غوتيريش.. صوت للعدل على مائدة اللئام
خرج أنطونيو غوتيريش عن الخطاب المعتاد للأمين العام للأمم المتحدة، الداعي “لضبط النفس” والمعرب “عن القلق” إلى موقف أكثر شجاعة من العدوان الجاري في فلسطين، يحاول فيه تنبيه القوى المتحكمة في العالم إلى أن أصل الصراع هو “الاحتلال” وعدم تنفيذ مقررات الأمم المتحدة التي “ترفسها” إسرائيل بغطاء أمريكي كما تشاء. مواقف صنعت لغوتيريش رغم رمزيتها، حضورا وإعجابا في العالم العربي، فمن يكون هذا القائد الأممي؟
ولد أنتونيو مانويل دي أوليفيرا غوتيريش في 30 أبريل 1949 بلشبونة في البرتغال. عاصر في بداياته ثورة القرنفل التي أطاحت بالدكتاتور أنطونيو سالازار، وكان من المشاركين فيها. تشير تنشئته السياسية إلى إيمانه بالديمقراطية ورفضه للاستبداد، كما أن طبيعته ترفض الطبقية والظلم الاجتماعي وتنحاز أكثر للضعفاء، صفات جعلته يقتحم غمار السياسة باكرا وينضم إلى الحزب الاشتراكي في البرتغال بعد نشأته عام 1973، ويرتقي فيه أعلى الدرجات، إلى غاية تعيينه سنة 1995 رئيسا للوزراء وهو منصب عمّر فيه 7 سنوات كاملة وخاض فيه معركة إصلاحات اقتصادية سمحت بتقليص التضخم وتحسين توزان الموازنة العامة وتطوير البنية التحتية.
كان البعد الدولي في نضال غوتيريش بارزا، فقد رفض أن تحده جغرافية البرتغال الضيقة والموجودة في الهامش بعيدا عن مراكز القرار في أوربا والعالم. وهكذا سعى لأن يكون له وجود، فاشتهر بمساهمته في حل قضية تيمور الشرقية عندما كان رئيسا للوزراء في البرتغال.
كما ترأس منظمة الأممية الاشتراكية من 1999 إلى 2005 وكان قبل ذلك نائبا للرئيس من 1992 إلى 1999، وهي تنظيم عالمي يضم الأحزاب الاشتراكية الوسطية.
وبعد خروجه من الحكومة، لم يمكث السياسي البرتغالي طويلا، حتى عرض عليه منصب رئيس المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، والذي تولاه من جوان 2005 إلى ديسمبر 2015. موقع مكنه من الاقتراب كثيرا من القضية الفلسطينية التي تعد مسألة اللاجئين أبرز ما يميزها سواء داخل الأراضي المحتلة أو في المخيمات في لبنان وسوريا والأردن أو في الشتات الفلسطيني.
لذلك، لم يكن مستغربا بعد أن أصبح غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة من جانفي 2017 خلفا للكوري بان كي مون، تركيزه الكبير على قضية اللاجئين.
ونظرا لأن خلفيته قوية، كان من أوائل من قدموا إلى معبر رفح بعد بدء العدوان الإسرائيلي ونشط من هناك في 20 أكتوبر ندوة صحفية، دعا فيها لإدخال مساعدات عاجلة لسكان غزة، ومن ورائه كانت تظهر بوابة المعبر الموصدة.
ثم جاءت بعد ذلك تصريحاته الأولى التي علقت على هجمات 7 أكتوبر، والتي كانت موفقة من حيث أنها أعادت ضبط البوصلة، بعد حملة تكالب دولية على المقاومة الفلسطينية ومحاولات مغرضة لتصوير أحداث ذلك اليوم خارج السياق الزماني والمكاني.
فصارت “إسرائيل” الضحية والفلسطينيون هم المعتدون، في تلك اللحظة، وعلى الرغم من أنه تأخر قليلا، قال غوتيريش، في 30 أكتوبر في إحاطته لمجلس الأمن إنه “من المهم أن ندرك أن هجمات (حماس) لم تحدث من فراغ وأكد أن “أي طرف في الصراع المسلح ليس فوق هذا القانون”. وأوضح أيضا أن “الشعب الفلسطيني يخضع لاحتلال خانق على مدى 56 عاما”، وحذرا من “العقاب الجماعي للشعب الفلسطيني”.
عبارات كان لها وقع شديد على الإسرائيليين الذين كانوا يبتزون استعطاف الرأي العام الدولي بتزوير التاريخ وتلفيق وقائع ذلك اليوم المشهود لتصوير أنفسهم في مواجهة “الإرهاب”.
وقد يكون سبب صدمتهم أنهم كانوا يعتقدون أن الدبلوماسي البرتغالي لن يجرأ على انتقاد إسرائيل، أو على الأقل سيبقى مركزا على الجوانب الإغاثية والإنسانية، ولن يتعدى ذلك للحديث في موضوع الاحتلال. فهو من كرّمه المؤتمر اليهودي العالمي في أكتوبر 2020 بجائزة تيودور هرتزل.
ووصفه رئيس المؤتمر رونالد لاودر في حفل التكريم بقوله “على مدى سنوات عديدة، أثبتت أنك صديق حقيقي ومخلص للشعب اليهودي ودولة إسرائيل”. لكنهم اكتشفوا رجلا آخر يجهلونه فنزلوا به من مرتبة التكريم إلى نعته بأقذر النعوت وتحريض وسائل الإعلام إليه والمطالبة حتى بإقالته.
صحيح أن ما يقوله غوتيريش قد يبدو عاديا أو أقل من الواجب إذا ما قورن بالجحيم الذي يعيشه الفلسطينيون والظلم التاريخي الذي لحقهم من 70 عاما، لكن حجم التراجع الذي شهدته القضية الفلسطينية حتى لدى من يفترض أنها قضيتهم من العرب والمسلمين جعل مجرد التذكير بهذه الحقائق من لسان المسؤول الأول في الأمم المتحدة، إنجازا يستحق الثناء عليه.
هذا ما يفسر حجم التفاعل في الشارع العربي مع تصريحات غوتيريش ومواقفه، وآخرها تفعيله المادة 99 من الميثاق التأسيسي للأمم المتحدة التي نادرا ما تستخدم والتي تخوله “لفت انتباه مجلس الأمن إلى أي مسألة يرى أنها قد تهدد حماية السلم والأمن الدوليين”.
وهذه أول مرة يلجأ فيها الرجل إلى هذه المادة منذ توليه منصبه عام 2017، محذرا في رسالته لأعضاء مجلس الأمن، بكلمات ستدينهم لسنوات طويلة أنه يتوقع انهيارا وشيكا في النظام العام في غزة، الأمر الذي بجعل تقديم مساعدة إنسانية مستحيلة حتى لو كانت محدودة.