اخبار السودان

الذكرى المئوية لثورة 1924 «3» السودانية , اخبار السودان

بقلم: تاج السر عثمان بابو

اوضحنا سابقا أن الذكرى 68 لاستقلال السودان تتزامن مع الذكرى المئوية لثورة 1924، ومع ظروف الحرب اللعينة الجارية التي أدت لنزوح الملايين ومقتل الالاف من الاشخاص، وأدت لماساة انسانية، وتدمير للبنية التحتية للدولة السودانية، فاستمرار الحرب كما يدعو “الفلول” يعني المزيد من النزوح وازهاق الأرواح ، والمزيد من الاعتقالات والتعذيب للسياسيين والناشطين في العمل الطوعي ولجان المقاومة التي يقوم بها طرفا الحرب ، والمزيد من تدمير البنية التحتية، والابادة الجماعية وجرائم الحرب والنهب والسلب والاغتصاب، الخ، مما يتطلب الاسراع في وقفها، وتوصيل الاغاثة للمتضررين من الحرب، وعودة النازحين لقراهم ومنازلهم، وعودة الحياة الي طبيعتها، من اسواق ومستشفيات وخدمات، وتبادل الأسرى، الخ، كما جاء في إعلان اديس ابابا بين تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية ( تقدم) والدعم السريع ، بتاريخ 2 يناير 2024، بعد اللقاء الأخير بين د. حمدوك ومحمد حمدان دقلو، لكن الاتفاق حول شكل الدولة السودانية ، والحكم ” فدرالي ، كونفدرالي، الخ”، لا يمكن أن يقرر فيه الطرفان، ويحتاج للتوافق حوله في المؤتمر الدستوري، فالقضية العاجلة حاليا التي تهم الجماهير هي وقف الحرب وتوصيل المساعدات الانسانية، وإعادة تأهيل ما خربته الحرب، وخروج الجنجويد والجيش من السياسة والحكم ، وتقديم المسؤولين عن جرائم الحرب وضد الانسانية للمحاكمات، وعدم الافلات من العقاب، وعدم إعادة الشراكة مع العسكر والجنجويد التي تعيد إنتاج الأزمة والحرب من جديد.

2

أشرنا سابقا الي أن ثوار 1924 لم يكونوا معزولين عن العالم، بل كسروا حاجز التعليم الاستعماري الضيّق بالاطلاع الواسع، وكان لهم مكتبات، ومتابعين للحركة السياسية والثقافية وثورات التحرر الوطني والتغيير الاجتماعي في العالم، بل كانت لهم نظرات ناقدة لظاهرة الاستعمار الذي عمل على تكريس القبلية والعنصرية ليتمكن من تمزيق وحدة البلاد، ونهب اراضيها ومواردها، ويواصل الحكم على طريقة “قرق تسد” كما قال الشاعر العبادي رافضا للقبلية :

جعلى ودنقلاوى

وشايقي ايه فايداني

غير خلقت خلاف خلت اخوى عاداني

خلو نبأنا يسرى للبعيد والدانى.

يكفى النيل (ابونا) والجنس سوداني

فما اجوجنا لاحياء وتقوية الانتماء القومي في ظروف الحرب اللعينة التي تطل فيها ادعوات ” الفلول” الخبيثة للعنصرية والقبلية، والدعوات للتسليح لتحويل الحرب الي أهلية ، مما يمزق وحدة البلاد، وتؤدي للمزيد من ماساة التطهير العرقي والابادة الجماعية.

وكان لخليل فرح نظرة متقدمة للاستعمار، اشرنا لها سابقا، فكيف تناول الخليل ظاهرة الاستعمار؟

3

كان للشاعرخليل فرح ” 1894 1932” نظرة عميقة للاستعمار باعتباره سبب الشقاء والتخلف للسودانيين ، وهذه النظرة نلمحها في قصيدة “ صائد الانام ” وهى قصيدة نظمها بمناسبة زيارة “ أمير بريطاني” للسودان جاء فيها :

ياصائد الانام سافر ياامير وانزل اراضينا

جوب ساحاته واستعرض ميادينا

ما تهمك مدارسنا ونوادينا

اهلك اهملوا تأسيسه عامدينا

ساد الجهل وسادت عوادينا

وعم الفقر مداينا وبوادينا

ما اتسولنا أو مدت ايادينا

غير الخالق المن فيضه يدينا

ياصائد الانام المولى عاطينا

طبيعه غنيه في بواطينا

ما اخصب جزائرنا وشواطينا

وخيرات الجزيرة الدافقه طينا

ويختتم الشاعر بقوله :

