اخبار المغرب

“جرح في الجسد الاجتماعي” .. دراسة تأويلية ترصد الأنماط الثقافية للعنف

تعيش المجتمعات الحالية مستوى عنف هائل للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي. في أدنى مستوى لهذا العنف يتبادل الأفراد ملاحظات قاسية لا توفر حتى أحب الناس. وفي أعلى مستوى تنفجر أحزمة ناسفة ويتجول مسلحون في المدن يطلقون الرصاص ويموت مدنيون من البرد والجوع… وبينما يتزايد التوتر الاجتماعي، الذي يولد عنفا على أصعدة مختلفة، تأتي هذه الدراسة الفريدة عن العنف وأنواعه ووظيفته ونتائجه (بربارا ويتمر “الأنماط الثقافية للعنف”، ترجمة ممدوح يوسف عمران، عالم المعرفة).

ينبع عمق الكتاب من كونه دراسة في تأويل العنف أكثر منها دراسة سوسيولوجية لأشكال العنف. وهو الموضوع الذي دُرس كثيرا. يعرض الكتاب لتعريف العنف وأنواعه الفردية والعامة، ويرصد مدى حضور العنف في الخطاب الثقافي على التلفزيون والشبكة العنكبوتية. كما يتطرق إلى شرعنة العنف باعتباره قوة ورجولة. وترصد الكاتبة دور الأسطورة في الحرب، كما تتناول الدوافع العدوانية لدى فرويد وترصد نتائج العنف من خلال ضحايا الصدمات.

بداية تدقق الكاتبة التعريف “العنف تعريفا هو خطاب أو فعل مؤذ أو مدمر يقوم به فرد أو جماعة ضد أخرى”. العنف تعد على الآخر أو إنكاره أو تجاهله ماديا أو غير ذلك. العنف تفاوض بدني فوضوي ومدمر، والنتيجة هي أن العنف جرح في الجسد الاجتماعي.

أنواع العنف

بعد الغضب يبدأ العنف وهو أنواع: الحرب، الجريمة، الاغتصاب والاعتداء… وفيه عنف شخصي وعنف عام. إضافة لهذا هناك طبعا العنف الشخصي الخفي، الذي يؤذي الآخر نفسيا. ومن تجلياته ضعف الإحساس بالآخر، أي تجاهله أو معاملته ببرود. ولهذا نتيجة كارثية، وهي حسب الكاتبة “يؤدي عدم الحساسية إلى تآكل الصداقة”، تصير باردة وتموت.

لا يمارس العنف ضد الآخر، بل ضد النفس أيضا. وغالبا يعتبر العنف ضد النفس نصرا. إنه تضحية كبيرة من أجل قضية ما كما في حالات الإضراب الطويل عن الطعام. ويمكن للفرد أن ينتحر في سبيل أمر شخصي أو في سبيل قضية عامة وينظر إليه كفدائي أو شهيد قدم نفسه قربانا لهدفه. تقول الكاتبة: “تُمكن التضحية بالنفس المرء من تجاوز ذاته وتحقيقها”. ينظر إلى هذا بأنه قوة إرادة لدى الشخص، وفي مجتمعات أخرى يعتبر ذلك تهورا يؤدي للهلاك.

وهناك طبعا العنف العام. وهنا نجد ضرب الأجساد ممجدا، والدليل هو حفلات الجلد والإعدام أمام الجموع المتحمّسة. وهناك العنف المقدس. فالحرب التي تجري من أجل نشر الدين تجلب التقدير للذين يخوضونها. وهم يظهرون براعة وعدوانية وشراسة بسبب التحريض الديني والسياسي اللذين يخضعون لهما. وحسب الكاتبة، “فالقتلة من أجل قضية مقدسة يعفون أنفسهم من التفكير في مصير ضحاياهم”. طبعا لم يفكر مفجرو مدرسة بيشاوار الباكستانية في التلاميذ، فقد انتقموا من ضباط الجيش الباكستاني الذي يحاربهم. هنا يؤخذ الأولاد بجريرة آبائهم، لكن الإرهابي لا يعتبر هذا خطأ.

