يختبئ البستان في ود المكي السودانية , اخبار السودان
فيصل محمد صالح
نحن، وبلا فخر، جيل الشعر، كانت الاهتمامات الأدبية والثقافية عند جيلنا تتجه للشعر. لم تكن كتابة الرواية منتشرة، وكنا نعرف قليل من كتاب القصة من خلال مجلة الثقافة السودانية، وأولهم، بالنسبة لي كان بشرى الفاضل، صديق وزميل الدراسة لشقيقي هاشم من حنتوب لجامعة الخرطوم.
لا أظن أن أحدا من جيلنا نجا من محاولة كتابة الشعر، سواء استمر بعد ذلك أم لا، وأغلبنا بدأ من المرحلة المتوسطة، فاحتفظ بكراس سجل فيه محاولاته الأولى، وغالبا عرضها على قلة ممن يثق بهم. ولغشامتي، وتوهمي الذي ما زلت أخجل منه، أن أول من عرضت عليه محاولاتي الشعرية كان عبد الله بولا..! تخيل يا مؤمن أن من بين كل سكان الكرة الأرضية أحمل كراستي المكتوب فيها قصائد ركيكة وبخط لا يقرأ لأعرضها على بولا، وهو أستاذ وصديق هاشم شقيقي أيضا، وكان في زيارة لبورتسودان.
لكن لا يخلو الأمر من محاسن، فقد قادني بولا لسكة محمود درويش ومحمد المكي ابراهيم، عرفني عليهما وأهداني ديوانين لهما، كنت أعرف درويش لكنها المرة الأولى التي أسمع فيها بود المكي. أمسكت بديوان “أمتي”…أقرأ واستمتع وأحاول أن أفهم، ثم سقطت بعد يومين بحمى غريبة، قلت لصديقي الراحل معتصم جلابي ونحن طلبة في القاهرة إنها كانت حمى المعرفة…ضحك كثيرا، ثم قال لي “قوم لف…تلقاها ملاريا”..فأفسد علي حالة وهم أخرى.
لم يؤثر محمد المكي إبراهيم في شخصي فقط، لكنه أثر في جيلنا المهتم بالشعر، كتابة وقراءة، وقعنا أسرى له بشكل لا يصدق، وكنت ضنين بمعرفتي بشعره وتخيلت أني انفردت بذلك، حتى فوجئت وأنا في الصف الاول الثانوي بزميلي وصديقي عطية عبد القادر عطية، الطبيب الآن، يترنم بأبيات “لك يا هايدي يضج البوق والطبل انشنج، رحم الأرض اختلج، فاسمعي من ساحة الرقص الدعاء”..التفت إليه مذعورا وأنا أسأله “بتعرف هايدي” قال لي ببساطة : كيف ياخ .. دة محمد المكي.
لا زلت اعتقد أن محمد المكي قصر كثيرا في حق نفسه، مثلما قصرنا في حقه وحق كثير من المبدعين. كتب ود المكي ديوان “أمتي” في الستينات وهو طالب في الجامعة، أمسكه أحيانا وأقارنه بما كتبه درويش وأمل دنقل في تلك السنوات، وحقيقة أجد المسافة فارقة جدا، لكنه توقف قليلا حين تطور شعر درويش وأمل دنقل كثيرا، لأنهما عاشا في مناخ يحتفي بالشعر والشعراء ، وهناك حركة نقدية مواكبة، وحركة نشر واسعة تغطي كل المنطقة العربية، في حين تم نشر ديوان أمتي من دار نشر جامعة الخرطوم فقط في نهاية الستينات.
