إن استقراء دقيقاً وعلميّاً محايداً يمكن أن يكشف عن حقيقة كارثيّة لا يمكن إغفالها؛ هي أنه لا وجود لأكثرية ديمقراطيّة في أكثر المجتمعات تحضراً وفي العصور كلها، إذ إن الأكثرية تسعى بِوعي منها وحتى بلا وعي أحياناً إلى تكريس نموذجها على حساب الأقليّة دائماً، فهي محك هيمنتها وتسلطها وجبروتها، إن هوية الأقليّة على هذا الأساس ضرورية لهوية الأكثرية بحيث لا يمكنها أن تحيا من غير وجودها، فمن دونها تظل هوية الأكثرية بلا حدود وبلا معنى تقريباً، وبحسب نظرية (التحدّي والاستجابة) التاريخيّة فإنّ وجود صوت الأقلّية الواطئ والراضخ هو الذي يكشف عن علوّ صوت الأكثرية وتسلّطه وجبروته، لكنّ هذه المعادلة تُخفي في داخلها معادلةً عميقةً لها رأي آخر وصورة أخرى ومقصديّة أخرى هي المعوّل عليها بإزاء المعادلة الظاهرة التي لا تعبّر عن حقيقة الثنائيّة. لذا فإنّ الأكثريّة تحقّق وجودها بديكتاتوريّة الهيمنة والتسلّط والصوت العالي، إذ هي تنظر إلى صوت الأقليّة بوصفه ميدانَ اختبارٍ حيّاً لقوة هذه الديكتاتوريّة وفعاليّتها في التسلّط والهيمنة وفرض النموذج، وتتعامل معه تجريبيّاً بوصفه مختبراً لكشف كفاءة صوتها وصلاحيته وحجم إنجازه وقوّة تأثيره في المحيط، وهي تعيد النظر في صوتها على أساس طبيعة الاستجابة التي تحظى بها في هذا السياق وما تؤول إليه من إمكانات.
ثقافة الأكثريّة على هذا الأساس هي ثقافة سلطويّة وأبويّة بطرياركيّة عُليا لا تهبط إلى الأسفل مطلقاً مهما بالغت في تسامحها وديمقراطيّتها، ولا يمكنها التخلّي عن تراثها ومنجزاتها وحقوقها المُكتسَبة؛ حتى وإن برز فيها أفراد متحرّرون ديمقراطيّون راغبون في التغيير والمساواة والنظر إلى الأشياء بديمقراطية واضحة، لأنّ هذا التراث اكتسب درجة التقديس والصيرورة التاريخيّة والاجتماعيّة والفلسفيّة الكبرى، وراح أفراد ثقافة الأكثريّة المترفون ينعمون بمكتسبات كبيرة جداً في الحياة ليس من السهل التنازل عنها أو التقليل من منجزها، مهما شعر الديمقراطيون من أفرادها بظلمهم للآخر، فالترف يُعيق حلقات مهمّة في الشعور الإنسانيّ ويمنع تقدّمها إلى الأمام؛ لا بل يدفع عناصر الأكثريّة المترَفة إلى الدفاع عن هذه الوجود النوعيّ حتّى لو اضطرّوا إلى ارتكاب الجرائم، فالحظوة ذات الرفاهية العالية تعاين الآخر بوصفه ضحيّة ضروريّة لا بدّ منها.
تؤسس هُويّة الأكثريّة بمرور الزمن وتتالي التجارب مجموعة مركزيّة من التقاليد الضاغطة والحاجبة والعازلة، تعمل على تعزيز هيمنتها وفرض سلطتها بقسوة على هويّة الأقليّة وتحوّلها إلى ضحيّة على الرغم منها، وغالباً ما تُستخدم اللغة العربية في معظم المجتمعات العربيّة سلاحاً فعّالاً في تركيز هذه السلطة في منطقة اللسان، للتقليل من أهميّة غير العرب في ميدان قيادة دفّة المجتمع وصنع مستقبله، وذلك في سياق التأكيد على أنّ اللغة العربيّة أحد أهمّ مكوّنات هويّة الأكثريّة في المجتمعات العربيّة ولا يمكن لغير العربيّ التمكّن منها، بَلْه الكتابة والإبداع والتفنّن والتفقّه فيها، على النحو الذي أصبحت فيه اللغة العربيّة هدفاً “باطنيّاً جوّانيّاً” لحقد الأقليّة وميداناً حيّاً ورحباً ومناسباً للحرب الباردة الناعمة بين صوت الأقليّة المنطلق من عتمة الظلال هادئاً ضعيفاً، وصوت الأكثريّة المتحدّر من قمّة الجبل هادراً قويّاً لا يلوي على شيء، حرب باردة ناعمة تنطوي على أحقاد نائمة وسياسة لا تُبرِز الوجه الحقيقيّ للأشياء.
المجتمعات العربيّة الحيّة على مرّ عصورها هي مجتمعات أكثريّة وأقليّة، ولم تخرج في كلّ عصورها خارج هذه المعادلة الصعبة العصيّة على الحلّ أبداً، وعلى هذا فهي مُتّهَمة دائماً بسياسة التمييز بين الأكثريّة والأقليّة، مثلما أنّ العرب أنفسهم في المجتمعات الغربية حيث هم يلعبون رغماً عنهم دور الأقليّة يعانون من المأساة نفسها، ويشربون من الكأس نفسها، وقد حشرتهم الأكثريّة الغربيّة في هامش مظلم. وينادون المنظّمات الدوليّة ومؤسسات المجتمع المدنيّ الغربيّة لأجل مساندتهم وتحصيل حقوقهم المسلوبة.
يمكن النظر إلى مصطلح المحاصصة الطائفيّة والتقسيم الفئويّ للمناصب في العراق ولبنان وفي بلدان عربيّة أخرى مثلاً بوصفه حلّاً ديمقراطيّاً شكليّاً لإعادة الاعتبار للأقليّة، لكنّه في سياق آخر هو تكريس لها وتثبيت لدعائمها ونشر ثقافتها والتقليل من خطورتها على النحو الذي يخدم الأكثريّة أيضاً، ثمّة معادلة ثقافيّة سريّة يتوافق عليها الجميع بحيث يدرك كلّ عنصر من عناصر طرَفَي المعادلة خطورة هذا التوافق ومستقبله الغامض، غير أنّ ضرورات كبيرة أكبر من حجم الفهم والإدراك تحتّم على جناحَي المعادلة قبولها، واغتنام ما تدرّه على الجميع من غنائم لا يمكن التضحية بها من أجل أفكار ومبادئ لا يمكن أن تتضح بسهولة.
جاءت العولمة بخطابها الحداثيّ كي تقترح معادلة جديدة تجعل من المركزيّة الأوربيّة الأميركيّة الحلقة النواة لحركة العالم، تدور حولها الحلقات الأخرى بسحب أهميّتها قرباً أو بعداً عن البؤرة المركزيّة كي تحظى بالأهميّة والحصول على ما أمكن من الامتيازات، وتجسّدت في نماذج ثقافيّة أدبيّة متنوّعة عالميّاً دخلت في جوهر الحراك الإنسانيّ الكوزموبولوتيّ؛ بوصفها نماذج حرّة ساعد فكر الحداثة على انتشارها وتداولها، ويمكن لإشكاليّة الأكثريّة والأقليّة في مجتمعاتنا المتأخرة حضاريّاً أن تسخّر خطاب العولمة على هذا النحو لصالحها، بما يستجيب لطموحاتها في الحصول على مزيد من المكاسب بعيداً عن الأفكار والقيم الكبرى، تلك التي نادى بها كثيرون في الحقبة الماضية وأخفقوا إيّما إخفاق بسبب محدودية الوعي وغموض الفكرة وطوباويّة الحلم.