قراءة أولية في إعلان أديس أبابا بين (تقدم) وقوات الدعم السريع ومقترح لتطويره لحوار سوداني سوداني جامع
(1)
( إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)
(2)
استكمالاً لمبادرة الطريق الثالث التي طرحتها على صفحتي بالفيسبوك في 27 ديسمبر 2023، قابلت رئيس حزب الأمة القومي وبعض نوابه مجتمعين في 28 ديسمبر وعرضت عليهم مبادرة الطريق الثالث مفصلة، وفكرتها ضرورة أن يبادر حزب الأمة بالتواصل مع جميع المكونات المدنية والعسكرية دون استثناء لإدارة حوار سوداني سوداني جامع، واقترحتُ الجهات المدنية والعسكرية التي تشملها الاتصالات وأجندة وقف إطلاق النار ومطلوباتها من الاتفاق على التجميع ونقاطه وضماناته والجداول الزمنية لمناقشة مستقبل القوات وقضية سلاح المواطنين الخ ثم الأجندة السياسية والجهات المستهدفة باللقاء الجامع الخ. وعد الحبيب رئيس الحزب بعرض الأمر على أجهزة الحزب وما زلنا في الانتظار.
ولكن حدث تطور مهم هو ما جرى من لقاء لجبهة ( تقدم) مع قائد الدعم السريع وما تمخض عنه من إعلان مشترك بينهما.
(3)
خطابات الاستقلال والسقوف العالية:
مع اقتراب موعد لقاء قائدي الجيش والدعم السريع ضمن مبادرة الايقاد كان من الطبيعي أن تأتي خطاباتهما وموقفهما التفاوضي بسقوف عالية.
بدأ البرهان خطابه برسالة تحذيرية للدول المساندة للدعم السريع وتحدث لأول مرة بنبرة متفائلة بالنصر بعد أن كان يقول أنه سيقاتل لآخر جندي. ورفع سقوف شروط وقف اطلاق النار بتضمين شرط انسحاب الدعم السريع من الجزيرة ومن المدن وعودة المنهوبات وإخلاء المنازل ثم جاءت الاشارة للمقاومة الشعبية المسلحة كطرف ثالث في الحرب.
ولا شك أن قرب موعد التفاوض مع تزايد وتيرة التسلح الشعبي وخيبة الأمل وفقدان الثقة في قدرة أو رغبة الجيش في حماية المواطنين بعد الانسحاب المفاجئ من مدني واستباحة الدعم السريع للجزيرة، وبعد الانتقاد الواسع لخطابه (البرهان) بعد سقوط مدني في يد الدعم السريع. كل ذلك حتّم على البرهان رفع سقف مطالبه مراعاة للمزاج الشعبي المتوتر.
ومن الجهة الأخرى جاء خطاب حميدتي في عيد الاستقلال حديث المنتصر إذ طلب من الجيش إعلان هزيمته وبالتالي لن يكون مدخل المفاوضات هو وقف إطلاق النار وإنما عملية سياسية تقود لتأسيس جيش جديد وبناء دولة على أنقاض دولة الحقبة الاستعمارية والوطنية ( أي دولة 56) أو استمرار الدعم السريع في القتال وملاحقة الانقلابيين والمستنفرين على حد تعبيره في خطابه.
إذن خطابات الطرفين في ذكرى الاستقلال كانت تصعيدية ولم تُبدِ مجرد الرغبة في إنهاء الحرب إلا باستسلام الطرف الآخر.
(4)
إعلان باريس بين (تقدم) والدعم السريع:
أ) مقاربة تقدم: هل هي تحالف أم وساطة:
( تقدم) تحالف أو جسم جبهوي متجانس هدفه المعلن تكوين جبهة مدنية مؤمنة بمدنية الدولة والتحول الديمقراطي ، وهي من حيث التكوين استمرار لمجموعة الاتفاق الاطاري مع غلبة المجتمع المدني والشخصيات المستقلة خارج الأحزاب على هيكل هذا التحالف (70% مقابل 30% للأحزاب والكتل).
