الشريعة وتحقيق السماحة في تصرفات المكلّفين
لقد عرف العلماء السماحة بتعاريف عديدة، نستخلص منها أن السماحة هي وصف إذا ما أنيط بتصرّف، يحمله على التوسط والاعتدال، ويقيه من الانحراف إلى جهتي الشدّة والتساهل. والذي نفهمه من هذا التعريف أن السماحة هي وضعية الاعتدال والتوسط، التي إذا ما تمكن الإنسان منها، تصبغ عليه صورة تحول بينه وبين ما يضاد هذه المرتبة، وهما طرفا الإفراط والتفريط اللذين ينتهي كل واحد منهما بمفسدة، ويفضيان إلى انخرام الكمال المطلوب في العلم والعمل.
والذي تجدر الإشارة إليه، هنا، ما نبّه إليه ولي الله الدهلوي، من أن السماحة تتخذ لها ألقابا متعدّدة حسب الموضع الذي توجد فيه، فالسماحة إذا اعتبرت بداعية شهوتي البطن والفرج سمّيت عفّة، أو بداعية الدعة والرفاهية سمّيت اجتهادا، وإذا كانت بداعية الضجر والجزع أطلق عليها لقب الصبر، وإذا كانت بداعية حب الانتقام سمّيت عفوا، أو بداعية حب المال سمّيت سخاوة وقناعة، أو بداعية مخالفة الشرع سمّيت تقوى، ويجمعها كلها شيء واحد، هو أن أصلها عدم انقياد النفس للهواجس البهيمية.
ولقد حرصت الشريعة الغرّاء منذ البداية على تحلية المكلفين بأوصاف السماحة واليسر، بصفتها أكمل الأوصاف لاطمئنان النفوس، وأعون على قبولها الهدى والإرشاد، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم أول من خوطب بهذا الأمر، قال تعالى: {فبِما رحمة من الله لِنْتَ لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين} آل عمران:١٥٩. وانطلاقا من هذا، عمل الرسول صلى الله عليه وسلم على تربية أصحابه وأمته على هذه الأوصاف، وغرسها في نفوسهم، وذلك من خلال وقائع ونصوص مختلفة، فهذا الأقرع بن حابس ينهاه الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأسئلة التي تترتب عليها أحكام تفضي إلى التشديد والمشقة على الأمة، وذلك عندما سأله عن الحج، أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال: “لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم، ذروني ما تركتكم عليه، فإنما هلك من كان قبلكم، كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم”. ويؤكد هذا النص ويعضده في موقعة الخاص، ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم بصيغة العموم “إن الله فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحدّ حدودا فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها”.
ومن تمام حرصه صلى الله عليه وسلم ورعايته لإقامة وصف السماحة واليسر في الأمة، فقد عدّ من كان السبب في تحريم أمر على الأمة لم يحرم عليها إلا بسبب مسألته مجرما فقال: “أعظم المسلمين في المسلمين جرما، من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين، فحرّم عليهم من أجل مسألته”، وعلّق النووي على الحديث فقال: “ربما كان لتحريم شيء على المسلمين فتلحقهم المشقة”، والذي يجب فهمه من هذا الحديث، عدم القصد إلى منع السؤال مطلقا، لأن ذلك مؤداه إلى المشقة والحرج اللذين جاء الحديث لرفعهما، وإنما ورد المنع عن السؤال تكلفا وفيما لا تدعو حاجة إليه، قال الخطابي: “وهذا الحديث فيمن سأل تكلفا أو تعنتا. فيما لا حاجة به إليه، فأما من سأل لضرورة بأن وقعت له مسألة فسأل عنها، فلا إثم عليه”.
وفي مقابل هذا، أثنى صلى الله عليه وسلم على الرجل يتحلى بالسماحة واليسر في جميع معاملاته وتصرفاته، سواء كان ذلك مع نفسه أو مع غيره، فقال: “رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى”، ويرى ابن حجر أن المقصود بالمسامحة في هذا الحديث “ترك المضاجرة ونحوها لا المكايسة في ذلك، وفي الجملة هي المساهلة في التعامل”.
وعلّق ولي الله الدهلوي على هذا الحديث قائلا: “السماحة من أصول الأخلاق التي تتهذب بها النفس، وتتخلص بها عن إحاطة الخطيئة، وأيضا فيها نظام المدينة، وعليها بناء التعاون، وكانت المعاملة بالبيع والشراء والاقتضاء مظنّة لضد السماحة، فسجل النبي صلى الله عليه وسلم على استحبابها”. وفي الجملة، كان صلى الله عليه وسلم يرهّب من التشديد والعنت في الدين، ويرغب في اليسر والسماحة، فقال: “إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة وخير دينكم اليسرة”.
إن هذه الأوصاف التي سعى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى غرسها في أصحابه وأمّته، كانت سلوكا طبيعيا في شخصه صلى الله عليه وسلم، يسري في جميع تصرّفاته الخاصة والعامة، وهذا ما نلمسه من قول عائشة رضي الله عنها: “ما خيّر صلى الله عليه وسلم بين شيئين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما”.
ومن هذا السلوك السامي كانت تنبع وصاياه لأصحابه ورسله إلى الأمم الأخرى، فقد جاء في قوله لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري، عندما بعثهما إلى اليمن: “يسّرا ولا تعسّرا، وبشّرا ولا تنفّرا، تطاوعا ولا تختلفا”، وقد قال صلى الله عليه وسلم في واقعة الأعرابي الذي بال في المسجد: “إنما بعثتم ميسّرين ولم تبعثوا معسّرين”.
*رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر