ما وراء ساحة المعركة: الصراع في السودان من خلال عدسة التاريخ والجغرافيا السياسية 34:
جنوب كردفان جبال النوبة، منطقة مضطربة للغاية ظلت تتحمل وطأة الصراع الذي طال أمده في السودان، وتدفع فاتورته لوحدها من ارواح ودماء ابنائها، انه جزء المسلسل المستمر الذي يهف على استدامة الصراعات فيها لتسهل السيطرة على نخب مواردها الغنية. يسعى هذا التحليل إلى تحويل السرد نحو فهم جنوب كردفان ليس فقط كساحة معركة ولكن كضحية للحرب، تتلاعب بها القوى التي تسعى إلى تعزيز اجنداتها من خلال خلق تحالفات وصراعات قد لا تكون موجودة على الأرض. يتناول هذا الجزء الثالث من سلسة { ما وراء المعركة: الصراع في السودان من خلال عدسة التاريخ والجغرافيا السياسية 34. ليكون هذا المقال تحت عنوان التحالفات الممزقة و الأجندات الخفية في جبال النوبة} بشكل نقدي العلاقة والتحالف المزعوم بين الجيش الشعبي لتحرير السودان والقوات المسلحة السودانية، والذي، كما ناقشنا سابقًا، نفاه الجيش الشعبي لتحرير السودان بشكل قاطع، ولا سيما قائده عبد العزيز. الحلو.
يقول التقرير الصادر من ACLED (مشروع بيانات مواقع النزاع المسلح وأحداثها)
بتاريخ الجمعة 16 فبراير 2024: ” وفي جنوب كردفان، تتقاطع الانقسامات الفئوية والعرقية أيضًا مع الحرب الوطنية. وظهرت تحالفات متغيرة في مدينة الدلنج، حيث يدعم فصيل الحلو التابع للحركة الشعبية لتحرير السودان شمال القوات المسلحة السودانية عسكريا”.
ويضيف التقرير ايضا: ” وأدى اندلاع القتال حول الدلنج إلى إشعال أعمال عنف بين الطوائف العرقية. في حين أن تدخل الحلو يهدف على الأرجح إلى الحفاظ على مناطق سيطرته بدلاً من الاستيلاء على الدلنج.” انتهي الاقتباس.
ويبدو أن السرد الذي يسعى إلى ربط الجيش الشعبي لتحرير السودان والقوات المسلحة السودانية في تحالف عملياتي في جنوب كردفان هو مناورة استراتيجية وليس انعكاسًا للديناميكيات الفعلية الجارية. ويبدو أن الإصرار على اختلاق هذه العلاقة من قبل معدي التقرير استنادا على ما يبدو على مصادر مضللة يخدم غرضًا مزدوجًا: إضفاء الشرعية على بعض الأعمال العسكرية وإخفاء الطبيعة الحقيقية للصراع. والحقيقة، كما يشهد على ذلك قادة الحركة الشعبية الذين أوضحوا بكل شفافية عبر منصاتها الرسمية، كما عرضنا ذلك بالتفصيل في المقال السابق، حيث تحدث قائدها عبدالعزيز الحلو، ونائبه كزت كوكو، والقائد عادل شالوكا بكل وضوح عن نفيهم لأي علاقة تربطهم مع الحرب الدائرة أو تدخلهم في الدلنج لصالح الجيش ونفي بصورة قاطعة أي تحالف بينهم وبين القوات المسلحة. إن هذا النفي الموثق يؤكد طبيعة التحريف للواقع الذي يخدم خط الجيش. بل ان أبناء النوبة الموالين للجيش كانوا وراء هذا التدخل وخلط الأوراق، تشير إلى سيناريو أكثر تعقيداً حيث تنخرط الجهات الفاعلة المحلية وربما الكيانات الخارجية في لعبة تحالفات خادعة. أن التحريف والسعي وراء أجندات متضاربة سلوك قديم انتهجه الجيش في الحرب في جبال النوبة حينما الب القبائل العربية عبر افتعال خصومات بينها وبين قبائل النوبة في منحى معتمدا على سياسة فرق تسد ويريد تكرارها مجددا الان لاختلاق مزيدا من العنف القبلي الذي قد يغير الموازين لصالحه في المنطقة.
