لعنة اللون في السُّودان!! السودانية , اخبار السودان
والدموع تنهمر من عينيها، استقبلت “فاطمة” نبأ مقتل فلذات أكبادها على يدي استخبارات الجيش السوداني، لم تتمالك الأم التي تبلغ من العمر نحو 55 عاماً الصدمة، وانهارت وسقطت على الأرض بعد حالة هستيرية من البكاء والعويل، هنا كان المشهد في غاية الألم وتمّ إسعافها إلى المشفى، لم نتمكن من الحديث معها مراعاةً لحالتها الصحية والنفسية.
أما باقي أفراد الأسرة، لاحظت قسمات وجوههم شاحبة في حالة ذهول شديد، وأصوات عالية ، ومظاهر الحزن عمّت كل أنحاء المدينة.
تقرير _ بهاء الدين عيسى
حادثة بشعة ومؤلمة رواها لي “أحمد محمد الحلو” خال القتيلين وهما شابان في مقتبل العمر.
البداية كانت عند اختطاف الشابين الشقيقين الأكبر (التازي) 21 عاماً، وأبو بكر 19 عاماً من أبناء قبلية الرزيقات ذات الأصول العربية التي ينتمي لها قائد قوات الدعم السريع الجنرال محمد حمدان حميدتي.
وتمت عملية الاعتقال في “حي خرطوم بالليل “وسط مدينة نيالا حاضرة عاصمة ولاية جنوب دارفور بالسودان.
ويقول محدثي والدموع تنهمر من عينيه: “تم اعتقالهما في معسكر مشترك يتبع لاستخبارات الجيش السوداني وقوات القيادي بحركة تحرير السودان مصطفى تمبور في منطقة نيالا، داخل مبان تتبع لهيئة الطرق والجسور بالولاية”. ويضيف: “عندما ذهبت هناك بعد ما أبلغني أشخاص أثق فيهم، أنكرت القوات المشتركة اعتقالهما، ولكنني كنت أملك كل القرائن والدلائل التي تعضد ذلك، ولكن لم يكن في اليد حيلة، في ظل الجبروت والظلم والقهر الذي تعرضنا له من قِبل الجيش الوطني في بلادنا، والذي كان من المُفترض أن يكون محايداً وحامياً للمدنيين العُزّل”.
أخبرنا الخال في حديثه معنا :انه تلقّي اتصالاً هاتفياً بعد أسابيع، أي في السابع من أكتوبر 2023 ، من شخص مجهول الهوية أبلغه بأنّ أولاد مقتولان وتمّ رميهما في مكب للنفايات على مقربة من أحد المصارف المجاورة لمعسكر القوات المشتركة.
على الفور، تحرّكنا للموقع المذكور ووجدنا الشقيقين جثتين هامدتين تظهر عليهما آثار التعذيب، ومن ثَمّ حملنا الجثمانين إلى مستشفى نيالا، حيث أثبت الطب الشرعي شكوكنا وأوضح أنهما تمت تصفيتهما من خلال التعذيب.
ويضيف الحلو: “دماء أولادنا لن تضيع سدىً ونحن نعرف من وشى بهما زوراً وبهتاناً، ونحن بعيدون جداً مِمّا يحدث وليس لنا أي علاقة بالصراع الدامي الذي تفجّر في 15 أبريل بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع”.
جُغرافية ومكونات الإقليم
ويقع إقليم دارفور في الجزء الغربي من السودان وتقدر مساحته بخُمس مساحة البلاد أي (510888) كيلو متراً مربعاً، ويقارب عدد سكان الإقليم 9.5 مليون نسمة، وأبرز القبائل التي تقطنه هي: الفور والمساليت والزغاوة ذات الأصول الأفريقية، بجانب قبيلة الرزيقات ذات الأصول العربية. وكثيراً ما تفجّرت خلال قرابة نصف قرن مضى، صراعات دامية بين الرعاة والمزارعين في الإقليم.
وأفاد تقريرٌ سابقٌ للمنظمة الدولية للصليب الأحمر أن خمسة وثمانين قبيلة عربية وأفريقية، بجانب مئات العرقيات تعيش في دارفور ويبلغ نسبة الأفارقة من سكانه ستون بالمائة، بينما الأربعون بالمائة الباقون من العرب.
دوافع عُنصرية مُمنهجة
في ذات السِّياق، يقول الصادق علي حسن، رئيس مجلس أمناء هيئة محامي دارفور المكلف، وهي كيان حقوقي مستقل مناهض للانتهاكات التي يتعرّض لها المدنيون في السودان: “الحرب الحالية ولأول مرة في تاريخ البلاد، اتّجهت لتقنين الحروبات بدوافع عنصرية ممنهجة حتى صارت البلاد على أعتاب الحرب الأهلية”، كما أبدى قلقه حيال ما وصف الاستهداف المشترك من قبل طرفي الحرب الدائرة على أساس القبيلة والجهة، متناولاً انتهاكاتٌ جسيمةٌ لدرجة القتل الجزافي بسبب الاشتباه في الانتماء القبلي أو الموالاة.
وبحسب إفادات الصادق، لا توجد إحصائيات، ولكن من خلال المتابعات الدورية، الإنتهاكات صارت ظاهرة في المجتمع، كما صارت جرائم القتل الجزافي والاغتصابات والنهب والسرقة من الجرائم المألوفة، بل حتى التمثيل بجثث الموتى
يُذكر أنّ الاعتقالات والتصفيات على أساس الإثنية والقبلية بدأت بشكل مُكثّف خلال أحداث الجنينة، وتم استهداف قبيلة المساليت ذات الأصول الأفريقية، وتم قتل المئات من قِبل قوات الدعم السريع في أحياء مدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور والقرى المُحيطة بها، في عمليات ممنهجة ترقى للإبادة الجماعية”.
مُعتقلات الموت
في تقرير معتقلات الموت الذي أصدره محامو الطوارئ في مطلع سبتمبر العام الماضي، رصد سلسلة من الانتهاكات التي تُصنّف جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في 15 أبريل 2023م، وذكر التقرير أن عدد معتقلات الدعم السريع بولاية الخرطوم (44) مركزاً، بينما يبلغ عدد المعتقلات التابعة للجيش (8)، بعضها دائم والآخر مؤقت. وسبق أن أعلنت المجموعة السودانية لضحايا الاختفاء القسري عن رصد (500) حالة اختفاء قسري، مرجحةً أن أعداد المفقودين أكثر من ذلك بكثير.
في جريمةٍ بشعةٍ، اُتّهمت قوات الدعم السريع بتصفية عدد من الشبان القادمين من محلية بليل جارو التابعة لجنوب دارفور، بحسب ما ذكرت منظمة شباب من أجل دارفور “مشاد”، في حادثةٍ جسّدت تفشي ثقافة الموت والحقد والكراهية في السودان.
وتقع محلية بليل على بُعد 35 كيلو متراً شرقي مدينة نيالا، وتقطنها قبائل الداجو ذات الأصول الأفريقية.
التحقُّق من مقطع فيديو
وانتشر على مواقع التواصل الاجتماعي في مطلع 2024، مقطع فيديو يُصوِّر عملية الإعدام لعدد من المدنيين من قِبل أفراد يرتدون زي قوات الدعم السريع، وعُرض مقطع الفيديو باعتباره دليلاً على قيام الدعم السريع بتصفيات عرقية للمواطنين العُزّل رمياً بالرصاص، مع تحديد مكان الجريمة في منطقة بليل جارو. لكن المؤكد أن المقطع نُشر حديثاً، حيث تم نشره في مساء يوم الأحد.. وحاولنا التقصي من مقطع الفيديو، اتضح أن منصة فيسبوك وضعت له حماية لمن يحاول البحث عنه و تم نشره للمرة الأولى يوم 31 ديسمبر 2023م، ومن الواضح أن مقطع الفيديو لم يتم التلاعُب في مُحتواه، مما يؤكد صحة تنفيذ عمليات الإعدام.
لكن هناك شكوكٌ بشأن مكان تصوير مقطع الفيديو بالنظر إلى أنّ أحد المُتحدِّثين يطلب من أحد الناجين أن يذهب عن طريق “الزلط”. عبارة عامية محلية ومعروفٌ أن منطقة بليل لا يمر بها طريق أسفلت، ويُرجّح أن يكون مكان تصوير الفيديو في منطقة أردمتا حسب عدد من العارفين بطبيعة المنطقة.
ومواصلةً للتحقُّق من تفاصيل الجريمة البشعة، تواصلت مع أحد أعيان منطقة بليل جارو (م)، أكد لي تصفية الشبان، وحفاظاً على سلامته من بطش قوات الدعم السريع، فضّل عدم الكشف عن اسمه، وقال بحسرةٍ: تمّت تصفية خمسة من أولادنا في عملية لا إنسانية ولا أخلاقية، وقامت قوات الدعم السريع بتعذيب الآخرين، المجموعة كانت في طريقها من بليل جارو إلى مدينة نيالا.
واستولت قوات الجنرال حميدتي بالكامل على ولاية جنوب دارفور في 25 أكتوبر من العام الماضي عقب معارك طاحنة مع الجيش السوداني.
في يوليو 2023 ، أعلنت المحكمة الجنائية الدولية، فتح تحقيق بشأن جرائم الحرب في السودان، وتشمل القوانين الدولية الإنسانية عدداً من الاتفاقيات والمُعاهدات مثل الاتفاقية الرابعة لجنيف في العام 1949م وبروتوكولاتها الإضافية ومعاهدة روما التي أُنشأت على إثرها المحكمة الجنائية الدولية العام 1988م، ويفرق النظام الأساسي للمحكمة في مادته الثامنة بين نوعين من جرائم الحرب بين بلدين وغير دولية أو محلية كما هو الشأن بالنسبة للاقتتال في السودان.
ويتنامى خطاب الكراهية في البلد الذي مزّقته الحرب التي تفجّرت في 15 أبريل من العام الماضي، وأدى إلى زيادة العنف بين المجموعات العرقية وعمّق الانقسامات داخل المجتمع.
واتّهم المفوض السامي لحقوق الإنسان في يونيو من العام الماضي، قوات الدعم السريع بجريمة قتل والي غرب دارفور خميس عبد الله أبكر بعد ساعات من اعتقاله، ودعا وقتها المفوض في بيان لإجراء تحقيق عادل وشفّاف، وتسبّب الصراع الدامي في نزوح أكثر من 7 ملايين ولجوء مليون آخرين لدول الجوار ومصرع الآلاف.!!
المصدر: صحيفة التغيير