اخبار المغرب

قرار محكمة العدل الدولية ضد العدوان الإسرائيلي .. الانعكاسات وفرص التنفيذ

ليس ثمة شك في أن القرار الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في 26 يناير 2024، في النزاع الذي أثارته جنوب إفريقيا ضد الجرائم الإسرائيلية في غزة، يشكل، بقطع النظر عن حدوده، انتصارا للقانون الدولي ضد منطق القوة الذي تريد إسرائيل فرضه في عدوانها المتواصل على الفلسطينيين. فما هو السياق الذي جاء فيه هذا القرار؟ وما هي فرص تنفيذه، وكذا انعكاساته على الوضع الكارثي الذي يعيشه الشعب الفلسطيني؟.

في سياق انتهاك اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها

في 29 ديسمبر 2023 قدمت جنوب إفريقيا مذكرة افتتاحية تعتبر بموجبها أن أفعال إسرائيل تعتبر ذات طابع إبادة جماعية، لأنها ترتكب بالقصد المحدد المطلوب لتدمير الفلسطينيين في غزة كجزء من القومية الفلسطينية الأوسع. كما أشارت الدعوى إلى أن إسرائيل ارتكبت من خلال “أجهزة الدولة ووكلاء الدولة، وغيرهم من الأشخاص والكيانات التي تعمل بناء على تعليماتها أو تحت توجيهها أو سيطرتها أو نفوذها، ما يشكل انتهاكا لالتزاماتها إزاء الفلسطينيين في غزة بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها”.

ويتعلق الأمر هنا بنزاع قانوني بين دولتين يستند إلى الاتفاقية المذكورة، التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 9 ديسمبر 1948، أي بضعة أشهر بعد إعلان ميلاد دولة إسرائيل على أنقاض ما تعرض له اليهود من محرقة خلال الحرب العالمية الثانية.

لقد استندت جنوب إفريقيا في مذكرتها التي تضمنت أكثر من 80 صفحة، خاصة، إلى المواد الثانية والثالثة والتاسعة من الاتفاقية المشار إليها:

بموجب المادة الثانية من الاتفاقية المذكورة “تعني الإبادة أيا من الأفعال التالية المرتكبة قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية بصفتها هذه:

أ. قتل أعضاء من الجماعة.

ب. إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة.

ج. إخضاع الجماعة عمدا لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا.

د. فرض تدابير تستهدف الحيلولة دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.

ه. نقل أطفال من الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى”.

وحسب المادة الثالثة “يعاقب على الأفعال التالية:

أ. الإبادة الجماعية.

ب. التآمر على ارتكاب الإبادة الجماعية.

ج. التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية.

د. محاولة ارتكاب الإبادة الجماعية.

ه. الاشتراك في الإبادة الجماعية”.

وتنص المادة التاسعة آنفة الذكر على أنه “تعرض على محكمة العدل الدولية، بناء على طلب أي من الأطراف المتنازعة، النزاعات التي تنشأ بين الأطراف المتعاقدة بشأن تفسير أو تطبيق أو تنفيذ هذه الاتفاقية، بما في ذلك النزاعات المتصلة بمسؤولية دولة ما عن إبادة جماعية أو عن أي من الأفعال المذكورة في المادة الثالثة”.

وبناء على هذه المذكرة فقد طلبت جنوب إفريقيا من المحكمة التنصيص على تدابير مؤقتة من أجل حماية الفلسطينيين من جريمة إبادة محتملة، من ضمنها تعليق عملياتها العسكرية، وكذلك إلزام إسرائيل بالامتثال لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية المشار إليها. والجدير بالذكر أن التدابير المؤقتة هي أوامر تصدرها المحكمة قبل حكمها النهائي، في قضية ما، وبموجبها تلزم الدولة المدعى عليها بالامتناع عن اتخاذ إجراءات معينة حتى تصدر المحكمة حكمها النهائي.

وفي سياق معالجة هذه الدعوى فقد عقدت المحكمة جلستين للاستماع لدفوعات الطرفين، وذلك بتاريخ 11 و12 يناير الحالي. وفي وقت أكد دفاع المدعي على خرق إسرائيل لمقتضيات اتفاقية منع الإبادة، فقد طالب من المحكمة أن تأمر إسرائيل بتعليق جميع العمليات العسكرية، وكذلك ضمان عدم اتخاذ أي خطوات تعزيزا لتلك العمليات العسكرية.

وكما كان منتظرا فقد رفض دفاع المدعى عليها، أي إسرائيل، ادعاءات جنوب إفريقيا، معتبرا أن ما تقوم به يهدف إلى تحقيق هدفين:

يتمثل الأول في القضاء على التهديد الوجودي الذي تمثله حركة حماس ضد المواطنين الإسرائيليين، خاصة بعد اعتداءاتها في 7 أكتوبر من السنة الماضية، ويكمن الثاني في إطلاق سراح الرهائن الذين مازالوا محتجزين في القطاع. ومن ثم فبالنسبة لدفاع إسرائيل فإن الأمر لا يعدو مجرد حرب ضد حماس، وليس ضد الشعب الفلسطيني، فيما الخسائر البشرية ليست إلا من قبيل ضرورات الحرب. في السياق نفسه فقد دعا الدفاع ذاته المحكمة إلى رفض الاختصاص في هذه الدعوى، وكنتيجة لذلك الامتناع عن اتخاذ تدابير تحفظية، لأن ذلك من شأنه أن يحرم إسرائيل من قدرتها على الوفاء بالتزاماتها المتعلقة بالدفاع عن مواطنيها، وكذا تحرير الرهائن.

2 فحوى القرار وانعكاساته المحتملة

إذا كان صحيحا أن محكمة العدل الدولية لم تستجب كلية لمطالب المدعي، من حيث لم تدع إلى وقف إطلاق النار، ولم تكيف بعد عمليات العدوان الإسرائيلية بكونها ترقى إلى جريمة إبادة جماعية، فإنها مع ذلك شكلت سابقة تاريخية، ونصرا معنويا وأخلاقيا للقانون، وذلك في وقت أكدت اختصاصها في التصدي لهذه الدعوى، وأكثر من ذلك فرض تدابير احترازية مؤقتة على إسرائيل، تلزمها بوقف جميع الأعمال والأنشطة والتصريحات التحريضية التي قد تؤدي إلى ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية.

وبهذه الرؤيا فقد كانت المحكمة منسجمة مع اجتهادها في هذا المجال، إذ سبق لها أن قررت في قضية غامبيا ضد جمهورية ميانمار (برمانيا) إجراءات تحفظية. وتعود تلك القضية إلى سنة 2019، إذ رفعت غامبيا في 11 نوفمبر منها دعوى ضد ميانمار تتهمها بانتهاك اتفاقية منع جريمة الإبادة والمعاقبة عليها، وذلك في حق جماعة الروهينغا. وبناء على ذلك أصدرت المحكمة في 23 يناير 2020 أمرا قضائيا تطلب بموجبه من ميانمار اتخاذ تدابير مؤقتة لمنع وقوع جريمة الإبادة، كما طلبت منها تقديم تقرير عن مدى امتثالها لذلك، كل ستة أشهر. ومازالت القضية رائجة أمام المحكمة الدولية، ففي السنة الماضية تقدمت مجموعة من الدول الغربية بطلب الانضمام إلى الدعوى المرفوعة، ما يعني أنه بإمكانها أن تقدم حججا إضافية على جرائم حكام ما ينمار ضد الروهينغا.

التوجه نفسه سارت فيه المحكمة في القضية التي رفعتها أوكرانيا ضد روسيا يومين بعد اجتياحها من طرف هذه الأخيرة. لكن في هذه القضية لم تتردد المحكمة في مطالبة روسيا بشكل واضح بتعليق عملياتها العسكرية ضد أوكرانيا، وذلك بموجب قرار أصدرته في مارس 2022. في انتظار البت في فحوى الدعوى المتعلقة بمدى شرعية التدخل الروسي في أوكرانيا بفعل ادعاء انتهاك هذه الأخيرة اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.

يمكن النظر إلى مآل هذا القرار من زاويتين:

من الناحية القانونية المحضة فإن محكمة العدل الدولية، كما هو الأمر بالنسبة لعدد من المحاكم، لا تملك الوسائل الزجرية التي تضمن تنفيذ قراراتها، خاصة في حالة إسرائيل التي سارع عدد من مسؤوليها إلى انتقاد مقاربة المحكمة للدعوى المرفوعة ضدها، لكن في الوقت نفسه التأكيد على أن هذا القرار اعترف لها بحقها في الدفاع الشرعي عن وجودها. بعيدا عن ردود الفعل الانفعالية، تدرك إسرائيل صعوبة تجاهل هذا القرار الذي يشكل سابقة في حقها، إذ إنه بقطع النظر عن كونه لم يثبت الإدانة فإن مؤشرات متنوعة توحي بوجود نية الإبادة لدى بعض المسؤولين الإسرائيليين في حق سكان غزة؛ فضلا عن ذلك فهي تعرف جيدا أن هذا القرار ليس إلا بداية مسلسل قضائي، إذ من المنتظر أن تنكب المحكمة على معالجة فحوى الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا، ومن خلالها ستحدد ما إذا كانت إسرائيل ارتكبت فعلا أعمالا تحرمها اتفاقية منع الإبادة الجماعية المشار إليها.

وفي هذا الإطار قد تنضم دول أخرى، خاصة لمؤازرة جنوب إفريقيا في هذه الدعوى، وذلك بتقديم حجج وأدلة إضافية على ارتكاب إسرائيل أفعال تحرمها الاتفاقية المذكورة. في السياق نفسه فإن ترسيخ شبهة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية قد يشكل حافزا آخر على متابعة مسؤولين إسرائيليين أمام المحكمة الجنائية الدولية التي هي مختصة بمتابعة الأشخاص، وليس الدول. ولا ريب في أن القلق يشوب المسؤولين الإسرائيليين من مغبة تعميق العزلة التي تتنامي من جراء هذا العدوان المستمر على قطاع غزة، وعلى الشعب الفلسطيني عموما.

من الناحية السياسية، يبدو واضحا أن إسرائيل لن تقدم على وقف عدوانها؛ وهي تدرك جيدا أنها مسنودة من طرف الولايات المتحدة التي لن تتردد في استعمال حق الفيتو لمنع صدور أي قرار من مجلس الأمن يطالبها بوقف فوري لعملياتها العسكرية؛ لكن في الوقت نفسه العمل مع بعض دول المنطقة لتكثيف الجهود الرامية إلى التوصل إلى هدنة جديدة تمكن من تيسير فرص تقديم المساعدات الضرورية والحيوية لسكان قطاع غزة، وفي السياق نفسه البحث عن السبل الكفيلة بوقف هذه المأساة التي تؤججها رغبة الوزير الأول الإسرائيلي، وبعض وزرائه، في التغطية على فشل تحقيق الأهداف السياسية المرسومة إلى حد الساعة، رغم الجرائم الفظيعة المرتكبة ضد السكان الفلسطينيين الأبرياء.

صفوة القول، إذا كان صحيحا أن قرار محكمة العدل الدولية لم يستجب لكافة مطالب الدعوى بفعل النزعة التوازنية التي تسم منظور قضاتها لحساسية القضايا المطروحة أمامها فإنه يظل لحظة مهمة في تكريس سلطة القانون، في مواجهة منطق القوة الذي ما فتئ يتنامى في العلاقات الدولية.

المصدر: هسبريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *