لكن أزهار الشتاء بخيلة السودانية , اخبار السودان
ديسمبر: لكن أزهار الشتاء بخيلة
خالد فضل
لنيّف وعشرين سنة مضت من عمر الزمان الذي ما نزال نحيا في أحشائه، نتقلّب في رحمه ريثما يقذفنا إلى زمان الأبدية، ظلّ شهر ديسمبر من كل عام يعني لنا في أسرة كمبوني الخرطوم؛ زمنا مغايرا عن بقية العام.
ديسمبر شهر الميلاد المجيد عند المسيحيين الكاثوليك، و25 منه يمثل ذروة مجد تلك الاحتفالات، ففي لحظة الميلاد تتبدد الظلمات كما يقول مقطع إنشاد من ترانيم الميلاد، وكنت دوما ضمن المشاركين في تلك الإحتفالات رفقة الزميل الصديق روبرت أبّو حياه الغمام أينما أقام، وأرسل له التهاني مقدما.
عاصرنا خلال تلك السنوات عدداً من الآباء شغلوا منصب العميد في مدارس كمبوني الخرطوم ثلاثة ايطاليين وبريطاني من أصول مصرية وبولندي وفلبيني، الأمانة تقتضي القول إنهم جميعا كانوا من محبي السلام ومن عاشقي السودان المتفانين في خدمة التعليم فيه، وهذه سانحة لتحية الأحياء منهم فقد رحل الأب بيبينو قبل سنوات قليلة.
بعد هذه السنوات الطوال يتلفت القلب الآن حزينا، وقد كان اليوم في الطابور الصباحي يبدأ في بعض الأحيان بدعاء ويسمونه الصلاة، تقول بعض كلماته من الذاكرة فعفوا إن لم يكن دقيقا يا الله أجعلني أداة للسلام، فحيث الظلام أزرع النور وحيث الشك أزرع اليقين وحيث الكراهية أزرع الحب… إلخ، لقد كانت تلك من الافتتاحيات الرائعة جدا في قلب الخرطوم، وفي شارع القصر الجمهوري على مقربة من مقر القيادة العامة للقوات المسلحة وليس بعيدا عن البرج الذي كان مقرا فيما يبدو لأحد أفرع قيادة قوات الدعم السريع!!
وإلى أضلاع هذا المثلث الملعون تنسب كل الجرائر التي يعيش في كنفها السودانيون/ ات منذ صبيحة السبت 15 أبريل من هذا العام الذي يلملم بقية أيامه ليرحل، ومن الصدف أنني أمضيت ومعي مئات الطلبة/ ات والزملاء/ ات المعلمين والعاملين، أمضينا نهار الرعب الأول وليله داخل مباني كمبوني التي يحاصرها مثلث الموت، وأصيب أحد طلابنا بشظية شقت فضاء السوق العربي ومبانيه العالية لترشق الصبي في ظهره ويسيل دمه غزيرا ولا إسعاف إلاّ ما تيسّر في صندوق الإسعافات الأولية المعهود. وسهرنا الليل وكملنا يا حليل زمن غنا عركي الشفيف تحت أزيز الصواريخ ولهيب القذائف، ودوي الإنفجارات، لقد بات وسط الخرطوم كئيبا والدنيا خواتيم رمضان، نتلصص طريقنا بين الفرندات بحثا عن لقمة نحلل بها الإفطار، ولمّا عزّ النصير وبات من المستحيل تحرك سيارات من أي جهة كانت لإنقاذ العالقين من الصبية والصبايا والأطفال، توكلنا في صبيحة اليوم التالي وخرجنا رفقة طلابنا/ تنا وتقسمنا على مدن العاصمة الثلاث، كل مجموعة صوب ناحية، والقصف والقذائف، وبعض الجثث مسجية تحت السلالم في بعض عمارات السوق العربي، لقد عاش الأطفال تجربة لن تمحى آثارها من مشاعرهم قريبا، وقطعنا المسافة من السوق العربي إلى السوق الشعبي الخرطوم مشيا على الأقدام؛ فيما كانت سيدة حبلى تكاد تضع مولودها، تمسك ببطنها تارة وبرأسها تارات أخر، وكان القلب مهموما، والبال مشغولا، ليس بالمصير الشخصي؛ فذاك أمر يقع تحت رحمة رصاصة طائشة تصيب من أي جهة جاءت، ولكن أثقل ما على القلب هو المصير الذي تُساق إليه بلادنا كلها، وإن كانت ستكون فعلا بلادنا بعد هذا اليوم، همّ شعبنا إن كان سيظل شعبنا وقد خرج المارد عن القمقم وأصبحت السيطرة عليه ضربا من المستحيل، لقد انكسرت الزجاجة وأندلق السائل فهل من عودة لذات السائل إلى نفس الزجاجة المهشّمة؟ هذا هو ما يشغل البال، وديسمبر تبخل أزهاره، يتردد صدى ترانيم الميلاد والرقص والاحتفال وبهيج الكرنفال، فالتعددية الباذخة التي يمثلها مجتمع كمبوني كانت حديقة غنّاء فيها تطريب وإمتاع للروح وإثراء للعقل ورفدا للقلب، والسلام تاج على رؤوس الذين يعيشون فيه لا يراه إلا الموجوعون بالحرب، وفي أتون الحرب فقدنا د. بشرى بن عوف أحد أميز الخريجين في مدارس كمبوني الطبيب المشهور في أدق التخصصات والأستاذ الجامعي المرموق، كما فجعنا برصاصة تغتال صديقنا وزميلنا ابن جنوبنا الحبيب بل ابن السودان الكبير الأستاذ الباشمهندس بيتر كيانو الذي كان إلى ما قبيل الحرب بقليل يشغل منصب المدير في القسم الثانوي، وهو بعد المترجم الحاذق والمهندس الفنان والرياضي الذي لا يشق له غبار والفيزيائي الباتع، فقدناه وفقده حقل التعليم إن كان من عودة لسكة التعليم ثانية!! فقدنا الطمأنينة، وفقدنا كمبوني في وسط الخرطوم، هل تراها الآن ثكنة لهذا الفيلق أو تلك الكتيبة من المجاهدين أو الأشاوس الميامين!!! والصلاة في حرمها لأكثر من تسعين عاما تنادي بأن أجعلني أداة للسلام بالعربية والإنجليزية وحتى اللاتينية تتعدد الألسن والدعاء واحد، حيث الشك الإيمان وحيث الكراهية الحب يا الله، فهل يسمع المتقاتلون نداء السلام.
المصدر: صحيفة التغيير