حاجة الخطاب الإسلامي المعاصر للمقاصد الشرعية
اعلم أن سبب حفظ الشريعة في أصولها وفروعها هو رجوعها إلى حفظ أصول المقاصد في جميع ما تضمنته من كليات وجزئيات، وأن مصالح الدارين لا تكون إلا برعايتها، قال الإمام الشاطبي: ولذلك، كانت محفوظة في أصولها وفروعها كما قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكرى وإن له لحافظون}، لأنها ترجع إلى حفظ المقاصد التي يكون بها صلاح الدارين، وهي الضروريات والحاجيات والتحسينات، وما هو متمّم لها ومكمّل لأطرافها، وهي أصول الشريعة، وقد قام البرهان القطعي على عدّها، وسائر الفروع مستندة إليها، فلا إشكال، فهي أصل علم راسخ الأساس ثابت الأركان.
وبنى الإمام الشاطبي كلامه هذا على أن القرآن والسنة لم يخرجا عن إقامة هذه الأصول وتعزيزها وتقويتها، فالقرآن أتى بها أصولا يرجع إليها، والسنة أتت بها تفريعا على ما في الكتاب، وبيانا لما فيه.
ولا يختلف اثنان في أن الشريعة جاءت لرعاية مصالح الإنسان، وتحقيق سعادته في الدنيا والآخرة، وغايتها من ذلك إقامة مصالحه كخليفة في المجتمع الذي هو فرد منه، وبوصفه مسؤولا أمام الله الذي استخلفه على إقامة العدل والإنصاف وضمان السعادة الاجتماعية والفكرية، وتحقيق الطمأنينة النفسية لكل أفراد الأمة. ومن ثم، وضعت الشريعة على أن تكون أهواء الخلق تابعة لمقصود واضعها، وقد وسع فيها عليهم بشكل لا يلحقهم به فساد ولا تصيبهم منه مشقة، ولا تنفك عنهم مصالحهم إذا أخذوها على وجهها المطلوب وبالكيفية التي وضعت عليها، فهي ثابتة لا تتبدل، وإنما الذي يتبدل الحكم الفرعي الظني، لاسيما الأحكام التي مبناها المصالح المرسلة وأعراف الناس. ومن ثم، تعدّ المقاصد العامة المرجع الأبدي لاستيفاء ما يتوقف عليه التشريع والإفتاء والقضاء والخطاب الإسلامي الموجه للعامة والخاصة من المسلمين وغير المسلمين، لأن هذا الخطاب إذا لم يتمكن من النفاذ إلى قلوب المخاطبين وعقولهم، وإقناعهم بأن الشريعة جاءت لإقامة مصالحهم الدنيوية والأخروية، هو خطاب فاشل وفاقد للروح الدينية التي هي الأساس في تمكّنه من صدور المخاطبين.
فنحن لو تأملنا طبيعة الخطاب الإسلامي المعاصر الذي يسود واقعنا، بنظر فاحص ممحّص، وفكر ناقد محقق، صادق غير حاقد، سابرين أغواره، ومتسللين إلى خفايا التيارات المساهمة في تشكيله وصناعته وخلفياتها، لألفينا أن ما تعتمده تلك التيارات في التدليل على صحة أفكارها، وواقعية توجهاتها، والتمكين لمذاهبها، يعود جميعه إلى استدلالاتٍ مشتركة تنبجس من أصول واحدة وتراث واحد، تشكل مسألة موقع العلم من النقل وحدود اعتبار المقاصد والنظر في التعامل مع النص والأثر محوره الأساس.
وفي هذا المقام، يكون لمسألة اعتبار المقاصد والمعاني وإعمال النظر في إدارة الخطاب الإسلامي المعاصر دور مؤثر، يوصفها المسلك الذي يلجأ إليه الجميع في إخضاع المنقول لتحكمات المعقول وإلجام الآثار بلجام الأنظار. وبهذا، أضحت مقاصد التشريع مرتعا لبلوغ النوايا المبيّتة، ومسلكا لتحقيق الملاذات الفردية والجماعية غير المشروعة والمألوفة، وهو ما ولّد رد فعلٍ رافض لشيء اسمه اعتبار المقاصد واعتمادها كمسلك شرعي في فهم النص وتفسيره، والدعوة إلى التزام الحرفية في فهم النصوص وتفسيرها، ونعني بذلك أهل الظاهر العائدين من بعيد.
ويبدو لنا أن الشعور بالخوف الذي يتملك هؤلاء تجاه استخدام المقاصد في التفسير والاستنباط، لا يتعلق بالمقاصد في ذاتها، وإنما يتعلق بسوء استعمالها في تبرير أحكام ومواقف، تتعارض والشريعة الإسلامية.
والذي ينبغي قوله في هذا المقام إن المقاصد بوصفها طريقا من طرق التفسير والاستنباط لا بد منها؛ لأن الوقوف بالنصوص عند ظواهرها ومنع تأويلها بالمسالك والأدوات المعتبرة شرعا يؤدي إلى الجمود وعدم مواكبة التطور، وهو ما يتناقض والشريعة التي من أجل خصائصها العموم والشمول والديمومة.
كما أن الاسترسال في اعتبار المعاني والمقاصد، دون سبب وجيه ومسوّغ قوي، يؤدي إلى إهدار النصوص وفتح الباب أمام أصحاب الأهواء والأغراض الفاسدة الحاقدة، فكلا الأمرين مذموم. والطريق الوسط الذي ينبغي إتباعه، أن يُلجأ إلى المقاصد عندما يوجد ما يدعو إليها من دفع تعارض ظاهري بين النصوص، أو ما يتعارض ظاهره مع المبادئ الشرعية والقواعد الكلية، والحاجات الضرورية القطعية العامة للمجتمع، فيؤول بما يتفق وتلك المبادئ والقواعد والمقاصد؛ لأن هذا الوحي ليس من سماته التناقض والتخالف، ولن يكون.
*رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر