كيف “تقتل” روسيا الأفارقة بحملات التضليل؟
بأربع لغات، منها العربية، تقف روسيا وراء “وكالة أنباء” تقول إنها مخصصة لتغطية “أحداث تتعلق في القارة الأفريقية”، لكن غالبية من يعملون فيها مجندون في المؤسسات المتفككة التابعة ليفغيني بريغوجين، القائد السابق لمرتزقة “فاغنر” الروسية، الذي اغتيل في أغسطس 2023.
على السطح، تقدم “الوكالة الأخبارية” نفسها تحت اسم “المبادرة الأفريقية”، لكنها منصة تبث دعاية موسكو المصصمة وفق معلومات مضللة تحارب الجهود الغربية في مساعدة القارة السمراء على مواجهة الأوبئة الخطيرة.
على سبيل المثال، تحاول موسكو الترويج لنظرية مؤامرة تقول إن الأفارقة كانوا “موضع اختبار في برامج أبحاث بيولوجية تابعة للبنتاغون”، وهو مالم تدعمه الدعاية الروسية بدليل واحد، لذا لم تأبه به المنظمات والدولية والحكومات الغربية.
Without dedicated people and organizations, our work to control the HIV epidemic would not be possible. We remember the…
Posted by USAID East Africa on Friday, December 1, 2023
على موقعها الإلكتروني، تقول المبادرة الإفريقية إنها تهدف إلى “توسيع المعرفة المتبادلة بين الروس والأفارقة عن بعضهما البعض”، لكن غالبية المضامين المنشورة، تركز على مهاجمة أوكرانيا والدول الغربية، وخاصة المشاريع الصحية التي كلفت الولايات المتحدة مليارات الدولارات لمساعدة دول أفريقيا.
“التضليل الخبيث”
يقول المبعوث الخاص ومنسق المركز العالمي للانخراط في وزارة الخارجية الأميركية، جيمس روبين، في مقابلة خاصة مع قناة “الحرة” إن ما يفعله الروس في أفريقيا “عملية تضليل ضارة وخطيرة”.
ويضيف أن أجهزة المخابرات الروسية تقوم “بشيء خطير” بحق الأفارقة وعائلاتهم لأنها “تلقي بظلال من الشك على البرامج المهمة والبناءة التي تنقذ الأرواح”.
المنصات الروسية الموجهة لبث المعلومات المضللة في أفريقيا هاجمت البرنامج الأميركي الأكثر نجاحا في أفريقيا والمعروف باسم “خطة الرئيس الأميركي الطارئة للإغاثة من مرض الإيدز (PEPFAR)”، وبثت دعاية تشكك في أهدافه رغم أنه أنقذ حياة عدد لا يحصى من الأفارقة لجهوده في مجال فيروس نقص المناعة البشرية والإيدز”، وفق روبين.
وكان وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، أشار إلى أن الولايات المتحدة أنفقت ما يقرب من 100 مليار دولار في السنوات الـ 20 الماضية في المجال الصحي في أفريقيا.
ويؤكد روبين أن هذا الجهد الأميركي الكبير في أفريقيا جعل روسيا “تشعر بالغيرة، ومن الواضح أنها منزعجة من نجاح البرامج الصحية الأميركية، لذلك تحاول استخدام المعلومات المضللة ونظريات المؤامرة لثني الأفارقة عن الحصول على الرعاية الصحية اللازمة التي ستنقذ حياتهم”.
كيف “تقتل” روسيا الأفارقة بالمعلومات المضللة؟
ويؤكد روبين أن ما يجري من عمليات تضليل روسي للأفارقة “ليس مجرد مسألة جيوسياسية، كما هو الحال عادة مع المعلومات المضللة الروسية، إذ يمكنك حقا ربط أجهزة المخابرات الروسية والكرملين بقتل الأفارقة الأبرياء لأنهم لا يشجعونهم على الحصول على الرعاية الصحية اللازمة”.
ويكشف مركز المشاركة العالمية التابع لوزارة الخارجية الأميركية بأن أجهزة المخابرات الروسية تقدم الدعم المادي والتوجيه إلى “المبادرة الأفريقية”، والتي تعمل تحت غطاء وكالة أنباء.
لكن في الحقيقة، تجند المبادرة الأفريقية صحفيين ومدونين وأعضاء من الجمهور المحلي الأفارقة، بالإضافة إلى موظفيها، لدعم وتضخيم عملها لتعزيز صورة روسيا وتشويه صورة الدول الأخرى.