كانت قصائده الأكتوبرية، هي دستورنا الثوري، خاصة ” من غيرنا يعطي لهذا الشعب معنى أن يعيش وينتصر”، “وإنني أؤمن بالشعب حبيبي وأبي”وهي قصائد معروفة وبعضها مغناة. لكن لم يلتفت الناس للدستور العاطفي الذي وضعه محمد المكي في قصيدته الفريدة “إهانات شخصية لقيس ابن الملوح”..كانت القصيدة صادمة لنا أول ما قرأناها، صورة قيس عند محمد المكي مغايرة وقدم لها قراءة مختلفة، هو لا يتعاطف معه، أسمعه من البداية…
“على ليلى تجرجر في الدواوين العتيقة حزنك الشحاذ، تنشر راية العجز الذليل عن المنى والأخذ والإنجاز، وتفتح صدرك الدامي لأجيال المحبين اليتامى في شعاب الأرض، بأسماء الهوى العذري تطعمهم تعازيك العفيفة عن أحابيل الزمان وعن قصور اليد، وعن ذل السؤال وعن هوان الصد، وعن طول الجوى والوجد لو صد الحبيب وضن”
قيس عنده رجل هوان ضعيف الشخصية، تخلى عن حبه “في أول لفة” ولم يقاتل من أجل حبه…
“لأنك باسم إرضاء القبيل وسطوة الآخر، تركت هواك للأعداء، ولم تصمد هشاشة عظمك العذري للقتلة، وإن صمدت لهول الموت في الصحراء.. لماذا والخيول تصاهلت شوقا إلى التسواح، وسيف شبابك الضاري سنين الحد، وألف مثابة للهاربين على معاقل نجد، لماذا لم تعشش كالنسور مع هواك على تعاظم نفرة وجماح؟، ولم تأخذ حياتك من فخاخ الناهشين ومن يد السفاح؟،
ثم يأتي لما يسميه الشباب اليوم “الردم” فلا يترك لقيس صفحة يرقد عليها
“أهينك، ها أنا عبر القرون، أهين حلمك بالخلود العذب، أهين نذالة الكسب الذليل على حساب القلب، أهين جميع من باعوا الشباب وفرطوا في الحب، ومن خفضوا الرؤوس وطأطأوا الهامات واعتذروا عن الأيام، .. أهين لك الرضاء العام.”
لا زلت اتلذذ وأمصمص شفايفي مستطعما قصائده، قطار الغرب، غنائي لأختي أمان، عيونهما عليها التوت، 21 طلقة لهانوي. أسمعه كيف خرج من السودان لألمانيا وهو ممتلئ ببلاده وشعبه، يقف منافحا لهم:
“رياحكم ماسخة عجوز، في بلدي نعطر الهواء بالمديح، روائح الطعام والضيوف من بيوتنا تفوح،، والجارة التي يرف بالشباب وجهها الصبوح، يا عطرها الشفيف ينشق النهار من شذاه،، أواه لو لمرة أشمه، أضمه، المسه، أراه ، أواه لو تفيد النازح الغريب آه”
كانت تلك خرطوم الستينات العزيزة الكريمة..
“عذراء كقلب القمحة أمتنا،عذراء، الألسن والشهوات هنا عذراء، أجفان الناس مكحلة بالعفة والإغضاء ، حتى صيحات اللذة عند عواهرنا عذراء، محض ثغاء.”
أو وهو يصدح غناءا عاطرا …..
“في أعلى قمم الشمس فرشنا للأضياف موائدنا، وركزنا في أحشاء الأرض بيارقنا، وتفيأنا نهر الدعوى وجبال العزة والنسيان، وتواصينا: دقوا طبل التمجيد لامتنا، غنوا للشعب ملاحم عزتنا، حريتنا، غنوا للشعب على قيثار السادة والفرسان”
ثم يودعهم غير نادم: “سأعود لا إبلا وسقت ولا بكفي الحصيد روائعا، مدوا بساط الحب واغتـفروا الذنوب وباركوا هذي الشهور الضائعة، ما زال سقف أبي يظل ، ولم تزل أحضان أمي رحبة المثوى مطيبة الجناب”.
نخرج الآن من بلادنا مكسورين ومهزومين، لا نعلم إن كنا نعود أم لا
هذا كله عن شهقة البدايات في ديوان “أمتي: الوعي والحلم والغضب”.. الذي هو من مداميك مدرسة الغابة والصحراء التي كان ود المكي من مؤسسيها مع محمد عبد الحي ويوسف عايدابي والنور عثمان أبكر
أما ” بعض الرحيق أنا، والبرتقالة أنت” فهذه كتابة لا يمكن اختصارها هنا، تحتاج لكتابة منفصلة، بجانب أعماله الأخر “يختبئ البستان في الوردة” و”في خباء العامرية”
والختام من ود المكي نفسه
“كان حبيبي شهقة ورنة الوتر، كان حبيبي أعذب البشر، ثم اختفى، كان حبيبا تافها يرحمه االله، إنا بكيناه وكنا مذنبين”
المصدر: صحيفة التغيير