بعد”. إذاً، ينحسر دور الكاتب المؤثِّر، بفعل الأميَّة الثقافيَّة لدى الجمهور العام، وشراهة نسبةٍ كبيرةٍ من دور النشر في التكسُّب المادّي عبر الترويج لطبعات الكتب الرديئة، ناهيك عن ترويج بعضها للكتب ذات الأفكار السّامَّة التي تروّج لكراهية الآخر المختلف والتحريض على العنف. عدم امتلاك عشرات الملايين من العرب نسبةً لا بأسَ بها من الثقافة الرفيعة المؤثِّرة المحفِّزة لهم على حيازة القدرة على التغيير الإيجابي لأوضاعهم، وأوضاع بلدانهم رُبَّما يُعَدُّ أحد أسباب التدهور السياسي والاقتصادي والاجتماعي لدى عديد الدول العربيَّة.