وأحد أخطر الحملات الأولى لـ “المبادرة الأفريقية” هي استهداف المبادرات الصحية الأميركية والغربية في أفريقيا بمعلومات مضللة خطيرة تتعلق بالصحة.
وتسعى الحملة الروسية إلى تقويض مشاريع الصحة العامة التي تمولها الولايات المتحدة في جميع أنحاء أفريقيا من خلال التضليل بشأن تفشي مرض فيروسي بنقله البعوض.
ويتركز عمل المبادرة الأفريقية التابعة لروسيا على نشر المعلومات المضللة ونظريات المؤامرة حول شركات الأدوية الغربية والجهود الخيرية التي تركز على الصحة، وكذلك انتشار الأمراض في غرب وشرق أفريقيا.
ويقول روبين في حديثه لقناة “الحرة” إن الروس “أدركوا أن جهودهم في أوروبا تهدف إلى ترويج الادعاء الزائف بأن الولايات المتحدة استخدمت المختبرات الحيوية في أفريقيا”.
ويضيف أن هذا “أمر كبير حاولوا دفعه العام الماضي، ولم يصدقه أحد لأن المجتمع الدولي قد درسه ونظر إليه، وخلص إلى أن الأنشطة البيولوجية الوحيدة هي برامج الوقاية من الأمراض في أوكرانيا”.
ويوضح روبين كيف فشل الروس في التدليل على ادعاءاتهم المضللة، فقد “أدركوا أنهم لا يستطيعون إقناع الأوكرانيين بشراء هذا، ولا يمكنهم إقناع الأوروبيين بشراء هذا”.
ويؤكد أن الروس “منزعجون للغاية من الطريقة التي توحدت بها أوروبا لمعارضة حرب روسيا في أوكرانيا، وللتوحد دفاعا عن ضحية تلك الحرب”.
كنتجية لهذا الفشل، يقول روبين إن الروس يحاولون في أجزاء أخرى من العالم “التشكيك في الولايات المتحدة باستخدام الحجج البيولوجية مرة أخرى، زاعمين هذه المرة اختبارات الأسلحة البيولوجية وجميع أنواع نظريات المؤامرة التي من المؤكد أنها غير صحيحة”.
وينوه المسؤول الأميركي إلى أن “المأساة هنا هي أنه من خلال القيام بذلك في أفريقيا، حيث غالبا ما يصدق الناس أول ما يسمعونه، فإنهم يثبطون ويمنعون الأفارقة من الحصول على الرعاية الصحية اللازمة. وأعتقد أنه يجب محاسبة الروس على مقتل الأفارقة الأبرياء الذين قد يتم تضليلهم بحملات التضليل هذه”.
التكتيك المستخدم
نتشر المبادرة الأفريقية معلومات مضللة والدعاية عبر العديد من حسابات وسائل التواصل الاجتماعي ذات العلامات التجارية غير المميزة.
وأبرز حسابين نشطين في الترويج للمعلومات المضللة هما “المبادرة الأفريقية” و”كلاشينكوف الأفريقي”.
كما أن المبادرة الأفريقية تنشط على نحو واسع عبر موقعها الإلكتروني، كما تستخدم منصات روسية مصصمة للتواصل الاجتماعي. وتدعمها حسابات مؤيدة للكرملين وروسيا.
وعلى سبيل المثال تعد قناة “سمايل أند ويف” على تطبيق تليغرام من أبرز القنوات التي تروج للمعلومات المضللة التي تنتجها المبادرة الأفريقية.
ويقول مركز المشاركة العالمية التابع لوزارة الخارجية الأميركية إن التلاعب بالمعلومات الأجنبية “يشكل تهديدا خطيرا في جميع أنحاء العالم، حيث تستخدمه الجهات الاستبدادية مثل الحكومة الروسية عبر تكتيك يساهم في تفاقم الانقسامات الاجتماعية، وتحريف الخطاب الوطني وتعطيل قدرة الشعب على اتخاذ قرارات مستنيرة لأنفسهم ومجتمعاتهم على نحو أساسي”.
ويؤكد المركز أن الحكومة الروسية، ومن خلال دعم شبكة المعلومات المضللة، تعمل على “إيذاء البلدان التي تستهدفها والقارة الأفريقية ككل”.
وكشف المركز مؤخرا محاولات الكرملين تقويض الدعم العالمي لأوكرانيا من خلال نشر معلومات مضللة سرا في أميركا اللاتينية.
@USAID, through @PEPFAR, is proud to provide over seven million people living with HIV with lifesaving treatment. We…
Posted by USAID East Africa on Thursday, November 30, 2023
ويتضمن التكتيك الأساسي في تلك الحملة “تبييض المحتوى الذي تنتجه موسكو من خلال أفراد ومجموعات محلية لجعل التضليل والدعاية المؤيدة للكرملين تبدوا مترابطة للمجتمعات التي انتشرت فيها”.
وتحاول الحكومة الروسية الآن، وبعد تعطيل تلك العملية، استخدام نفس التكتيك في أفريقيا مع مجموعة جديدة من الجهات والكيانات الفاعلة، وفق المركز.
ويعد التلاعب بالمعلومات الأجنبية “أسلوبا خطيرا ومزعزعا للاستقرار، وضارا على نحو خاص عند استهداف المعلومات الصحية”، وفق ما يقول المركز.
وينبه المركز إلى وجوب “إنهاء حملة التضليل الإعلامي التي يقوم بها الكرملين على الفور قبل أن تشكل خطرا أكبر على الأمن الصحي في أفريقيا”.
ويؤكد روبين، في المقابلة الخاصة مع قناة “الحرة”، بأن روسيا تستخدم المعلومات المضللة في قطاع الرعاية الصحية من خلال “طرح نظريات مؤامرة مجنونة مثل تلك التي استخدموها في أوكرانيا حول اختبارات الأسلحة البيولوجية، ونظريات المؤامرة المجنونة حول إلقاء اللوم بطريقة أو بأخرى على الغرب في تفشي حمى الضنك”.
ويكشف روبين أن “كل هذه الادعاءات الكاذبة بدأت للتو في الوصول إلى موجات الأثير والقصص الإخبارية. ولا يزال الأمر مبكرا جدا”.
ولمواجهة التكتيك الروسي في حملات التضليل التي تستهدف أفريقيا، يأمل روبين أن يعرف عددا أكبر من الصحفيين والمسؤولين في مجتمع الرعاية الصحية أن هذا التضليل “يتم في الكرملين”.
ويقول إن المعلومات المضللة التي ينبغي أن تحمل ختما مكتوبا عليها “صُنعت في الكرملين”، مبديا أمله في أن تم منع المعلومات المضللة التي تنشرها روسيا من جذب انتباه الناس.
مواجهة التضليل الروسي في أفريقيا
يقر روبين بأن مواجهة حملات التضليل الروسية، سواء في أفريقيا، أو أي مكان في العالم يجب أن لا توصل إلى قمع الصحافة. ” وآخر شيء أريد القيام به هو الانخراط في شيء من شأنه قمع الصحافة الحقيقية”.
لكن المسؤول الأميركي يؤكد أن أول شيء يجب على الناس في أفريقيا والمشاهدين في جميع أنحاء العالم أن ينتبهوا إليه الآن هو أن روسيا “بدأت للتو في إلقاء ظلال من الشك من خلال هذه الحملة على مبادرات الرعاية الصحية الناجحة تماما، والتي يمكن أن تنقذ الأرواح”.
لذلك “إذا رأيت بعض التقارير في أي مكان تلقي بظلال من الشك على نجاح مبادرات الرعاية الصحية هذه، فيجب عليك طرح بعض الأسئلة. من أين أتى؟ من أبلغ عن هذا؟ لماذا أقرأ هذا الآن؟ اطرح الأسئلة الصعبة وسيعرف الناس أن الروس يحاولون التلاعب بهم”، يقول روبين.
ويأمل روبين من جميع الدول المسؤولة، الأفارقة والأوروبيين والأميركيين، “اتخاذ موقف صارم ضد أولئك الأفراد الذين يقومون بهذا العمل الغادر الذي يهدف إلى ردع الأفارقة عن الحصول على الرعاية الصحية التي يحتاجون إليها”.
ويقول إنه “بقدر ما تكون هناك أدوات جزائية مناسبة، تذكر أن الجزء الصعب من التضليل هو أننا دولة تؤمن بحرية الصحافة. نحن دولة تؤمن بأن للناس الحق في أن يقولوا ما يريدون، ولذا فمن الصعب معاقبة شخص ما لأنه كذب نيابة عنا”.
ويضيف روبين أن “علينا في البداية أن نكشف (الأكاذيب) ونعطلها. وقد فعلنا هذا من قبل. لقد قمنا بذلك بنجاح كبير في أوكرانيا. لقد فعلنا ذلك بنجاح في أميركا اللاتينية. وفي الخريف الماضي، حاول الروس أن يفعلوا الشيء نفسه من خلال إنشاء حملة تضليل في أميركا اللاتينية. وقد تمكنا من كشفها مبكرا جدا، ونعتقد أنه من المفيد الكشف عنها مبكرا”.
ويوضح المسؤول الأميركي أن الولايات المتحدة عملت بشكل وثيق مع الحكومات الأفريقية لمواجهة حملات التضليل الروسية. “لقد أصدرنا وثيقة غير عادية للغاية من قبل وزارة الخارجية، وهي صحيفة حقائق تحتوي على تفاصيل حول عمليات الاستخبارات الروسية، لأننا نشعر بقلق بالغ بشأن هذا الأمر”.
ويشدد روبين على أنه نظرا لأن حرية المعلومات هي إحدى القيم الأساسية التي تتمسك بها الولايات المتحدة، “فإننا في بلدنا لا نعاقب الأشخاص بسبب الكذب. ربما ينبغي علينا ذلك، لكننا لا نفعل ذلك. هناك حكومات أفريقية لديها قيود أكثر صرامة، وقوانين أكثر صرامة”.
What is humanitarian aid? For us, it starts & ends with PEOPLE. See how USAID’s Bureau for Humanitarian Assistance works with people and partners around the world to make a difference. #NoMatterWhat we will be there.
Posted by USAID East Africa on Tuesday, November 14, 2023
ويشير روبين إلى أن الجهود الأميركية تنصب على “تحديد المرض الحقيقي، التلوث الحقيقي في فضاء المعلومات. والمرض هو عندما تستخدم روسيا والصين عمليات سرية لإخفاء دورهما، عندما تكون اليد الخفية للصين وروسيا قادرة على نشر المعلومات من دون أن يعرف الناس من أين تأتي”.
ويؤكد أن “الشيء الأكثر أهمية هو أن يعرف الناس من أين تأتي معلوماتهم، وأن يكون ذلك شفافا”.
وحين يكون واضحا أن مصدر المعلومات هو الكرملين سيكون المتلقي “متشككا، لأن (روسيا) دولة غزت أوكرانيا من دون سبب”، يقول روبين، مؤكد أن روسيا “بلد له تاريخ طويل من الاغتيالات والغش في المجال الرياضي العام. واكتشف غشهم في الألعاب الأولمبية”.
لذلك يعتقد روبين بأنه “إذا عرف الناس أنها (المعلومات) مصنوعة في الكرملين، وإذا عملت حكومات المنطقة على ضمان عدم نشر المعلومات من دون مصدرها، وتوضيح مصدرها، فيمكننا أن نبدأ في حل المشكلة”.
ويؤكد روبين أن استراتيجية روسيا تقوم على أساس “زرع مساحة المعلومات بصحافة سرية” حيث يعمل أفراد على أنهم صحفيون، في حين “يتم دعم هؤلاء الأشخاص من قبل المخابرات الروسية”.
وتكشف معلومات مركز المشاركة العالمية التابع لوزارة الخارجية الأميركية بأن، أرتيم سيرغيفتيش كورييف، هو رئيس تحرير موقع المبادرة الأفريقية، وهو أيضا المدير العام لمبادرة 23، المسجلة علنا في مكتب في موسكو.
وتشير المعلومات إلى أن بعض أعضاء المبادرة الأفريقية جندوا من المؤسسات المتفككة التابعة للراحل، يفغيني بريغوجين، القائد السابق لمجموعات المرتزقة الروسية “فاغنر” المتورطة في جرائم حرب في عدة دول في العالم، وتنشط في الصراعات الدائرة في أفريقيا، كما أنها متورطة في نهب ثروات في القارة السمراء.
ويقول المركز إن لدى المنظمة بالفعل مكاتب محلية بمدينة واغادوغو في بوركينا فاسو وباماكو في مالي وتقوم باستضافة فعاليات في الميدان.
المصدر: صحيفة الراكوبة