لعبة الحبار .. حيل سردية تكشف الداروينية الاجتماعية بصيغة تلفزيون الواقع
تغني الدمية فيجري المتسابقون، تسكت يقفون؛ هذا هو التحدي الأول: تحدي حسي حركي.
كيف يتوقف الفرد الغارق في الديون في اللحظة المناسبة؟ لو كان يدري كيف يفعل لكان توقف مبكرا عن الاستدانة. (لعبة الحبار بصيغة تلفزيون الواقع بمصادقة المؤلف هوانغ دونغ هيوك، نيتفليكس دجنبر 2023).
غرق المشاركون في الديون وحصلوا على فرصتهم الوحيدة والأخيرة في مكان مغلق لا يعرفون الزمن فيه، يشبه عالمهم قاعة مغلقة، تشبه القاعة التي احتجز فيها المتنافسون ليفترسوا بعضهم بعضا كعقارب قاع قارورة شفافة.
صارت هذه القاعة الزجاجية مختبرا سوسيولوجيا يستخدم حيلا سردية لكشف النفسيات. هكذا هُم البشر تحت الاختبار البافلوفي حين يقل الطعام. أهم شيء في الكون هو الطعام، لكن الطعام نادر وصار يشبه البلاستيك.
ما الذي يحفز البشر؟ البقاء.
لذلك يدخلون في منافسة داروينية لا مكان فيها للضعيف.
لا مكان لأخلاق الضعفاء.
نحن هنا في جوهر فلسفة القرن التاسع عشر بين نيتشه وداروين.
العالم صالة ألعاب قاسية فيها طوابير بشر وطعام قليل وحمّام دم.
يحاول كل مشارك التعايش مع خطر محتمل غامض سيأتي من أقرب الأشخاص. التهديد في كل مكان، فكيف تتعايش معه دون أن تنهار؟.
هذا هو التحدي في كل دقيقة.
يُخرج الصراع الغرائز المتوحشة من كل فرد يريد القضاء على الآخرين. هكذا صار الموت تسلية. هنا انتظار الرصاصة أصعب من وصولها. للتخفيف تم تغيير لون الدم. هكذا صار المسلسل أقل عنفا.
في قاع القلة الزجاجية، حيث يتابعهم المشاهدون، يقنع المشاركون أنفسهم بجدوى الميكيافيلية في التنافس. أول درس يتعلمه الغارقون في الديون هو إن لم تغش لن تربح في الفرصة الوحيدة المتاحة لك. هنا يكشف التنافس أسوأ ما في البشر. ويحصل أن طباخ السم يذوقه.
جاء المشاركون وهم على علم بوقائع الموسم الأول.
في السلسلة الجديدة صارت لدى اللاعب سلطة إقصاء منافسه بالصدفة.
حصل الحسود على فرصة. تم إشعال حرب أهلية لتسلية منخرطي “نيتفليكس”.
صار الاقتتال الداخلي أشد من العدو الخارجي.
لكل مشارك عدو محلي يقف جانبه. تم إشعال حرب بينية جعلت المنظمين يصيرون ملائكة.
الجديد هو أن الهدف صار استهداف المشاركين الآخرين لإقصائهم، وهذا يرفع التشويق بشكل غير مسبوق.
هناك ديمقراطية مقلوبة:
تم اختبار التصويت. فجأة اتضح أن التصويت ليس منهجا للفوز أو الإقصاء.
تسخر الحلقة الرابعة من التصويت كمنهج لحل الخلافات. تلعب النميمة دورا كبيرا في قرار التصويت الخاضع للكرونوميتر. من يحصل على أكبر عدد من الأصوات يقصى. إنها سخرية القطيع من منطق الديمقراطية.
يوجد توجه للتصويت ضد المتفوقين، ملاكم وطبيب… هناك تصويت يحمي المتشابهين ويحرض ضد المختلفين. هكذا تتشكل الشِّلل من الأشباه ضد المتميزين عن القطيع.
هذا ما يدفع الفرد للتماثل مع الآخرين خوفا من كل من حوله لكي لا يصير له عدوا.
الخطوة الأولى لحماية الذات هو أن كل فرد يتنمط، يتشابه لكي لا يثير الانتباه، لكي لا يصير هدفا لتسديد الآخرين.
تتغير اللعبة، يدخل المشاركون في اختبارات إقصائية شعارها أنا ومن بعدي الطوفان.
تحضر الكثير من الصدفة في لعبة سفن الحرب، يتنافس الفريق الأحمر والأزرق، يطلقون الصواريخ على بعضهم البعض. ينجوا اللاعبون بإغراق الآخرين، يحتفل الناجون على جثث الذين سقطوا… ينظرون إلى الحصالة فوق رؤوسهم وليس إلى الجثث عند أقدامهم… يبدو هذا التنافس المميت أشبه بديربي في كرة القدم بين الأخضر والأحمر.
وظف المسلسل “كاتالوغ” شخصيات ثري ومتعدد جسديا ونفسيا، شخصيات تشارك في ألعاب تعري الطبيعة البشرية… هناك تنوع مذهل في خلفيات الشخصيات ومزاجها. تشتكي شابة من أن الرجال لا يفضلون الجميلات الذكيات الحاصلات على ماستر مثلها.
إعلاميا، لم يحقق إطلاق “لعبة الحبار” بصيغة تلفزيون الواقع الفرقعة المتوقعة، لكن تم تجديد محاور الصراع وأساليب السرد، ما سيوفر المتعة والفائدة حول حقيقة الطبيعة البشرية التي تبحث عن فرصة ثانية للتحرر من الديون، من التضخم والغلاء والبؤس.
فنيا تتحقق وحدة المكان والزمان في القاعة المغلقة حيث المشاركون. من حيث المنظور يتساوى المشاهد والمشارك في نقص المعرفة بما سجري، ما يضمن التشويق (لا تتوفر للمشاهد معلومات أكثر من
المشاركين).
أدبيا، بهدف كشف النوايا تم استخدام “مونولوغات” تفسر الحوافز السردية والدوافع البشرية، “مونولوغات” مضيئة تحذف المسافة بين الشخصية المغامرة والمشاهد الفقير، وكلاهما يلاحقهما الفقر والموت.
وقتك انتهى.
لا يعرف العداد القسوة.
المصدر: هسبريس