ويضيف التقرير ايضا في تعمد مقصود بهدف ترسيخ مفهوم التحالف بين الحركة والقوات المسلحة حينما التقرير يقول: “وبحسب ما ورد تم حرق قبيلة الحوازمة في الدلنج من قبل القوات المسلحة السودانية والحلو انتقاما لدعم القبيلة لقوات الدعم السريع.” وأضاف التقرير ايضا: ” فقد ورد أن العديد من الأحياء التابعة لقبيلة الحوازمة المتحالفة مع قوات الدعم السريع في الدلنج قد أحرقت من قبل القوات المسلحة السودانية والحلو انتقاماً لدعم القبيلة لقوات الدعم السريع”.
في رائي يسلط التقرير الضوء بالفعل على الأحداث المأساوية، حيث أشعل الجيش وحلفاؤه من مليشيات النوبة النار في الدلنج، وقاموا بحرق الأحياء السكنية التي يقطنها الحوازمة، لكنه فشل التقرير في تسليط الضوء على هذه الحقيقة فاستبدل المليشيات التابعة للجيش بالحركة الشعبية عبد العزيز الحلو. في إخفاء الحقيقة المعلومة للجميع، وربما لعدم معرفة معدي التقرير الفروق الدقيقة وتعقيدات المنطقة أو تضارب مصالح المصادر التي اعتمد عليها، فانحرف ووقع في عوالم التضليل والارتباك دون أن يقصد في أحسن تقدير. وبعيدًا عن السرد الذي ينسجه التقرير، لم تكن الحركة الشعبية مشاركًا نشطًا في الصراع في الدلنج قد تكون في مناطق اخرى في الاقليم حيث استولت على عدد من حاميات الجيش. وقد أدت هذه الحرب الممنهجة التي ظل أنصار النظام السابق والاجهزة الامنية تبشر بها منذ شهور مضت، بل منذ بداية الحرب في محاولة لتكرار سيناريو الجنينة في جنوب كردفان جبال النوبة. بل عملت على ذلك بشتى الطرق. كانت تهدف لتمهيد الطريق لصدامات وحروب أهلية فتاكة مستفيدة من مخزون المرارات والتناقضات التي حرصت حكومة الخرطوم على استمرارها في الإقليم. بغرض بسط نفوذ سيطرتها على المنطقة. في ادعاء واضح ومفضوح ان الحركة الشعبية حليف لهم في ذلك في أكبر عملية تضليل وترويج إعلامي تبنته منصات اعلامية في السوشيال ميديا وبعض القنوات الاعلامية والاخبارية ذات التوجه المعروف. هذا الترويج قاد الى استهداف الحوازمة في الدلنج، ونهب ممتلكاتهم وحرق منازلهم، وتصفية أبنائهم في الجيش كالذي تم صلبه والتمثيل بجثته في الدلنج. مما أدى نزوحهم بالالاف الى خارج الدلنج، حيث يعيشون في ظروف انسانية بالغة التعقيد، مع انعدام الخدمات الأساسية، وانقطاع المنطقة بسبب اغلاق الطرق. إذ ان حالهم كحال إنسان جنوب كردفان الذي وجد نفسه في سجن كبير معزولا تماما عن الدنيا في انعدام ضروريات الحياة. تدخل المليشيات القبلية التابعة للجيش، وهي قوات صممت منذ فترة طويلة لمحاربة الحركة الشعبية يسلط الضوء على استراتيجية أوسع تم إعادة توجيهها الآن في حملة الجيش الحالية ضد القبائل العربية في المنطقة. خاصة التي لها علاقة الحواضن الاجتماعية بقوات الدعم السريع وأنظمة الدعم المجتمعي الخاصة به. ويسعى هذا الصراع المنسق، الذي طالما روج له أنصار النظام السابق والكيانات الأمنية، إلى زرع بذور الاضطرابات الأهلية والاثنية لتعزيز هيمنتهم على المنطقة، ووضع الحركة الشعبية بشكل خاطئ كحليف متواطئ في هذه المساعي من خلال حملة تضليل منسقة عبر منصات دعائية لتاجيج الصراع. وقد أدى هذا الاستهداف المتعمد إلى التعجيل بموجات النزوح الجماعي من الدلنج، مما أدى إلى وقوع الآلاف في مأزق إنساني شابه الحرمان من الخدمات والعزلة الإقليمية الشبيهة بالإغلاق التام لسكان جنوب كردفان جبال النوبة، تعكس رواية أكبر عن العزلة المنهجية، مما يجعلهم سجناء داخل أراضيهم، منفصلين عن المجتمع العالمي.
وقد أغفل التقرير تورط جماعات النظام السابق، المتحالفة مع القوات المسلحة السودانية، التي تنشد بكثافة في محاولة لإغراق جنوب كردفان جبال النوبة في الفوضى من خلال تنسيق صراعين متزامنين. وقد شهدت هذه الاستراتيجية، التي تهدف إلى زعزعة استقرار المنطقة، فشل المحاولات السابقة. ومن خلال خلق واجهة من التحالفات، يسعى المنسقين إلى زيادة إرباك الوضع، مما يزيد من تعقيد المشهد الاجتماعي والسياسي المعقد بالفعل في جنوب كردفان.
إن إن رفض الحركة الشعبية لأي علاقة لها بأحداث الدلنج كما اكدت وفقا لبيانات رسمية تعرضنا لها في المقال السابق من هذه السلسلة، يؤكد على محاولة متعمدة للنأي بنفسها عن السرد الهندسي للتحالفات المتوهمة التي افترضها التقرير بناءا على مصادر معلومات مضللة في أحسن تقدير. إن ادعاءات الجهات الفاعلة المحلية، بما في ذلك الموالين لكافي الطيار والجو، بأنهم جزء من حركة شعبية بينما يسعون سراً للحصول على دعم أعضاء الحركة المتقاعدين أو المفصولين، تسلط الضوء على استراتيجية خادعة تهدف إلى التعتيم على الديناميكيات الحقيقية للصراع . تهدف هذه المناورة إلى إرباك المراقبين وتلفيق وجود حلفاء في حين لا يوجد حلفاء، مما يزيد من تعقيد فهم طبيعة الصراع. إنكار الروابط بين حلفاء الجيش من الموالين له، والبحث عن حلفاء وهميين بينه وبين الحركة الشعبية حيلة لن تنطلي على فطنة المراقبين والمطلعين على حقيقة الاوضاع على الارض.
أن الانتقام الشديد ضد قبيلة الحوازمة الذي مارسه الجيش ومليشياته، ويؤكد هذا الفصل الأخير في تاريخ جنوب كردفان جبال النوبة التعقيد المأساوي للصراع الأوسع في السودان. فهو لا يسلط الضوء على التفاعل بين الاستراتيجيات والتحالفات العسكرية فحسب، بل يسلط الضوء أيضًا على التكلفة البشرية الباهظة التي تتحملها المجتمعات التي تقع في مرمى النيران. إن الوضع في جنوب كردفان جبال النوبة، هو بمثابة تذكير مؤثر بالحاجة الملحة لاستراتيجية سلام شاملة تعالج الأسباب الجذرية للصراع وتمهد الطريق للتعافي وإعادة البناء في هذه الدولة التي مزقتها الحرب. ومن هنا اقدم الدعوة للحركة الشعبية و الدعم السريع للتفاكر بصورة أوسع حول كيفية تجنيب المنطقة الانزلاق في فخ التطهير العرقي المخطط له بدق، ودعونا نعمل معا لتضميد الجراح وعزل المنطقة من الحروب القبلية والأهلية.
يجسد الوضع في جنوب كردفان جبال النوبة، التأثير الضار للمعلومات المضللة والروايات المصاغة بشكل انتقائي استراتيجي على فهم النزاعات وحلها. إن الإصرار على تشكيل تحالفات غير موجودة لا يؤدي إلا إلى تعميق الانقسام، مما يجعل الطريق إلى السلام صعبا على نحو متزايد. ومن الأهمية بمكان أن يقوم المجتمع الدولي وصناع السياسات وأصحاب المصلحة بإجراء تقييم نقدي للمعلومات والروايات التي يتم نشرها، للتمييز بين الواقع والتلاعب. وينبغي أن يتحول التركيز نحو الاعتراف بمظالم وتطلعات المجتمعات المحلية، وفهم الأسس التاريخية والسياسية للصراع، وتعزيز الحوار الحقيقي وعمليات المصالحة التي تحترم استقلالية وقوة الشعب السوداني، وخاصة أولئك الذين يعيشون في المناطق التي مزقتها الصراعات. مثل جنوب كردفان جبال النوبة. فقط من خلال هذا النهج المستنير والتعاطف يمكن كسر دائرة العنف والمعلومات المضللة، مما يمهد الطريق لسودان ينعم بالسلام والاستقرار.
وتتكشف مأساة إنسانية اخرى كامنة، دون أن يلاحظها أحد إلى حد كبير من قبل أنظار العالم. عائلات انتزعت من أحضان منازلها، وأطفال أسكت ضحكاتهم بسبب هدير الصراع، وكبار السن الذين تعكس عيونهم الندوب العميقة للصراع الذي لا هوادة فيه. إن هذه المنطقة، المعزولة والمحاصرة، هي تذكير و تعبير صارخ بتكلفة الصراع، حيث يصبح فعل البقاء البسيط عملاً من أعمال التحدي ضد قسوة الحرب. وبينما يقف المجتمع الدولي على مفترق طرق، فإن محنة جنوب كردفان تتطلب اتخاذ إجراءات فورية ليس فقط في شكل مساعدات، ولكن كالتزام جماعي لصياغة مسارات للسلام، وإعادة فتح شرايين الحياة، واستعادة الأمل. وفتح منافذ لتدفق المساعدات الانسانية عبر دولة جنوب السودان إلى شعب تحمل ما لا يطاق. إن قدرة سكان جنوب كردفان جبال النوبة على الصمود، وسط الخراب، هي شهادة قوية على الروح الإنسانية، ومع ذلك، فهي روح لا ينبغي لها أن تقف وحدها في ظل مثل هذه المحنة العميقة.
وسط ظلال الصراع في جنوب كردفان جبال النوبة، يبرز بصيص من الأمل عندما يمد ابناء الاقليم والقادة والمجتمعات المحلية، بما في ذلك قادة الجيش الشعبي لتحرير السودان، أيديهم لبناء جسر يعبر فوق الانقسامات العرقية والثقافية و المعتقدية. وفي جهد متضافر لحماية وطنهم من لهيب حرب الخرطوم، يبحر هؤلاء القادة في طريق نحو الوحدة والتعاون. وخلافاً للتقارير التي تصور بشكل غير عادل الحركة الشعبية على أنها متواطئة في إقامة تحالفات مدمرة مع الجيش الذي يحرص على اشتعال الإقليم وتفجير الحروب الاهلية فيه، فإن الواقع على الأرض يحكي قصة الصمود والتوق الجماعي للسلام. بينما تصبح ولاية جنوب كردفان جبال النوبة ملجأً على مضض لآلاف النازحين بسبب الصراع المتفاقم في جميع أنحاء السودان، يعمل قادتها وشعبها بنشاط على إنشاء ملاذ آمن وسط العاصفة. وتؤكد جهودهم مسعى محوريا ليس فقط للتخفيف من الآثار المباشرة للحرب ولكن أيضا لإرساء الأساس للسلام والاستقرار الدائمين في المنطقة. ويعكس هذا التوجه نحو الوحدة، في مواجهة اتهامات لا أساس لها من الصحة وشبح صراع ثلاثي الجبهات، الروح التي لا تقهر لمجتمعات جنوب كردفان جبال النوبة، العازمة على صياغة مستقبل حيث يستسلم شبح الحرب للوعد بالمصالحة والتجديد. في تحدي واضح لمواجهة مخططات الخرطوم سابقا وبورتسودان حاليا. فالعقلية واحدة.
*تصويب واجب: ورد في المقال السابق من هذه السلسلة: ان تاريخ نشر حوار القائد/ عزت كوكو أنجلو رئيس هيئة أركان الجيش الشعبي لتحرير السودان شمال على الموقع الرسمي للحركة الشعبية بتاريخ 24 فبراير 2024 بينما الصحيح بتاريخ 14 فبراير 2024، اعتذر على هذا الخطا الغير مقصود، والذي لا يفوت علي فطنة القارئ الحصيف.
المصدر: صحيفة الراكوبة