بس الشفته من احوالنا بيألم

احكى عنه لاهلك وعد سالم

والخليل هنا يعبر عن مفهوم عميق للاستعمار كظاهرة اقتصادية اجتماعية ، باعتباره سبب الجهل والتخلف رغم ادعائه بأنه جاء لنشر التعليم والمدنية ، ويتضح ذلك من اهماله للتعليم والشح في بناء المدارس والاندية التى ترمز للوعى والتقدم الاجتماعي والثقافي ، ورغم خيرات البلاد وخصوبة أرض الجزيرة ، الا أن عائدها يذهب لجيوب المستعمرين، بينما السودانيون يعانون من الفقر في المدن والبوادى، والخليل هنا كان عميقا عندما يلاحظ الفقر في القطاع الحديث “المدن” ، وفى القطاع التقليدي “البوادى” ، ويشير الى عزة السودانيين الذين يرفضون التسول رغم الفقر الذي عمّ في فترة سيادة الاستعمار الذي اهتم بالمحصول النقدي ” القطن” ، واهمل زراعة قوت الناس مثل: الذرة والدخن والخضروات .. الخ، أى أن الاستعمار لم يكن يهمه غذاء السودانيين ورفاهيتهم بقدر ما كان يهمه انتاج المحصول النقدي” القطن” اللازم لمصانعه في لانكشير.

اعتقد أن الخليل هنا عبر بالحدس والفطرة تعبيرا عميقا عن فهم ظاهرة الاستعمار والأسباب الأساسية للتخلف التى نشأت من استنزاف خيرات البلاد، وتصدير الفائض الاقتصاي للخارج وابقاء السودانيين في حالة من الجهل والفقر، وهذه الظاهرة مازالت مستمرة حتى الآن، كما في الصراع الاقليمي والدولي المحتدم لنهب اراضي البلاد، والاستيلاء على الموانئ، كما في هف الحرب اللعينة الجارية حاليا.

4

بعد استقرار دولة الحكم الثنائي شرعت في ارساء البنيات الاساسية للدولة السودانية الحديثة ، فقامت السكك الحديدية والنقل النهرى، وتم انشاء ميناء بورتسودان ، وارساء التعليم الحديث وقامت كلية غردون و بناء المستشفيات الحديثة، وقامت مصلحة البوستة والتلغراف ومشروع الجزيرة وخزان سنار ، ونشأت دور الطباعة والنشر والصحافة .. الخ.

وشهدت الفترة(1900 1919 م) تخرج متعلمين في كلية غردون ، كما شهدت تطورات عالمية وداخلية كان لها الاثر في تطور وظهور شكل جديد للوطنية السودانية بعد هزيمة دولة المهدية واتباعها وهزيمة الانتفاضات القبلية والدينية التى استمرت حتى 1916م. حيث تم القضاء على تمرد السلطان على دينار في دارفور. وشهدت تلك الفترة الحرب العالمية الاولى وما تمخض عنها من تطورات في الحركة الوطنية لشعوب المستعمرات.والاتجاه العام للمطالبه بحق تقرير المصير ، كما شهدت نشوء ومولد الصحافة السودانية التى بدأت اجنبية الملكية سودانية القراء ، حتى قامت أول جريدة “الحضارة” سودانية في الملكية والقراء” للمزيد من التفاصيل راجع :محجوب محمد صالح، الصحافة السودانية في نصف قرن).

كما اشترك الجنود السودانيون في الحرب العالمية الاولى وعادوا للبلاد بوعى جديد ، كما شهدت تلك الفترة نهوض الحركة الوطنية المصرية التى توجت بثورة 1919 م والتى كانت تطالب بسيادة واستقلال مصر ، كما شهدت شعوب المستعمرات الاخرى في الشرق ثورات مثل ثورة الهند ، كما قامت الثورة الروسية عام 1917م.

ولم يكن السودانيون ولاسيما المتعلمين منهم بمعزل عن تلك الاحداث والتطورات فتم انشاء نادى الخريجين ، وقامت جمعية الاتحاد السوداني وجمعية اللواء الأبيض فيما بعد والتى كانت تطالب بوحدة وادى النيل تحت التاج المصرى، وجمعية اللواء الابيض من اوائل التنظيمات التى قامت على اسس سياسية حديثة في السودان وشكلت تطورا ارقى في ميدان التنظيم في السودان.

5

كان خليل فرح عضوا في جمعية الاتحاد السوداني التى تكونت عام 1921 م في منزل محى الدين جمال ابوسيف، ومن اعضائها المؤسسين توفيق احمد البكرى وبشير عبد الرحمن وكلهم كانوا من طلاب كليةغردون، وكان هدف هذه الجمعية وحدة وادى النيل ثم صار من اعضائها : مدثر البوشي ، الامين على مدنى ، عبيد حاج الامين ، بابكر القبانى ، توفيق صالح جبريل وغيرهم.

ومارست الجمعية آساليب العمل السري ، وكانت اجتماعاتها تتم سرا، وتوزع المنشورات التى توضح اهداف وافكار الجمعية ، وعندما قامت جمعية اللواء الابيض انضم اليها خليل فرح وكان الخليل يعبر في قصائده واشعاره عن اهداف وشعارات وحدة وادى النيل التى قامت ثورة 1924 م على أساسها ونلمس ذلك على سبيل المثال في قصيدة ( الشرف الباذخ) والتى يقول فيها:

نحن ونحن الشرف الباذخ دابى الكر شباب النيل

قوم قوم كفاك يانائم شوف شوف حداك يالايم

مجدك ولىّ وشرفك ضلّ وامتى تزيد زيادة النيل

الى أن يقول:

ده ودعمى وده ضريب دمى وانت شنك طفيلي دخيل

يانزلانا امرقوا الذمه كيف ينطاق هوان الامه

شالو حقوقنا وزردوا حلوقنا ديل دائرين دمانا تسيل

من تبينا قمنا ربينا ما تفاسلنا لو في قليل

ما فيش تانى مصرى سودانى نحن الكل ولاد النيل

واضح من القصيدة رغم أنها جاءت في سياق الكفاح المشترك بين الشعبين المصري والسوداني ضد الاستعمار البريطاني، الا انها تعبر عن جماعة” نحن” أى جماعة وحدة وادى النيل ، ويرد فيها ذكر”النيل ” اكثر من مرة ويختتم بقوله ” مافيش تانى مصرى سوداني نحن الكل ولاد النيل”، ويرد فيها تعابير مصرية مثل” امتى تزيد زيادة النيل “، كما يشير الخليل الى الكبت الذي يعانى منه الشعب السودانى في ظل الاستعمار الانجليزى عندما يقول:

يانزلانا امرقوا الذمه كيف ينطاق هوان الامه

شالو حقوقنا وزردوا حلوقنا ديل دائرين دماءنا تسيل

ويقول للمصرى والانجليزى:

ده ود عمى وده ضريب دمى وانت شنك طفيلى دخيل .

اى أن القصيدة تعبر تعبيرا كاملا عن اهداف “اللواء الابيض” وحدة وادى النيل.

6

بعد هزيمة ثورة 1924 م وخروج القوات المصرية من السودان وانفراد الانجليز بالحكم ، نظم الخليل قصيدة( ماك غلطان) في عام 1925 والتى تحولت الى نشيد وطني ذاع شأنه وكان يغنيه كثير من المطربين ، يقول فيها:

ماك غلطان ده هوى الاوطان نوح ياحمام

الى أن يقول فيها:

اطرى فلان وليالى عنان وين ياسلام

كنا حنان والحله جنان نوح ياحمام

اليوم آن للمحنه آوان ضل المرام

ما فى اخوان وحياتنا هوان نوح ياحمام

لاشك أن التزام خليل السياسي سبب له المتاعب في الخدمة المدنية ، حيث كان هدفا لحزم الادارة ، وعلى حد تعبير على المك ( ربما كان ذلك عقابا على شعره واشاراته للادارة البريطانية بالتلميح والتصريح) (علي المك ديوان الخليل). فقد بلغ مجموع الايام التى خصمت رواتبها من خليل فرح عشرون يوما في مدة خدمته من أخريات عام 1913 م الى عام 1929م.

احب الخليل مصر والذى كان يرى فيها مثلا اعلى في الثقافة والعلم ، كما ادرك قوة الصلة بين الشعبين المصرى والسوداني ، وما انضمام خليل لجمعية اللواء الأبيض والتى كان من اهدافها ” وحدة وادى النيل”، الا دليل على ذلك ، فقد ذكر مصر كثيرا في اشعاره كقوله ” نحن الكل اولاد النيل”، ” نحن كنانة اسماعيل ” ، وعليه شد الرحال الى مصر في آخر عام 1928م ، واستطاع أن يكسر ويتخطى القيود التى كان يضعها الانجليز في سفر المثقفين والمتعلمين السودانيين الى مصر طلبا للمزيد من العلم والمعرفة.

وفي الفترة الى قضاها الخليل في مصر استطاع أن يطور قدراته الغنائية والموسيقية ويتزود بالعلم في هذا الجانب ، ودرس علوم الموسيقي ، واستطاع الخليل عن طريق المعارف العلمية الاولية في هذا الجانب أن يطور ويسهم في ارساء قواعد الأغنية السودانية على أسس جديدة راقية ومتطورة .

كان صراع الخليل مزدوجا : الصراع ضد الاستعمار والتخلف والفقر والصراع ضد المرض ، داء السل العضال الذى كان يعانى منه ، فازدادت معاناته ومتاعبه وعلى حد قول المتنبي ( ومن ذا يحمد الداء العضالا).

وفي قصائده اشارات كثيرة لذلك المرض ، وكان يربط علته بعلة الوطن كله ، ومن الامثله على ذلك قصيدة ( من يداويك) والتى جاء فيها:

من يداويك والحياة كما شاءوا وما شئت كلها الآم

مالنا نسكب الدموع على القرطاس ياقوم ولعلى أقوام

وكذلك نلاحظ ذلك في قصيدة ( الاتومبيل والاسد) والتى جاء فيها:

يابناءا على المجد قد قام واعتمد

رفع الله امة رفعت مجدها السند

كم طبيب على عبادة الفجر ما رقد

يتلقاك باسما جس نبضا أو انتقد

تلك ستون ليلة هى كالسجن أو اشد

صدمة ليتها صدمة الاتومبيل أو الاسد

علتى وهى علتى قصة الناس في البلد

نواصل

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *