النور عثمان: كأبنوسة مياسة من الجوغانة الزرقا
عبد الله علي إبراهيم
(أعيد نشر هذه الكلمة عن زميلنا الشاعر المعلم المرحوم النور عثمان أبكر في مناسبة صدور أعماله الشعرية الكاملة تحرير كمال الجزولي وعالم عباس عن معهد أفريقيا بالشارقة)
جاء النور عثمان أبكر إلى جماعة الكتاب والفنانين التقدميين (أبادماك) في كبرها. كان ذلك نحو أواخر 1970 أو اوائل 1971 بعد عودته من بعثة بمدينة ليدز بإنجلترا. وكانت بعثه من تلك البعثات المعلومة لمدرسي اللغة الإنجليزية بالمدارس الثانوية ضربة لا زب. لم يأتنا النور في وقت شبيبتنا حين كنا في “يوم المهرجان” كما غنى الكاشف. وأعني به برامجنا التي نفذناها في 1969 وأوائل السبعينات. ووفرت لنا “الحكومة التقدمية” لنظام نميري فضاءات للحركة. فعقدنا مدينة الثقافة بالمقرن. ومن مواردها مولنا قافلتنا الثقافية لقرى الجزيرة. وانشغلنا من تلك القري بقرية برتبيل. فأقام بين أهلها نفر منا دربوهم في فنون المسرح والرسم.
جاءنا النور وقد بدأنا نواجه ردة النظام التقدمي عن حرية التعبير للثوريين على الأقل. فقد احتججنا على تأميم الصحف بطريقتنا. ثم استنكرنا قيام المجلس الأعلى للفنون والآداب على سنة مصر الذي جعل الدولة منتجاً للفنون لا راعية لها. ثم احتججنا على اعتقال الاستاذ عبد الخالق محجوب ونفيه إلى مصر. وظللنا نحتج فنحتج حتى كتبنا في دفتر الحكومة متمردين لحوحين.
جاءنا النور طويلاً كالرمح. كابنوسة مياسة من الجوغانة الزرقاء. أدهشني بحضوره بينا هكذا في تلك الأيام المدلهمة التي جفانا فيها حتى عتاة الصحاب سأماً من قحاحتنا السياسية، أو انقساماً من مترتبات الشقاق العظيم في الحزب الشيوعي. واستغربت لوفود النور إلينا بالذات. فقد عاصرته في جامعة الخرطوم. كنا في طابق الصف الشمالي الأول من داخلية النيل الأبيض أي كلية القانون الحالية. كان في ركن الصف الجنوبي وكنت على بعد غرف منه قليلة. وأظنه سكن مع المشلخ سلم الأصفراني ممن ضاع علي أسمه.
كان وجودياً سافراً نلقاه في رابطة أدباء الجامعة لماما. ثم هو رياضي تزود لصنوفها المختلفة بحراب ومحجان وشباك وكور مختلف ألوانها أكاد أراها بعين الخيال متكئة على الحائط الغربي للغرفة حيث سريره. وانطبع عندي أنا “كلب حر” الشيوعيين والجبهة الديمقراطية وما شئت بأنه نبت “براجوازي” في الظل حتى علمت أنه ابن سواق ما من جملة الناس.
جاءنا ثم صار واحد منا في سكرتارية أبادماك. وهي سكرتارية في حالة انعقاد يومي وليلي أيضاً. كنا في قول خليل فرح “الزملا النجاب”. كان أنيساً جداً. وجاءنا وبه “لجَنة” يلثغ بها في براءته الجذرية. لم يكن ليتحسب الأشياء مثلنا نحن الذين دبغتنا الشيوعية بفراكشناتها واجتماعات سلخ الناموس. كان لا يري صعباً في الذي نستصعبه. وكان يري مطلبنا بالحق بداهة تستقيم نحوها خطوطه بينما تتعرج خطوطنا. ولا أدري حتى اليوم كيف أمن النور للشيوعيين ورفاق طريقهم هكذا. لربما أعدته ثورة الستينات الأوربية فأخرجته من مجرد الإبداع إلى تأمين شروطه من مثل كفالة حرية التعبير وكرامة المبدع وبلوغ الناس بالإبداع.
يقيم كثير من النقاد ممن التقيت بهم حاجزاً بين الغابة والصحراء، والنور فارس مغوار مؤسس من فرسانها، وبين أبادماك. ويقرأ بعضهم من موقفي من الهوية السودانية الموصوف ب”العروبي” على أيامنا هذه تناقضاً بين الغابيين الصحراويين الأفروعروبيين وأبادماك. ولعل في رحلة النور من الغابة والصحراء إلى أبادماك ما يفكك اللغز. فكلنا في ذلك الجيل كنا غابة وصحراء نظراً لمعطيات ثقافية لا يتسع لها المقام هنا. بل كان يمكن لتجمعنا أن يسمى ب “سنار” كما اقترح أحدهم في اجتماعنا الأول لولا استظرافنا لاسم “أبادماك” بحيثيات أضحت معروفة.
فلم يكن شغل أبادماك عقيدة إبداعية. ولو كان كذلك لربما أهمله النور. ولكننا اشتغلنا بحرية الإبداع. نشأنا باكراً في شتاء 1968 في سياق التعبئة لنصرة هذه الحرية ضد تعدي الاتجاه الإسلامي على حفل العجكو المعروف. وكان من بين المحتجين ود المكي الغابي الصحراوي. وكان عبد الحي وقتها في غيبة أكاديمية بلندن. فالعازل الذي يقيمه الناقدون بين الغابة والصحراء وهمي ولا سند له في أصل الأشياء. فقد جاءنا النور الغابي الصحراوي وأبلى بلاء حسناً في قضية حرية التعبير. واذكر أننا عقدنا اجتماعات مناقشة مذكرتنا ضد قيام المجلس الأعلى للآداب والفنون بمنزله بالصافية أكثر من مرة. وكنت بعد تجهم نميري في مارس 1971 على الشيوعيين أغشى تلك الاجتماعات بشيء من التحفظ والستر.
كان النور إضافة مميزة لأبادماك. كان موطأ الأكناف عذباً له لجنة تحلي عفويته الجذرية.
المصدر: صحيفة التغيير