انصبت مجهودات ( تقدم) المعلنة على بناء هذه الجبهة المذكورة وكتابة رؤيتها وتكوين هيكلها ومنه جهازها التنفيذي والاعداد لمؤتمرها.
أعلنت (تقدم) عن خارطة طريق لإنهاء الحرب من ست نقاط وفي ترتيب معين للخطوات يبدأ بوقف العدائيات والوضع الإنساني عبر دعم مجهودات منبر جدة للتفاوض ثم مرحلة تعزيز الوضع الانساني ثم عقد اجتماع تشاوري تحت رعاية الميسرين الإقليميين والدولييين يضم الجيش والدعم السريع والقوى المدنية لتصميم عملية سياسية شاملة لحل النزاع استناداً على خارطة الطريق وإعلان المبادئ للحل السياسي المتفاوض عليه والخطوة الخامسة الجلوس في طاولة تفاوض حول قضايا الأزمة السودانية الشاملة تنتهي هذه العملية السياسية بصياغة دستور انتقالي متوافق عليه يستند على الاتفاق السياسي النهائي وتشكيل مؤسسات سلطة مدنية تاسيسية انتقالية ومؤسسات عسكرية خاضعة لها وتنفيذ ما تم الاتفاق عليه وفق آليات وآجال زمنية محددة.
وبعد الاعلان عن لقاء مرتقب للبرهان وحميدتي ضمن مبادرة الايقاد أعلن حمدوك في 25 ديسمبر عن طلب (تقدم) لقاء عاجل مع قائدي الجيش والدعم السريع لبحث وقف الحرب. لم تذكر (تقدم) وسيلتها لوقف الحرب هل عبر وساطة جديدة أم تبني رؤية وتقديمها للطرفين كمخرج للحرب أم عبر المضي في خارطة الطريق التي اقترحتها سابقاً.
إذا سارت ( تقدم) في طريق الوساطة فالتسلسل المنطقي يقتضي أن تسعى لمقابلة الطرفين واستطلاع رؤيتيهما في أسباب الحرب وكيفية إيقافها وأسس إيقافها وهكذا. وهذا يعني أنها كان يجب أن تسمع أولاً لرؤية حميدتي وموقفه من كل نقطة ثم تسعى للقاء البرهان وتفعل نفس الشيء ثم تحاول تحرير الخلاف وتقريب الشقة أو عرض مقترحات توفيقية أو بديلة أنفع للوطن بشأن وقف الحرب.
وإذا كان جهدها منصباً على خارطة الطريق التي أعلنتها سابقاً فالمطلوب هنا هو لقاء الطرفين وإقناعهما بجدوى خارطة الطريق ثم اقناع الميسرين أو الوسطاء بهذه الخارطة التي تعتمد حسب ما لخصنا أعلاه على دعم منبر جدة وتبدأ باتفاق على وقف العدائيات ثم الوضع الانساني ثم القضايا السياسية.
لم تفعل ( تقدم) أياً من الخيارين ولكنها قدمت للدعم السريع رؤيتها في شكل إعلان سياسي وافق عليه الدعم السريع ووقع الطرفان عليه وتم إعلان ذلك ( وهذا حسب إفادة حميدتي في مؤتمره الصحفي بحضور حمدوك) وهذا يعني أن هذه المقاربة ليست وساطة.
الآن اتفق الطرفان على رؤية مشتركة سيتم عرضها على البرهان قائد الجيش على أنها تمثل ( تقدم) والدعم السريع.
لم يكتف الإعلان بالحديث عن نصوص فضفاضة مثل مبدأ القبول بالجلوس للحوار ونوع وأجندة الحوار ونوعية المشاركين في الحوار في كل محور من القضايا المفترضة للحوار.
وبدلاً من الحديث حول الأجندة وقبول مبدأ الجلوس ونوعية المشاركين تبنى الاعلان رؤية متفق عليها بينهما في سبب قيام الحرب دون استصحاب رأي الجيش وغير ذلك مما سنذكره لاحقاً.
هذا يعني أن ما تم لا يمكن تسميته أو إدراجه تحت عنوان الوساطة وإنما هذه مقاربة مختلفة.
إذن اللقاء لا يندرج لا تحت الوساطة ولا تحت الاقناع بخارطة الطريق التي اقترحتها ( تقدم) سابقاً وإنما تحت مسعى جديد وهذا المسلك لا غبار عليه من حيث المبدأ بل وهو مسلك . ولكن إذا لم ترغب ( تقدم) في القيام بمجهود وساطة وإنما القيام بمجهود إيجابي يقدم رؤيتها للطرفين بغرض الاتفاق حولها فكان من المنطقي بل من الواجب أن تقدم الرؤية نفسها بالتوازي لقائدي الجيش والدعم السريع ثم إذا وافقت الأطراف عليها تكون تلك الرؤية إعلاناً متفقاً عليه بين الأطراف الثلاثة.
ولو كنت في مكان ( تقدم) وأحببت هذه المقاربة بديلاً عن الوساطة لفعلت الآتي:
• تقدمتُ بالاعلان للطرفين مكتوباً في نفس الوقت ثم حددت مواعيد للالتقاء بالطرفين لنقاش المقترح أو استلام الملاحظات ثم محاولة إجلاء النقاط الغامضة أو المختلف عليها ( باختصار الدخول في العملية التفاوضية حول المقترح).
• ولتجنبتُ التوقيع المنفرد مع طرف لأن هذا يعني أن هناك طرفين متفقان على نقاط يواجهان بها الطرف أو الأطراف الأخرى.
• ولراعيت الحساسية والشحن العالي في طبيعة اللقاء ولتجنبتُ حضور المؤتمر الصحافي لحميدتي إلا إذا كان محصوراً فقط فيما اتفق عليه ولكن حضور مؤتمر صحافي موجه لمهاجمة الطرف الآخر ينزع صفة الحيادية وهي أول صفة وشرط من شروط نجاح أية مبادرة. فقد علق بعضهم أنه لأول مرة يرى وسيطاً يصفق لحديث طرف من أطراف النزاع الذي يريد فضه. حدث هذا في المؤتمر الصحافي لحميدتي.
(5)
مكاسب الدعم السريع من الإعلان:
لم تفعل ( تقدم) ذلك بل مضت لتوقيع إعلان على رؤية مشتركة تتضمن موضوعات انسانية وسياسية مهما كانت صحة بعض نقاطها فهي تمثل الطرفين.
1) فمن حيث توصيف الحرب وصف الطرفان الحرب بأنها موجهة لقطع مسار ثورة ديسمبر والاشارة الضمنية هنا واضحة جداً وهي أن الحرب قامت لقطع الطريق على الاتفاق الاطاري ، وهي رؤية طرف واحد لأسباب الحرب لا يقرها الطرف الآخر. وهذا التوصيف يصب في مصلحة الدعم السريع ويتبنى رؤيته.
2) ومن مكاسب الدعم السريع الافلات من إدانة إنتهاكاته وإيكال ذلك للجنة تحقيق لتثبت هل ارتكبت قوات الدعم السريع انتهاكات أم لا.
3) لم يطلب الاعلان من الدعم السريع خروج قواته من منازل المواطنين ولا الأعيان المدنية. ومع أنه تحدث عن اطلاق سراح المعتقلين إلا أنه أغفل الحديث عن الرهائن والمختطفات والعنف الجنسي.
4) عدم الحديث عن وقف إطلاق نار أو على الأقل المطالبة بعدم توسيع الحرب أو على الأقل إذا توسعت الحرب المطالبة بالاقتصار على الأهداف العسكرية وعدم استهداف المواطنين والمؤسسات المدنية والبنية التحتية ونهب البنوك الخ.
5) منح الدعم السريع الحق في إقامة إدارات مدنية في مناطق سيطرته وتشكيل لجنة وطنية لحماية المدنيين من شخصيات داعمة لوقف الحرب ( تُقرأ من جبهة تقدم).
6) تكوين لجنة ذات مصداقية لكشف من أشعل الحرب وهذه نقطة جيدة ولكنها صارت عديمة المعنى لأن ديباجة الاعلان تحدثت بوضوح أن الحرب قامت لقطع الطريق على ثورة ديسمبر. وهذا يتفق مع كل بيانات الدعم السريع وجبهة تقدم أن الحرب أشعلها الفلول من خلال سيطرتهم على الجيش. كان الأجدر ترك تحديد أسباب الحرب ومن أشعلها لتحقيقات اللجنة المقترحة بدل ذكرها في الديباجة.
أما مكاسب (تقدم) في الإعلان:
• ضمان تمثيلها في مباحثات الايقاد بل والطمع أن تكون الممثل الحصري للمدنيين.
• المشاركة في الإدارات المدنية في مناطق الدعم.
(6)
هل يمكن استدراك ما حدث في إعلان أديس أبابا والاستفادة منه:
نعم وذلك بعمل الآتي:
1) إعتماد الإعلان وأطرافه جزءً أصيلاً في العملية السياسية والتفاوضية لوقف الحرب.
2) إضافة الكُتل والأحزاب الأخرى المهمة في العملية السياسية والتفاوضية:
الكُتلة الديمقراطية ومكوناتها من حركات الكفاح المسلح والأحزاب لاسيما الاتحادي الأصل.
الحزب الشيوعي
حزب البعث الأصل
المؤتمر الوطني والحركة الاسلامية
هل يتم إشراك المؤتمر الوطني والحركة الاسلامية:
نعم وللأسباب التالية:
I. إذا كانت الحركة الاسلامية والمؤتمر الوطني هم من أشعل الحرب فإن الجهد لإيقافها يتم عبر الحوار معهم. أو البديل أن نقول نعم للحرب حتى هزيمة المؤتمر الوطني والحركة الاسلامية.
II. الحركة الاسلامية أصلاً هي جزء من الاتفاق الإطاري الذي يضم المؤتمر الشعبي وهو جزء أصيل من الحركة الإسلامية ( مجموعة على الحاج كمال عمر الخ)
III. المؤتمر الوطني جزء من إعلان أديس لأن الدعم السريع به عدد مقدر من قيادات المؤتمر الوطني والشعبي ( حسبو محمد عبد الرحمن نائب البشير وأبو القاسم بركة على سبيل المثال في القيادة السياسية ، الفاتح قرشي الناطق الرسمي للدعم السريع، والقيادات العسكرية: عثمان عمليات، الخير أبو مريدات الخ).
IV. هذا فضلاً عن إسلاميي العدل والمساواة المنضمين لتقدم.
V. ثم إن البحث عن السلام الذي جعل ( تقدم) تغض الطرف عن انتهاكات الدعم السريع والجيش وتقبل بالتفاوض معهما يفرض عليها القبول باشراك المؤتمر الوطني في المفاوضات. ليس هناك من شك أن حقبة الثلاثين سنة العجاف من حكم الانقاذ هي ما أوصل البلاد لهذا المصير البائس ولكن لنا في نموذج جنوب أفريقيا عبرة لاستدراك مصير بلادنا من الضياع الكامل.
(7)
العلاج المر:
ليس هناك أمَرّ من الجلوس مع نعتقد أنهم سبب نكسة هذه البلاد. ولكن بِغَضّ النظر عن بُغْضِنا وحبنا وبغض النظر عن الأسباب لا أرى في شعار (لا للحرب) إلا معنىً واحداً هو نعم للحوار. والحوار لا يكون بين المتفقين وإنما بين المختلفين.
فليس هناك من سبيل لحل الأزمة عبر الحوار إلا بحوار سوداني سوداني جامع لا يستثني أحداً ولا يهيمن عليه أحد.
ولكن إذا تعذر ذلك الحوار الشامل عبر رفض الأطراف لبعضها أو عمل فيتو على البعض فقد يجعل الله الحل في يد الشعب السوداني وليس ذلك على الله بعزيز.
نسأل الله اللطف بالبلاد والعباد وأن يقينا جميعاً شُح الأنفس وأن يهدينا لهدي حبيبه صلى الله عليه وسلم الذي ما خُيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يأثم وما عُرضت عليه خطة سلم إلا قبلها قال تعالى مخاطباً رسوله الكريم (مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ).
المصدر: صحيفة التغيير