نعم للتدخل الدولي ووصاية الأمم المتحدة كخيار لابد منه (2/2)
جمال عبد الرحيم صالح
لقد كرسنا الجزء الأول من مقالتنا هذه لوصف حال بلادنا في الشقين المدني والعسكري، باعتباره يمثل الخلفية التي يمكن على ضوء ما بها من حقائق تحديد الخيار الأنسب للخروج ببلادنا من محنتها الكارثية. سنتولى في هذا الجزء من المقالة تحليل وضع القوى الفاعلة على الأرض، ثم نستعرض الحلول المطروحة الآن وأسباب قصورها، ومن بعد ذلك نتناول رأينا في حتمية التدخل الدولي لحل الأزمة السودانية، ثم نعرج لتفصيل التحفظات المتوقعة على المقترح، وأخيراً نستعرض ردنا على تلك التحفظات المتوقعة.
أولاً وضع القوى الفاعلة على الأرض:
*قوى الثورة (ونعني بها قوى الحرية والتغيير ولجان المقاومة): تمثل القوة التي لها مشروعية في قيادة الفترة الانتقالية وبناء جهاز الدولة من جديد. لقد فعلت قوى الحرية والتغيير حسناً بابتدارها الورش المتخصصة التي انعقدت قبل قيام الحرب، والتي من خلالها قيَّمَت أداءها وأداء حكومتها أثناء الفترة الانتقالية. يُشهَد لها بالرصانة والجدية في قيادتها للحراك السياسي الذي قاد للاتفاق الإطاري المُجهَض، كما يُحمد لها حراكها السياسي بعد الحرب الذي نجح في توسيع قاعدة قوى الانتقال الديمقراطي، إضافة لنشاطها في الجبهة الخارجية عبر التواصل مع القوى الإقليمية والدولية. ربما يمكن أن يكون النقد الأساسي الموجه لها يتمثل في انعدام أي نشاط مؤثر في الشارع، وهو أمر بالغ الصعوبة في ظروف استقطاب عسكري حاد وخطير للغاية، إضافة للنزوح الواسع النطاق الذي تصعب معه قيادة حراك في الشارع.
*قوى التغيير الجذري: لا خلاف في أنها إحدى الفصائل التي صنعت الثورة، بيد أنها تريد المضي بها إلى ابعد من طاقتها، وأبعد من أهداف قوى الثورة الأخرى، التي تتمركز حول إعادة بناء أجهزة الحكم نفسها، قبل التفكير في مسار التطور الاقتصادي الاجتماعي المستقبلي. في تقديرنا أن ما تطرحه من رؤية بعيد عن مزاج الشارع وأكبر من قدراته الحالية، وخير لها وللثورة أن تضع يدها في أيدي قوى الثورة الأخرى، التي تطرقنا لها أعلاه.
*قوى اتفاق جوبا: لا تملك وزناً عسكرياً أو سياسياً يسمح لها بالتأثير في مجريات الأحداث. يمكن اعتبارها قوة مساندة للقوى المتحركة الأخرى أكثر من كونها قوة أساسية. وفي الواقع، نرى أن على قوى التغيير إعادة النظر في اتفاق جوبا بما يتناسب مع الوزن والنفوذ الحقيقيين لهذه القوى. الأهم من ذلك، فإن الاتفاق نفسه فقد مشروعيته حيث انهار مع انهيار الوثيقة الدستورية نفسها، تلك التي استند عليها، كما أن الحركات الموقعة نفسها شاركت بفعالية غير مخفية في التحضير لانقلاب البرهان الذي أغلق المسارات السياسية التي كانت فاعلة حينها.
*الحركة الإسلامية (المؤتمر الوطني): تمثل الكتلة الرئيسية في معارضة التغيير. عداءها لكل القوى الأخرى (بمن في ذلك حلفاءها المؤقتين الحاليين من قادة الجيش) عداء جذري ولا يوجد أدنى احتمال في أن تركن للسلم وتترك البلاد تتطور في حالها، حيث أن بنيانها السياسي والتنظيمي يقوم على الانفراد المطلق بالحكم. لا تملك هذه الحركة رؤية أو استراتيجية للخروج بالبلاد من نفقها المظلم، كما تفتقد للحد الأدنى من العقل والأخلاق. عموماً ليس لديها سقوف عليا أو خطوط حمراء يمكن أن تعيقها عن الجلوس على دست الحكم المنشود.
*البرهان وقيادات جيشه: ليس لديهم رغبة في التنازل عن السلطة وترك خيار الدولة المدنية يسلك مساره الطبيعي. يفتقدون للحد الأدنى من المهنية والوطنية، ويتسمون بقدر غير مسبوق في الكذب والمراوغة ونقض العهود، كما يفتقدون للحد الأدنى من المصداقية الذي يسمح بتنازلهم عن السلطة لحكومة مدنية. يكفي دلالة على انعدام كفاءتهم ومهنيتهم سماحهم لقوات الدعم السريع بالتمدد أفقياً ورأسياً لدرجة أن تنتصر مليشيا عائلية على جيش يقوده خريجو مؤسسة عسكرية عمرها يزيد عن المائة عام؛ ويكفي افتقادهم للمصداقية تجاوزات البرهان الكثيفة لدوره المحدد في وثيقة دستورية شهد عليها العالم أجمع، منها على سبيل المثال اجتماعه مع الرئيس الإسرائيلي للاتفاق على مسائل ليست من مهام الفترة الانتقالية أصلاً، وليس آخرها انقلابه المشؤوم تفادياً لتصعيد أحد الأعضاء المدنيين بمجلس السيادة ليكون رئيساً وفقاً لما نصت عليه الوثيقة الدستورية.
*الدعم السريع: نشأ الدعم السريع كتنظيم ارتزاقي ليس له عقيدة عسكرية أو سياسية وطنية، ولم تمثل مشكلة المواطن السوداني، جزءاً من همومه وأهدافه، بل لم يمثل حتى جناحاً عسكرياً لقبيلة دع عنك أن يكون معبراً عن وطن بأكمله. معلوم للجميع مسئوليته المباشرة عن قتل واغتصاب آلاف السودانيين والسودانيات، سواء في دارفور، أو العاصمة نفسها، كما أنه مسئول بشكل مباشر عن انتهاكات حديثة واسعة النطاق من ضمنها الاستيلاء على بيوت المواطنين وسلب ممتلكاتهم بالعاصمة، وأعمال قتل وترويع، ذات طابع عرقي، واسعة النطاق أيضاً بدارفور. اكتسب التنظيم قوته، إضافة لما وفرته له الدولة من سلاح، اكتسب قوته من تجيير موارد البلاد لتصبح في أيدي أفراد أسرة واحدة، بدون اعتبار للشعب. اتسم سلوكه السياسي بعد ثورة ديسمبر بالتكالب المحموم للاستيلاء على منظومة الحكم. وفي هذا تم إرشاء آلاف القادة القبليين والروحيين ليشكلوا له حاضنة اجتماعية، مدفوعة الثمن، تمكنه من يسط سيطرته على الدولة حتى في ظل نظام ديمقراطي تعددي.
لقد شهدت الفترة قبيل الاتفاق الإطاري في الخامس من ديسمبر 2022 تغييراً مفاجئاً في الخطاب السياسي للدعم السريع (ولا أقول الخط السياسي لعدم وجود ما يؤكد تحول ذلك الخطاب إلى سياسة أصيلة)، بشكل يبدو عليه التماهي والتعاطف مع شعارات الثورة وقوى التغيير ورؤيتها وقبول أطروحاتها حتى في تحديد مصير الدعم السريع نفسه، تلك القائمة على دمجه بالجيش النظامي وولاية وزارة المالية على المنشآت الاقتصادية للمؤسسات العسكرية؛ هذا إضافة إلى نقده الذاتي العلني فيما يخص موقفه من انقلاب 25 أكتوبر. يلاحظ المراقب السياسي أيضاً، تلك المثابرة في ترديد مستشاريه السياسيين وقياداتهم الميدانية بأن هدف جيشهم يتمثل في بناء دولة سودانية جديدة قائمة على الديمقراطية والدولة المدنية، وهو أمر رددته قيادتهم العسكرية كثيراً أيضاً، مثالاً عليه خطاب قائد ثاني الدعم السريع عند استلام قيادة الفرقة 20 بالضعين، وتكراره بأن هدفهم إنشاء دولة مدنية.
من الصعب تصور أن هذا التحول الجريء في الخطاب السياسي للدعم السريع جاء نتاجاً لتطور طبيعي في داخله، لذلك نميل إلى ترجيح فرضية أن طبيعة صراعه مع التنظيم الإسلاموي والبرهان وجماعته، أملت عليه التماهي مع شعارات الثورة باعتبار أنها التيار الأقوى والأقدر على تحقيق الانتصار السياسي على خصوم الدعم السريع من الاسلامويين وقادة الجيش، وأيضاً باعتبار الاحترام والاعتبار الذي يكنه المجتمع الدولي لقوى الثورة؛ هذا إضافة إلى ثقته العالية في انتصاره في الحرب القائمة بشكل يسمح له بتحديد شكل ومهام الحكومة المدنية المحتملة.
لا بد أن نضع في الاعتبار، لتجنب الغفلة التي أودت ببلادنا لهذا القاع السحيق، أن الدعم السريع استثمر كثيراً في “تمدين” هيئته وشعاراته بمواظبة واهتمام بالغين، من خلال الاستعانة بعدد مقدر من المستشارين المدنيين الذين يتمتعون بمقدرات سياسية ومهنية معقولة، وأيضاً من خلال كسب ود القادة الاجتماعيين والروحيين خاصة بغرب البلاد. في تقديرنا أن عملية “التمدين” التي أشرنا إليها، يأتي في إطار تمكينه من السير في فكرة الدولة المدنية الديمقراطية التي تبناها مؤخراً من خلال هؤلاء المدنيين، سواء بالانفراد بالسلطة، أو عبر التحالف مع قوى مدنية أخرى، شريطة أن تكون له اليد العليا، التي سيفرضها من خلال انتصاره العسكري المُحتَمَل.
لكن، وبشكل عام، ورغم رأينا في الدعم السريع، ينبغي الاعتراف إلى أنه يتفوق كثيراً على خصومه من الإسلاميين والجيش، من ناحية المصداقية ووضوح الخطاب، إذ أنه، وعلى الأقل، كان أكثر مبدئية في تعامله مع الاتفاق الإطاري. وبالطبع، عندما نقول أنه يتفوق على خصومه في المصداقية، فإننا نقصد أن الفرق بينهما فرق درجة وليس نوع، حيث أن ذات الدعم السريع الذي يدعي تماهيه مع قيم الديمقراطية ومناداته بالدولة المدنية، هو ذاته الذي أكدت جهات دولية ذات مصداقية لا يتطرق إليها الشك مسئوليته عن مجازر بشعة ارتكبتها مجموعاته بالجنينة وغيرها قبل أسابيع قليلة.
ثانياً الحلول المطروحة وأسباب قصورها:
توجد حالياً آلية واحدة فاعلة في معالجة الأزمة السودانية بعد إنهاء تكليف بعثة اليونامتس، وهي منبر جدة، الذي بنيت فكرته الأساسية على قاعدة أن الحل يجب أن يكون سودانياً، وأن دور القوى الإقليمية والدولية المشاركة به لا يتعد دور المُسهل أو المُيسر، وأن غايته الأساسية لا تتجاوز الوصول لهُدَن يقف بموجبها العمل العسكري للجانبين وذلك لأجل توصيل المساعدات الإنسانية للمحتاجين، ومن ثمَّ الوصول لوقف دائم لإطلاق النار، تعقبها مفاوضات بمشاركة المدنيين في اتجاه الوصول لاتفاق سياسي تنشأ بموجبه حكومة مدنية. ومنذ مطلع مايو المنصرم وحتى هذه اللحظة، لم ينجح المنبر إلا في تحقيق هدن قصيرة للغاية في أيامه الأولى، لا نعتقد أنها أدت دورها المنشود.
في تقديرنا أن هذا المنبر بالفرضيات التي بني عليها حتى الآن، والتي تفتقر حتى لوجود أظافر يمكن من خلالها التأثير على الأطراف المتحاربة، لن يوقف الحرب ويجلب السلام والاستقرار للبلاد عبر التفاوض، دعك عن أن يأتي بحل سياسي يضمن أولاً عدم تفتت الدولة، ثم تالياً إصلاح جهاز الدولة المدمر بالكامل. تحفظنا هذا ناتج عن جملة أسباب:
*القيادة الحالية للجيش فاقدة للمصداقية والموثوقية في أقوالها وأفعالها، وغير مهتمة أساساً بآلام مواطنيها ومصلحتهم. إضافة لذلك تفتقد للحس الوطني والشجاعة اللازمة لاتخاذ القرارات الصعبة. لقد أدرك العالم جميعه تقريباً هذه الحقيقة مما جعل حتى قادة الدول الصديقة لهم يبحثون عن حلول أخرى متجاوزة لهم.
*طموحات الدعم السريع في إضفاء سيطرته العسكرية الكاملة واضحة للعيان، كما أن طموحاته السياسية في الهيمنة وتحديد مسار تطور البلاد لا يمكن إخفاءها مهما تحدث قادته بغير ذلك.
*أحد الأطراف الرئيسية في الصراع القائم، وهم الإسلامويون أصحاب النفوذ القوي في الجيش، ليس لديهم استعداد مطلقاً لإيقاف الحرب، لأن ذلك يعني ببساطة فقدانهم للحكم، وهو امر غير وارد لديهم، وهو ما أثبتته تجربة 34 عاماً من وجودهم في السلطة. وحتى بافتراض توقف الحرب، فإنه من غير الوارد ضمان توقف محاولاتهم عن إفشال الانتقال المنشود وإصلاح حال الدولة.
*إن انتصار أحد القطبين المتقاتلين، سيجعل من الاستحالة إبعاده عن التأثير القوي على مآلات العملية السياسية وما ستفضي إليه، وإلا سنكون من الحالمين! وفقاً لهذا، ستكون الحكومة المدنية المفترض قيامها كناتج للتفاوض في إطار هذا المنبر، أضعف من أن تحقق أهداف الثورة المعلومة، حيث ببساطة يستحيل لحكومة مدنية ليس لها سلطان عسكري، خاصة في السياق السوداني المعروف، أن تنجز تحولاً جذرياً في جهاز الدولة، وبالذات في هيكلة الجناح العسكري له.
ثالثاً حتمية التدخل الدولي لحل الأزمة السودانية:
استناداً على مجموع الحقائق والملاحظات التي تطرقنا لها أعلاه، وتجذُّر الفشل في بلادنا منذ الاستقلال، لا نرى بديلاً منطقياً لحل المسألة السودانية إلا بتدخل دولي سياسي وعسكري قوي، ويفضل تحت مظلة الأمم المتحدة، يمكن أن يأخذ صفة الوصاية أو غيرها من الآليات، فنحن يهمنا الجوهر أكثر من المظهر هنا. لقد استفاض مقترح بروفيسور مهدي حسن التوم الذي أشرنا إليه أعلاه في توضيح مهمة هذا التدخل وأهدافه وفترته الزمنية، حيث يمكن الرجوع للمقال في هذا. لكن يهمنا أن نبرز باختصار أهم القضايا العاجلة في التالي:
*إيقاف الحرب، بالقوة إن لزم ذلك، والقيام بالفصل بين القوات المتحاربة.
*الإشراف على تحديد متطلبات عودة اللاجئين والنازحين إلى ديارهم.
*الإشراف على توفير متطلبات تلك العودة من مساعدات إنسانية وإصلاحات عاجلة في مؤسسات الإدارة المدنية.
*إعادة تشكيل القوات المسلحة وإنهاء حالة تعدد الجيوش.
*إصلاح الأجهزة الأمنية الأخرى من شرطة واستخبارات وتأهيلها لأداء أدوارها المعروفة عالمياً.
*باختصار إعادة بناء الدولة السودانية.
رابعاً التحفظات المتوقعة على المقترح:
*التدخل الدولي سيكون خصماً على السيادة الوطنية، وأن الوطنية الحقة تشترط أن يكون الحل سودانياً خالصاً، وأن السودانيين قادرون على حل مشاكلهم بأنفسهم.
*الدعوة للتدخل الدولي دعوة حالمة، وغير محتملة الحدوث، حيث أن الدول المقترح تدخلها غير مطروح في أجندتها الخارجية مثل هذه التدخلات.
*الدول المقترح تدخلها (كالولايات المتحدة) محكومة بمصالحها فقط، ولا تتدخل من أجل سواد عيوننا، وأن هنالك بوناً شاسعاً بين ما تفعله حقيقة وبين ما ترفعه من مبادئ وشعارات عظيمة.
*يجب أن تكون الأولوية الآن لإيقاف الحرب حيث أن أي أطروحات أخرى يجب أن تناقش في إطار المفاوضات المتوقعة بعد نهاية الحرب.
خامساً ردنا على التحفظات المتوقعة:
*واقع الحال يقول أن هنالك مخاطر ماثلة تهدد وجود الوطن نفسه، عليه يصبح الحديث عن الوطنية والسيادة نوعاً من الترف الفكري والسياسي لا يناسب حال البلاد و مآلات أزمتها الحادة.
*من يقول أن الأولوية لإيقاف الحرب عليه أن يجيب عن كيف ستقف الحرب، ومن يضمن عدم اشتعالها مرة أخرى، وما الضمان لاستمرار أي حكومة مدنية يمكن أن تُكوَّن كنتيجة لأي مفاوضات والتاريخ الماثل مُشَبَّع بنماذج لا حصر لها من الكذب البواح والتآمر المفضوح لمن يملكون مفاتيح القوة العسكرية. بل تمضي تساؤلاتنا لأن نقول: أيّ رئيس مدني ذلك القادر على فرض الصيغة المثلى لإعادة هيكلة القوات النظامية مثلاً؟
*إن التأخر عن طلب التدخل الدولي بحجة أن الأولوية هي إيقاف الحرب يحمل في طياته خطراً يتمثل في احتمالية انتصار أحد طرفيها. إن حدوث ذلك يمثل كارثة حقيقية حيث كلا الطرفين لديه حاضنة سياسية واجتماعية جاهزة، ستكون منتشية بالنصر، وشرهة للانفراد بالحكم تحت مظلة حكومة مدنية يتولى الطرف المنتصر تشكيلها من حاضنته؛ وحيث ستجبر تلك النتيجة قوى الثورة للتحرك مجدداً من نقطة متأخرة للغاية، باعتبار أن الشارع نفسه سيكون منقسماً.
*الدعوة للتدخل الدولي نراها أقل (حالمية) من الحلم السائد بوجود أمل في أن تفلح العملية السياسية الجارية في الانتصار لشعارات وأهداف ثورة ديسمبر! لا أظن أننا نفتقد الدليل على أن القوى و الجهات المعادية للثورة السلمية، العسكرية منها والمدنية، تفتقد لأي وازع وطني أو أخلاقي يجعلها تستجيب لصوت العقل، أو مقترحات الوسطاء، أو رغبة الشعب، أو أحلام وطموحات الشباب الذي دفع أثماناً غالية للغاية ليراها مُتَحقَّقَة؛ فتلك الجهات المعادية تتحكم في القطاع العسكري بالكامل، إضافة لسيطرتها على مفاصل الجناح المدني للدولة بما في ذلك الجهاز العدلي. عليه فإن ضبط المعادلة لمصلحة ثورة التغيير يتطلب دعم قوى أخرى، وهي المجتمع الدولي؛ إذ لا بد من أن نضع في الاعتبار دائماً أن ثورتنا المجيدة ليس لها سند عسكري.
*صحيح أن استجابة المجتمع الدولي للتدخل ليست سهلة، حيث أنها مرتبطة بالمصالح والحسابات والتقديرات السياسية للدول المعنية، لكن هنالك شواهد كافية تدعم إمكانية حدوثها، حيث يمكن الاستشهاد في ذلك بالحملة الجوية للناتو ضد جيش جمهورية الصرب في 1995، والتي فرضها الضمير العالمي تجاه ما كان يحدث في منطقة البلقان من مجازر مبنية على العرق والدين. لقد نجح ذلك التدخل الدولي في إخضاع الصرب للتفاوض ومن ثمَّ التوقيع على اتفاقية دايتون. كما نجح أيضاً في إنقاذ شعب كوسوفو من خطر الإبادة، ولا تزال كوسوفو، وبعد إعلانها استقلالها عام 2008، تحظى بالحماية من الأمم المتحدة والحلف الأطلسي رغم معارضة دول رئيسية، وتحديداً روسيا والصين. ولم نذهب بعيداً وأمامنا تجربة استجابة المجتمع الدولي في حماية سكان دارفور، والتي رغم قصورها وضعفها إلا أنها لعبت دورا في تحقيق قدراً من الاستقرار والأمان لضحايا حرب نظام الاسلامويين المشؤوم.
*المجتمع الدولي مصلحته في وجود سودان مستقر وآمن، حيث أن مآلات انهيار السودان كدولة سيكون له آثاراً خطيرة للغاية في أمن واستقرار العالم بأجمعه.
*في تقديرنا أن ثورة ديسمبر المجيدة خلقت احتراماً وقبولاً وتعاطفاً دولياً واسع النطاق، بل ينظر إليها المجتمع المدني والحكومات في العالم المتحضر باعتبارها نموذجاً رائعاً وملهماً للآخرين، وفي هذا يمكن تقديم نماذج لا حصر لها للتدليل على ذلك. يكفي الاحترام البالغ والحفاوة التي استقبل بها رئيس وزرائها دكتور حمدوك في المحافل الدولية المختلفة التي شارك فيها.
*لكل ذلك وغيره، نرى أن هناك احتمالاً قوياً في أن يستجيب المجتمع الدولي لأي دعوة للتدخل الإيجابي في الشأن السوداني.
*لذا نرى أن تتولى الدعوة لذلك التدخل، وتحديد شكله وملامحه والمشاركين فيه، أوسع جبهة ممكنة من قوى ثورة ديسمبر المجيدة. وأن تكون تلك الدعوة محور نشاطها السياسي والإعلامي، وأن توفر الحيثيات والشروط الملائمة في اتجاه إقناع المجتمع الدولي بصحة توجهها. وفي هذا يجب أن لا تقتصر دعوة الجبهة المقترحة على الحكومات فحسب، بل عليها أن تركز كذلك على منظمات المجتمع المدني والبرلمانيين وصناع الرأي في البلاد المناط بها قيادة، أو المشاركة، في التدخل الدولي المقترح.
*يدعم وجهة نظرنا هذه، والتفاؤل بإمكانية نجاحها، أن تدخل المجتمع الدولي لحماية سكان كوسوفو من الألبان المسلمين تم بطلب مباشر من زعيم الألبان روغوفا وجهه للرئيس كلينتون إبان زيارته للولايات المتحدة. وبالطبع، فإنه، ومثلما تختلف قضية كوسوفو عن قضيتنا، فإن طلب التدخل المقترح من جانبنا لا يتم بالضرورة بذات الوسيلة ولذات الجهة.
*هناك حساسية غير مبررة، في تقديري، لدى كثير من قوى الثورة حول إشراك المجتمع الدولي في حلحلة الأزمة الراهنة، أو في الواقع لديها موقف من تدخله أصلاً. في رأيي أن ذلك الموقف ناتج عن رؤية مشحونة بحمولات أيديولوجية، أكثر منه موقفاً مبنياً على معطيات الواقع الراهن سواء على مستوى العالم أم على مستوى البلاد. إن قوى المجتمع الدولي المقصودة بالتدخل، سواءً الولايات المتحدة أو الايغاد كأمثلة، لها موقف إيجابي ومساند لثورة السودان، وحق الشعب السوداني في الحكم المدني الديمقراطي، والمؤشرات الدالة على مدى الإعجاب والاحترام الذي تكنَّه لشعبنا أكثر من أن نحتاج لذكره.
لا يخالجنا شك في أن هذه الدول تضع مصالحها الوطنية في المقدمة، إلا أن ذلك لا ينفي أن وجود نظام مدني ديمقراطي هو الخيار الأفضل لديها، كما أن الأفضل للسودان أن يكون شريكاً مستقبلياً لها بدون تعارض مع مصالحه الوطنية. في رأينا أن دور المجتمع الدولي الذي استعرضنا ملامحه، سيكون حاسماً لتعود بلادنا إلى المسار المطلوب، مسار إعادة البناء لدولتها. ولأصحاب المخاوف والتحفظات نقول: إن الحكومة التي تسعى لها الثورة، وما ستضعه من برامج وسياسات، ومن خلفها شعبها بشارعه، هي الضامن لاستقلال البلاد السياسي والاقتصادي، فمسألة السيادة أو التبعية في يدنا نحن وليس في يد المجتمع الدولي المعني.
الجزء الأول من المقالة على الرابط
نعم للتدخل الدولي ووصاية الأمم المتحدة كخيار لا بد منه(12)
المصدر: صحيفة التغيير