وضمن العنف العام نجد العنف المؤسساتي الذي تقوم به البنى الاجتماعية ضد الفئات الأكثر فقرا وهشاشة كما في أحياء الصفيح. هنا يقلل المكان من حق الفقراء في عيش لائق ومستقبل مشرق. فغياب السكن المريح والمدارس المنضبطة يجعل حياة الفقراء عشوائية. وهم يحملون بصمات المكان الذي يعيشون فيه، ويصعب على أبنائهم المنافسة في الدراسة والعمل المتخصص. لذا يكتفي أبناء الفقراء الذين لا يملكون تكوينا للعمل بعضلاتهم، ويكون دخلهم جد منخفض فيكررون نمط عيش آبائهم.

وهناك عنف منظم تقوم به الدولة ضد مخالفي القانون. عنف بدني أو مالي أو حقوقي. وحسب القانون الدولي، تحتكر الدولة ممارسة العنف الشرعي. وقد تمارس العنف السياسي ضد المعارضة، رغم أن “المعارضة ليست عداوة، وإنما يساء استعمالها وتجعل فرصة للعداوة”، فتصنيف الآخر كعدو يبرر الاعتداء عليه بحجة حماية النفس.

وهذا يطرح سؤالا عن شرعية العنف ووظيفته في المجتمع حديثه وقديمه.

فعلى مستوى الوظيفة، يقول ميشيل فوكو إن العنف يساعد على “إنتاج أجساد خانعة”، أي مطيعة. وعادة تتم معاقبة الجسد لإصلاح الروح. يوافق الكثيرون على هذا في السّر أو العلن، يقول المثل: “العصا لمن عصى”. وتقول الكاتبة: “تضمن المعتقدات المشتركة لمجتمع ما استقرار المؤسسات وتماسكها، التي تخدم الحاجات الاجتماعية لذلك المجتمع واستمراره”. من هنا فالعنف حاجة اجتماعية، فالجلاد يضمن الاستقرار. قد يبدو ذلك صادما، لكن هذا ما يجري على أرض الواقع. ومن وظائف العنف تسوية الخلافات بدنيا. فالعنف أداة لحل الصراعات. في حالات كثيرة يتم إيجاد كبش فداء أي شبيه الضحية لمعاقبته، وبالتالي الحد من تصاعد العنف. وقد علق سيغموند فرويد على ذلك بأنه حيلة تجعل العنف ضروريا بهدف تحاشي عنف أكبر في المستقبل. بسبب هذه التبريرات تعرض التحليل النفسي للهجوم. تقول الكاتبة: ادعى بعض النقاد أن الطب النفسي أصبح قوة سياسية عبر إخفائه الصراع الاجتماعي بوصفه “مرضا”، وتبريره الإكراه بوصفه “معالجة”. لكن الصحيح أن الإكراه لم يخترعه فرويد، فهو قديم قدم البشرية، منذ قتل قابيل هابيل. لذلك فكلام فرويد مدعوم بالأدلة التي لا حصر لها عن السلوك العنيف للبشر. ويمكن لقارئ هذا النص أن يلاحظ ذلك بسهولة.

في فصل فرويد والدافع العدواني يعتبر المحلل النفسي النمساوي أن الرغبة حتمية. وتقع الرغبات في مجال المحظورات. ويؤكد أن الشر ينبع من عنف الرغبة والأهواء. ويضيف أن الناس لا يحبون أن يسمعوا أن لديهم “نزعة فطرية للشر” (ص 128). تنكر النزعة المثالية هذا الوصف وتعتبر أن البشر خير بطبعه، لكن الإنسان كان دائما ظلوما جهولا.

تتملك الإنسان مشاعر إحباط وعدوانية مدمرة يحتاج للتنفيس عنها فتوفر له اللغة متنفسا. إن اللغة تعبير عن الكبح الذاتي، فهي تجعل العنف عقلانيا. وهي وسيط بين البشر وبين التجربة والتعبير. وحتى حين تكون اللغة استفزازية فهي مجرد كلام. فالرد على الآخر باللغة “نبذ صامت للعنف”، أي أن الكلام أقل خسارة من الرد باليد أو المدفع. لذا يقال إن الحرب أولها كلام. والهدف من الكبح هو تجنب العنف. وتحمي الحضارة الفرد من عدوانيته، تكبحه بالأوامر الأخلاقية وضبط النفس والرقابة والعقاب. ولولا هذا الكبح لما وجد الكيان الاجتماعي. إذن يستحق هذا الهدف ممارسة العنف. والعنف معدٍ، فما إن يندلع حتى يملك مقدرة كبيرة على الانتشار.

تقارن الكاتبة بين العنف الفطري والعنف المكتسب.

لدى الحيوانات يعتمد العنف على البيولوجيا، أي على الطاقة الجسدية للحيوان. بينما الإنسان اخترع الأسلحة لكي لا يعتمد على جسده. إذ يمكن لرجل ضعيف يملك بندقية أن يصفي أقوى ملاكم. هنا تتحدث الكاتبة عن “فعالية العنف المنظم” (ص 60) للحصول على النصر ويتم التحضير له بالتأكيد على أن ممارسيه يثبتون رجولتهم، وهنا يصبح العنف سلوكا إيجابيا. وبالتالي تنبع القوة العدوانية من العمل الجماعي المنظم المقبول. وبفضل هذا القبول الجماعي الشعبي تبنى عقيدة الجيوش لتقاتل بشراسة، لتكسب الحروب بفضل الشجاعة في سبيل هدف يقدسه الشعب. هنا يصير القتال فضيلة يجلب غنائم.

واضح أن موقع النظر إلى العنف يغيّر قيمته. وهنا يتضح أن لوجهة النظر دور كبير. فمن يعتبر العنف ضروريا لا يعتبر صفع امرأة أو طفل مشكلة. هكذا يحقق العنف أهدافا كثيرة لمرتكبيه القادرين عليه.

ومن هنا تنبع شرعية العنف. فالتبرير الأخلاقي يجعل العنف سوكا مقبولا اجتماعيا. وهو بذلك يحمّل الضحية مسؤولية إيذائها مثل قتل النساء دفاعا عن الشرف. ويجعل هذا التبرير الكبح الجماعي ضروريا، خاصة في حق النساء اللواتي يتم ضربهن “ليسْتقمن”. بينما ينظر إلى قاتل شقيقته بتعاطف لأنه حمى شرف العائلة. هنا يصير الشرف أهم من الحياة نفسها. حين تحمّل المرأة مسؤولية العنف الذي تتعرض له فإن ذلك يدفع النساء إلى ملاءمة سلوكهن لكي لا يكون استفزازيا، أي أن يتصرفن كما يُتوقع منهن. وهذا سلوك نفسي منك لهن ولكل من يمارسه لإرضاء الغير باستمرار. ومع الزمن يزرع العنف ثمرة الخوف في القلوب وتنمو لتصير شجرة، ونادرا ما تُجثت. ومن باب نبذ العنف يتم التعاطف مع الضحية، ففي الثقافة ينظر إلى الإنسان المصدوم باعتباره بطلا. لكن هذا مجرد كلام، فالناس يعطفون على الضحايا، لكن هذا العطف الشفوي من ينفع الضحايا.

العنف السردي ضد تاريخ الآخرين

تتناول الكاتبة ممارسة العنف ضد تواريخ الآخرين، وتقدم كمثال حكاية رافقت نزول كريستوف كولومبوس في أمريكا. فحين رآه أحد الهنود الحمر قال لمرافقيه: “هاكم الجيران”، أي رحب بالغزاة. ومن يصدق هذا سيتجاهل إبادة الملايين من سكان قارة أمريكا من طرف الغزاة الأوروبيين الذين سموا المنطقة بالعالم الجديد وكأن القارة ولدت بوصولهم إليها. آخر مثال وهذا لم تذكره الكاتبة الكندية لممارسة العنف على الواقع لتطويعه هو حكاية استقبال العراقيين للاحتلال الأمريكي بالورد. وهذه الحكاية من طينة سابقتها.

إن الغاية من الحكاية هي تقديم مثال عن التاريخ كما يكتبه المنتصرون. فهم يحرصون على إزالة الاختلاف وطمس التناقضات لتقديم صورة جديدة عما جرى. وهذا مفيد لنفسية المنتصرين. يبدد تأنيب الضمير، ويبني تصور الغربي لنفسه كممثل للذات البطلة والفردانية المحصنة، ويرمي الآخرين بنقيض ذلك (وهذا ما كشفه إدوارد سعيد في كتابيه “الاستشراق” و”الثقافة والأمبريالية”، وفيهما انتقد المركزية الغربية).

المثال الثاني للعنف الرمزي ضد الآخر هو المعجم الذكوري في وصف المرأة. فهذا المعجم صاغه الرجال الذين كتبوا تاريخ النساء من وجهة نظرهم. كل الحكايات عن غدر النساء ولؤمهن وخوفهن ألفها رجال. وهذا تاريخ يحط من قدر المرأة. فيه معجم فاحش. ينسب للمرأة العاطفية والغريزة ويخص الرجل بالعقل. تستخلص الكاتبة أنه يتم تصوير النساء والأطفال كأشخاص لا يستحقون الاحترام. وعندما تستبطن النساء هذا الموقف تجاههن، وعندما يصدقن ما يقال عنهن ينتيهن إلى كره ذواتهن. يرددن “يا ليتني لم أكن أنثى”.

التكنولوجيا والتفاعل والإدمان

توفر التكنولوجيا تفاعلا غير مسبوق للبشر. إنها تمكن الإنسان من أن يتواصل ويتمدد ويستمر. وهي توفر له حضورا افتراضيا مع الذين يتواصل ويتفاعل معهم. على مواقع الشبكة العنكبوتية يبدأ العنف حين ينتحل الفرد شخصية أخرى، يصير له اسم مستعار ويعتبر أنه معفى من تبعات ما يقول ويفعل. ويصير التواصل الإلكتروني الدائم وغير المكلف هوسا بالنسبة له. هذا التواصل افتراضي يحاكي التواصل البدني. ومع الزمن يصير الفرد مدمنا. وهذا عنف من نوع آخر، يؤدي إلى عزلة الفرد الذي يتوهم أنه يتواصل.

وهذا التواصل مؤثر في البشر رغم أنه غير مباشر. وهو تواصل يتم عبر الصورة أساسا. وتشكل الصورة وعينا. ولهذا تبعات. فمثلا تؤدي مشاهدة التلفزيون إلى نقص تلقي الانتباه وعدم التركيز لأن النصف الأيسر من الدماغ الذي يعالج المعلومات بشكل منطقي وتحليلي يتوقف عن الاستماع ليسمح للجانب الأيمن، الذي يعالج المعلومات عاطفيا ودون نقد، أن يعمل بدون عائق. التلفزيون يعطل الحس النقدي. ويقود ذلك الأطفال خاصة حين يشاهدون العنف على التلفزيون إلى قبول ما شاهدوه كنوع من الدليل على سلوكاتهم الخاصة. هكذا يحصل تطبيع مع العنف، يصير شيئا عاديا. ومع الزمن ينمحي الفارق بين الافتراضي والواقعي في حياة المشاهد. يمكنه ممارسة ما رأى. وقد قتل طفل شقيقته مقلدا مشاهد فيديو يعود فيه القتيل للحياة. في الواقع هذه العودة غير مضمونة.

مع كل هذا العنف تصل المؤلفة إلى نتيجة: صارت البرية أكثر أمانا من المدينة.

تستنتج الكاتبة أن التصنيف غير الملائم يخفض قيمة العنف المرتكب بحق الضحية. وبالتالي ليس للضحية حق شرعي في طلب العدالة، فضربها عدل في حد ذاته.

هنا يصبح العنف المدان مبررا، وهذا ما يزيد من الخسائر. فالعنف حسب الكاتبة “يقوض تواصل الحياة”، وهو يمزق الهوية الشخصية. شخصيا أرى أن العنف يدمر من يمارسه ومن يتعرض له. وأقترح لمن يريد التأكد من ذلك مشاهدة فيلم The Experiment للوقوف على نتائج التجربة التي نتجت عن بحث جامعي. فالعنف دمّر السجين والجلاد أيضا. وقد أدى الممثل الأمريكي الكبير فوريست وايتيكر الدور بعبقرية.

المصدر: هسبريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *