اخبار السودان

مقال مؤلم بحق، هل حقاً مات السودان بدون أن ينعيه أحد؟

مقال مؤلم بحق، هل حقاً مات السودان بدون أن ينعيه أحد؟

بسم الله الرحمن الرحيم

الحرب المنسية:

مليشيا إبادة جماعية تنتصر في  حرب السودان.

قوات الدعم السريع تكسب المزيد من الأراضي.

الإكونومِست 16 نوفمبر 2023

ترجمة: عبد الرحمن الغالي

أولى العالم المشتت الذهن اهتماماً قليلاً للسودان، البلد الثالث إفريقياً من حيث المساحة، منذ اندلاع الحرب فيه في أبريل. يركز الغرب على هجوم أوكرانيا المضاد ومناورات الصين الحربية وعلى حرب غزة . وأظهر القادة الأفارقة المشغولون بمشاكلهم الداخلية استعجالاً  يشبه (في بطئه) استعجال جمل يقطع الصحراء.

وصارت عواقب الإهمال أكثر وضوحاً، فالنزاع بين الرفقاء السابقين: قوات الدعم السريع شبه النظامية والقوات المسلحة السودانية، الجيش النظامي، يدمر الدولة التي استوليا عليها في 2021 في انقلاب هَدَفَ لمنع الانتقال لحكومة ديمقراطية.

يتوقع صندوق النقد الدولي أن ينكمش اقتصاد السودان بما يقارب الخمس هذا العام.

تُعمّق الحربُ التنافس الجيوسياسي في شمال شرق افريقيا والخليج الفارسي. بالسودان أكبر عدد من النازحين في العالم فقد نزح ما يقارب 6,3 مليون منذ أبريل فقط، هذا بالاضافة ل 3,7 مليون سوداني تركوا منازلهم في النزاعات السابقة قبل الحرب الحالية، و 1,1 مليون لاجئ أجنبي لجأوا للسودان.

هرب حوالا 1,4 مليون سوداني لدول الجوار منذ بداية الحرب، وتقول وكالات العون الانساني إن أكثر من ستة ملايين على بعد خطوة واحدة من المجاعة.

وبعد عقدين من التطهير العرقي في دارفور ( وهو إقليم في غرب البلاد تبلغ مساحته ضعف مساحة بريطانيا) ظهرت دلائل ذات مصداقية على إبادة جماعية ارتكبتها قوات الدعم السريع التي تحورت من مليشيا الجنجويد التي ذبحت الأفارقة السود في العقد الأول من الألفية.

ويمكن أن تسوء الأمور أكثر في القريب العاجل. ففي الأسابيع الأخيرة حققت قوات الدعم السريع عدة انتصارات كبيرة. ويرى المحللون العسكريون أن قوات الدعم السريع ستحاول الاستيلاء على بقية البلاد، ويخشى مراقبو النزاع من وقوع المزيد من العنف والاباداة الجماعية، وبالنسبة لهؤلاء المهتمين فإن المخاطر ستزداد باستمرار.

عندما اندلعت الحرب توقع الكثيرون أن تصل لطريق مسدود ( عدم تحقيق طرف لنصر عسكري)، ومع ذلك فإن قوات الدعم السريع تكسب اليوم.

في أغسطس وفي إشارة لتشديد قوات الدعم السريع قبضتها على الخرطوم فرّ الجنرال عبد الفتاح البرهان قائد القوات المسلحة السودانية من رئاسة قيادة الجيش في الخرطوم.

قالت انتصار عبد الصادق من منظمة (البحث عن قواسم مشتركة) وهي منظمة دولية غير حكومية يقع مقرها في واشنطن وبروكسل، قالت: (لم تعد الخرطوم عاصمة البلاد).. (هناك قتال كثيف داخل المدينة). وهناك تقارير أن قوات الدعم السريع قريبة من الاستيلاء على مواقع الجيش المتبقية في العاصمة. ورغم أن القوات المسلحة السودانية تسيطر على معظم الأراضي الزراعية في الشرق وعلى ميناء تصدير النفط في بورتسودان على البحر الأحمر، إلا أن قوات الدعم السريع تمتلك مناجم الذهب في الغرب وتسيطر على الحدود مع تشاد وجمهورية افريقيا الوسطى. وهي تبسط سيطرتها على أنابيب النفط القادمة من جنوب السودان والتي تعتمد حكومة السودان عليها في تحصيل رسوم العبور.

وفي الأسابيع الأخيرة شوهدت قوات الدعم السريع في ولايات النيل الأبيض والجزيرة وهي معاقل تاريخية للجيش السوداني ( انظر الخريطة المرفقة لمناطق سيطرة الأطراف).

وكانت مكاسب قوات الدعم السريع الأكثر دراماتيكية في دارفور، فمنذ انتهاء موسم الأمطار قبل حوالي الشهر سيطرت على ثلاث مدن من مدن الإقليم الخمس الرئيسية. استولت قوات الدعم السريع على القواعد العسكرية الرئيسية أو أخلاها جنود القوات المسلحة السودانية.

وفي أكتوبر استولى الدعم السريع على نيالا ثاني أكبر مدينة في السودان وتعتبر نقطة تجميع للأسلحة من جمهورية افريقيا الوسطى. انهارت دفاعات القوات المسلحة السودانية بعد معركة ضارية مع قوة يقودها عبد الرحيم حمدان دقلو أخ ونائب قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو ( المعروف باسم حميدتي)، وأعقبتها ثلاثة أيام من النهب.

يقول صلاح الدين ليموني وهو محامي في نيالا أن معظم أنحاء المدينة قد تعرض للخراب ويعاني السكان من انعدام الكهرباء كما تعطلت إمدادات المياه. وفي أوائل نوفمبر أسفر هجوم جديد للدعم السريع عن سقوط حامية مدينة أردماتا والتي تبعد حوالي 10 كلم شمال الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور. وكانت اشتباكات سابقة في الحرب قد أجبرت القوات المسلحة السودانية على التراجع لقاعدتها ثم أعقبتها الهجمات التي شنتها المُسيّرات المسلحة الجديدة لقوات الدعم السريع  والتي أعاقت عمل المدفعية الثقيلة للجيش.

القتل الجماعي:

هذه ليشت المرة الأولى، ففي الأيام التالية نفذت قوات الدعم السريع والمليشيات العربية المتحالفة معها حملة تقتيل ضد شعب المساليت المحلي، وهم مجموعة إثنية افريقية سوداء. تم فصل الرجال عن النساء وربطهم واطلاق النار عليهم. تم القبض على زعماء القبيلة أو اغتيالهم. وتُظهر مقاطع الفيديو شباناً يزحفون على أربعة ( أيديهم وأرجلهم) بينما يضربهم الجنود أو يجلدونهم. وتُظهر بعض المقاطع جثثاً مشتتة في الشوارع.

يقدر مسؤولو الأمم المتحدة عدد القتلى ب 800 على الأقل ويقدر المراقبون المحليون الضحايا بألف وثلاثمائة ( 1300 ).

وتأتي هذه الهجمات في أعقاب مذابح ممنهجة سابقة في الجنينة بلغت ذروتها في يونيو وتزامنت مع هجرة جماعية للاجئين إلى تشاد. وتحقق الأمم المتحدة في أكثر من اثنتي عشرة مقبرة جماعية، وتنفي قوات الدعم السريع أية مشاركة في الهجمات على المدنيين وقالت أنها تقف بشدة ضد أية انتهاكات أو تجاوزات ضد أي شخص.

تقول زكية زكريا الصافي وهي صحفية محلية إن القوات شبه العسكرية توجهت لأردماتا بعد سقوط حامية الجيش ومنعت رجال المساليت من المغادرة وبحثت عن أشخاص بالإسم لقتلهم. وتقول إنها قد شاهدت 25 مدنياً قد صُفّوا في صف ثم قتلوا.

ويقول حافظ إدريس وهو محامي في أردماتا إن قوات الدعم السريع كانت تدفن ليلاً الجثث المبعثرة في الشارع. ويقول ناثانيل ريموند مراقب النزاعات في جامعة ييل: (هناك أكوام من الجثث يمكن رؤيتها من الفضاء الخارجي).

قوات الدعم السريع على أبواب الفاشر عاصمة شمال دارفور. وبعض قواتها في الجانب الشمالي ترعب السكان المحليين وتنهب المنازل، وفي نفس الوقت فإن قوات أكبر بكثير تقترب من الجنوب. ويحذّر نمر محمد عبد الرحمن والي الولاية قائلاً ( إنهم يحشدون).

وفي هذه الأثناء تتحصن القوات المسلحة السودانية في الثكنات. بدأت إمدادات المياه والغذاء والدواء في النفاد ويحاول السكان المذعورون الفرار. وإذا استولى السيد ( دقلو) على الفاشر فيمكنه إدعاء السيطرة على كل دارفور وتأمين طريق حيوي لإمدادات الوقود والاسلحة من ليبيا. ويضيف دبلوماسي غربي ( إنها مسألة وقت قبل أن تنتهي الأمور).

إن وجود عشرات إن لم يكن مئات الآلاف من المدنيين النازحين من أجزاء دارفور الأخرى بالإضافة لمليشيات مدججة بالسلاح من الزغاوة وهي مجموعة عرقية افريقية أخرى، يزيد من احتمالية وقوع كارثة في الفاشر.ويحذر توبي هاوارد من الأمم المتحدة قائلاً: ( إذا وقع قتال فمن المرجح أن يكون دموياً جداً جداً وسيعرض المدنيين لخطر جسيم). ويقول أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي إن هجوم قوات الدعم السريع سيعرض مئات الآلاف “لخطر بالغ”.

الموت على النيل:

يعكس تقدم قوات الدعم السريع إلى حد كبير الدعم غير المتكافيء الذي قدمته الأطراف الخارجية للجانبين. تفيد التقارير أن دولة الإمارات العربية المتحدة تمد قوات الدعم السريع بالأسلحة والمركبات المدرعة والمُسيّرات عبر تشاد على الرغم من وجود حظر سلاح من الأمم المتحدة على دارفور منذ العقد الأول في هذا القرن.

وبحسب إحدى الاحصائيات فقد تم تنفيذ 168 عملية نقل جوي من الإمارات في الفترة من مايو إلى سبتمبر. ( نفت الإمارات إرسال أسلحة لأي من الأطراف المتقاتلة). وكما ورد في التقارير فقد ساعدت الصواريخ المضادة للطائرات التي تزود بها مجموعة فاغنر ( وهي مجموعة مرتزقة روسية ) قوات الدعم السريع على تقليص ميزة تفوق الجيش بالقوة الجوية.

وبالرغم من أن مصر قد ساعدت في مرات متفرقة صديقها النظام العسكري وكما ساعدت مؤخراً كما تقول المصادر بقصف كبري تستخدمه قوات الدعم السريع في الخرطوم لكن مصر فعلت أقل بكثير مما يفعل الإماراتيون. فحكومتها مشغولة بالأزمة الاقتصادية في الداخل والتي تطلب عون الإمارات في علاجها، وكذلك مشغولة بالحرب في غزة في شمالها.

ماذا يمكن أن يحدث بعد؟

يخشى بعض المحللين السيناريو الليبي حيث ينقسم البلد لجزئين كل جزء على جانب من النيل، ولكن قد لا يقبل حميدتي بدارفور الحبيسة ( دون منفذ على الساحل) وبالعاصمة المنكوبة. وإذا استولت قوات الدعم السريع على الخرطوم فقد تكون محطتها التالية بورتسودان على البحر الأحمر وهي موقع مفتاحي لقوات الدعم السريع وداعميها الإماراتيين. ( لا يمكن لقوات الدعم السريع أن تعلن الانتصار بدون منفذ على البحر ) تقول خلود خيري من مركز (Confluence Advisory مركز الملتقى الاستشاري وهو مركز بحوث سوداني).

وحتى لو أحرزت قوات الدعم السريع المزيد من التقدم فمن غير المرجح أن تبسط سيطرتها على كل البلاد، فسيبقى عدد كبير جداً من المجموعات المتمردة الصغيرة. لن يتبخر الجيش السوداني وقد يصبح داعمو الجيش المترددون حتى الآن أكثر صرامة إذا اقترب الجيش من خسارة عاصمة الأمر الواقع على البحر الأحمر. كما أن رجال المليشيا ليسوا إداريين جيدين. وتقول الآنسة خلود خيري ( ليس لديهم استراتيجية حاكمة، يمكنهم أن يتحكّموا لا أن يحكموا).

ستكون للفوضى بصورة أو أخرى عواقب وخيمة، ويصف دبلوماسي أوربي سيناريو يمزق فيه تنافسٌ إقليميٌ أعرض (من الخليج للقرن الافريقي)  السودانَ المحطم أصلاً. فعلى جانب هناك كتلة تدعمها الإمارات العربية من المحتمل أن تضم آبي أحمد رئيس وزراء اثيوبيا وقوات الدعم السريع السودانية وأجزاء من تشاد والصومال، وعلى الجانب الآخر هناك معسكر تدعمه السعودية ويضم الجيش السوداني وجيبوتي واريتريا ومصر.

ويتخيل كاميرون هدسون المسؤول الأمريكي السابق سيناريو يفر فيه عشرات الملايين من السودانيين عبر القارة والبحر الأحمر هرباً من انزلاق البلاد إلى هاوية أمراء الحرب  وعنف المليشيات العرقية. كما يمكن للمناطق السودانية غير الخاضعة لحكومة أن تجذب إليها الجهاديين الذين يقاتلون الآن في منطقة الساحل والمرتزقة الروس الحريصين على منح الكرملين موطئ قدم طال انتظاره في بورتسودان. ( ذكرت شبكة سي إن إن أن قوات أوكرانية خاصة ربما نفذت مهام ضد قوات الدعم السريع رداً على النشاط الروسي في السودان ). ويقول هدسون ( بينما استحوذت النزاعات الجارية الآن في غزة وأوكرانيا على اهتمام العالم فإن تأثير التداعيات الجيوسياسية لانهيار السودان يتم التقليل منه بشكل مؤسف).

بدأت الجهود الدولية في محاولة لوقف الحرب، وفي الشهر الماضي استأنفت السعودية العربية إلى جانب أمريكا المحادثات في جدة بين ممثلي قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية. على الورق، هناك اتفاق على تحسين وصول العاملين في المجال الإنساني ولكن لا يمكن رؤية فرق على أرض الواقع.

كان القتال محتدماً في دارفور بينما كان كبار المتحاربين يتحادثون في جدة. ولا يرى الدعم السريع ومساندوه منطقاً في هدنة في حرب هو منتصر فيها بحسب حديث خاص لمسؤولين إماراتيين. بينما تصر القوات المسلحة السودانية على نزع سلاح عدوها والانسحاب إلى قواعده. ويقول دبلوماسي أوربي آخر: ( هناك تناقض صارخ بين ضعف الموقف العسكري للجيش وموقف الحد الأعلى التفاوضي المضحك).

ليس هناك أي خبير يعتقد سهولة التوصل لاتفاق يناسب متقاتلين كذابين ذاتيين ومصلحيين مثل هؤلاء، دعك من اتفاق يضع في اعتباره الضحايا المدنيين لجشع الجنرالات.

ومع ذلك فإن رد الفعل الدولي ما زال هزيلاً وارتجالياً كما يقول السيد هدسون. مجلس الأمن للأمم المتحدة مشلول وقيادة المنظمة تظهر اهتماماً بالسودان أقل بكثير مما تبديه في غزة.

انسحبت بعثة الاتحاد الافريقي والأمم المتحدة المشتركة في دارفور في عام 2021 باعتقاد عدم الحاجة للخوذات الزرقاء هناك. التزم الاتحاد الافريقي وقادة القارة الصمت في وجه الفظائع التي تعهدوا في يوم ما بوقفها. منظمة الايقاد الاقليمية كانت ضعيفة على الرغم من حرص الرئيس الكيني  وليم روتو على استئناف جهوده، فقد التقى البرهان في نيروبي في 13 نوفمبر.

لا تشارك الامارات ومصر في محادثات جدة. يزعم المسؤولون الغربيون أنهم لم يهملوا النزاع مشيرين إلى أن العالم الآن أكثر تعقيداً مما كان عليه في مطلع القرن الحالي حينما كان بإمكان أمريكا بسهولة قيادة ردود أفعال دولية مثلما حدث في دارفور ومثلما حدث في الاقليم الذي صار فيما بعد جنوب السودان. ومع ذلك، فمن الصعب إثبات أن السودان قد اجتذب القدر الكافي من الاستجابة لحراجة الموقف ولا ابتكار الحلول.

تبنى البيت الأبيض في الواقع سياسة ( لا تزعجونا) كما قال الباحث البريطاني أليكس دي وال. لن يكون السودان على رأس أجندة أمريكا في نقاشاتها مع الإمارات العربية المتحدة أو العربية السعودية، خاصة منذ أن انطلقت حماس من غزة في السابع من أكتوبر.

جذبت الحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط الاهتمام العالمي بينما تمر الآثار القاتمة لانهيار دولة ضخمة في افريقيا مرور الكرام تقريباً. يقول السيد رايموند (مات السودان دون ينعيه أحد).

ملحوظة: ظهر هذا المقال في قسم الشرق الأوسط وأفريقيا من النسخة المطبوعة تحت عنوان (الحرب المنسية).

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *