الحركات المسلحة بين خيارات الانحياز وسيناريوهات تقسيم السودان
بقلم: عثمان نواي
ان موقف الحركات المسلحة الدارفورية فى الايام الماضية قد اضاف إلى تعقيدات المشهد العام ولم يؤدى إلى حسمه فى اتجاه معين كما يظن البعض . الحركات موقفها كان صعبا منذ اول يوم للحرب. ولكن هذا الموقف ازداد سوءا مع السيطرة شبه الكاملة للدعم السريع على دارفور. وربما لم تكن الحركات تنتظر سقوط دارفور فى يد الدعم السريع لتحدد موقفا ،ولكنها كانت تنتظر حسم معركة الخرطوم. وعندما تطاولت مدة معركة الخرطوم ووصلت لدرجة يصعب فيها الحسم لأى طرف، تحول تركيز القوتين المتحاربتين نحو دارفور. حيث انسحب الجيش للدعم السريع من دارفور بينما كان ينتظر انسحاب مشابه من المنازل والمناطق الاستراتيجية فى الخرطوم من قبل الدعم السريع لكى تنجح مفاوضات جدة فى التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار. ولكن انسحاب الجيش من دارفور دون اى انسحاب مقابل من الدعم السريع فى الخرطوم وعدم تحقيق اى من الطرفين لانتصار حاسم فى الخرطوم جعل الحركات المسلحة التى كانت شريكة فى حكم كامل الأراضي السودانية قبل حرب أبريل، جعلها مضطرة للتراجع عن خطة انتظار حسم معركة الخرطوم والعودة إلى معاقلها فى دارفور للدفاع عن وجودها هناك والتعامل مع معادلة سلطة جديدة فى وجود الدعم السريع مسيطرا على الإقليم، الأمر الذى يلغى عمليا اتفاق جوبا فى إطار إقليم دارفور وينزع السلطة الإقليمية التى منحها الاتفاق لممثلى الحركات المسلحة.
الأمر الذى أدى إلى مواجهة الحركات المسلحة لخيارات صعبة بين الخضوع لسيطرة الدعم السريع على الإقليم الذى يجب ان يكون تحت سيطرتها اذا ما كانت الدولة المركزية ممثلة فى الجيش مسيطرة على البلاد حسب اتفاق جوبا، او التمرد على سيطرة الدعم السريع و الانحياز للجيش. وهنا يجب توضيح ان تخلى بعض الحركات عن الحياد مؤخرا لا يعد انحياز مطلق للجيش ولكن هو انحياز للموقع السياسي الذى يمنحه لها وجود الجيش باعتباره يمثل دولة السودان المركزية التى وقعت اتفاق جوبا مع الحركات. واذا لم يعد لتلك الدولة المركزية والجيش سلطة على دارفور، فإن سلطة الحركات فى الإقليم تسقط عمليا مع سقوط الإقليم فى يد قوة أخرى وهى الدعم السريع.
وبشكل استراتيجي فإن حياد الحركات المسلحة كان موقفها الاستراتيجي. فكلا طرفى الحرب هما اعداء تاريخين وحلفاء تكتيكيين. فبحكم اتفاق جوبا هناك تحالف اجبارى مع الجيش لانه الضامن لاستمرار الاتفاق. وهو التحالف الذى ظهر جليا فى موقف الحركات من انقلاب ٢٥ أكتوبر. فى المقابل فإن الدعم السريع هو عدو تاريخى ولكن حليف أيضا، فمنذ حرب أبريل انتهى تحالف الدعم السريع مع الحركات فى إطار اتفاق جوبا. لان الدعم السريع نفسه لم يعد يمثل الدولة او اى جزء منها بشكل رسمى. ولكن التحالف بين الحركات والدعم السريع هو تحالف مصالح مشتركة تاريخية متعلقة بعدو مشترك وهو الدولة المركزية فى الخرطوم. وانهاء الدولة المركزية بشكلها القديم وتكوين سودان جديد هو هدف استراتيجي لكل الحركات المسلحة فى دارفور وجبال النوبة و النيل الأزرق ،ولكن اختلفت السبل لتحقيقه. فبينما تسعى حركات المقاومة المسلحة للوصول لتفاهمات سياسية لتقسيم الثروة والسلطة وتدير معارك داخل اقاليمها سواء دارفور او جنوب كردفان او النيل الأزرق ،فإن الدعم السريع اختار مسارا دمويا لانهاء الدولة القديمة بالهجوم على الخرطوم و ارتكاب فظاعات ضد المدنيين زادت من معاناة كل السودانيين. ومع انهيار الدولة المركزية بعد حرب أبريل، فإن الحركات المسلحة فى موقف يجعلها تقف فى انتظار حسم معركة السيطرة على الخرطوم حتى تتحدد أرضية التوافق السياسي على حسب نتائج معركة السيطرة على العاصمة.
ولكن يبدو أنه فى ظل فشل الجيش فى حسم معركة الخرطوم حتى الآن، فقد تبنى تكتيك نقل الصراع إلى الأطراف. ان تكتيك نقل الحروب المتعلقة بمصير الدولة المركزية فى السودان إلى الأطراف هو تكتيك قديم للجيش السودانى عبر تاريخ نخبة الحكم في السودان. كما أن سياسة فرق تسد التى يتم ممارستها بشكل ممنهج لتفكيك القوى المناهضة للدولة السودانية المركزية التاريخية هى أيضا سياسة قديمة. ولكن الزمن قد تغير كثيرا، واصبحت كثير جدا من هذه السياسات مفهومة للاعبين السياسين فى أطراف السودان. كما أن هشاشة السلطة المركزية الان تجعل المقدرة على السيطرة على أوضاع الفوضى فى الأطراف شبه مستحيلة. مما يهدد أمن الدولة المركزية حتى ان انتصر الجيش فى معركة الخرطوم.
ومن هنا تبرز سيناريوهات التقسيم.
ولكن حتى خيارات التقسيم لن تكون فى صالح الدولة المركزية السودانية على المدى القصير والطويل. فلن تكون كل الانفصالات التى يسعى لها الكيزان تحديدا سهلة وسلسة مثل انفصال الجنوب. كما أن خيارات سكان اقاليم الأطراف لا تسير نحو الانفصال عن السودان المركزى، بل كما نرى الان عبر الحرب فى الخرطوم، فإن الخيارات تتعلق بإمكانيات السيطرة على الدولة المركزية نفسها وليس الانفصال عنها.
فربما يكون وقت أفضلية وضع خيارات الانفصال نفسها قد انتهى بالنسبة للدولة المركزية. فان الانفصال يتم بين دولة ثابتة وأخرى تريد أن تتكون. ولكن لا يتم ابدا الانفصال بين دولة منهارة وأخرى تتشكل. لذلك فإن الحديث عن انفصال دارفور او تقسيم السودان يمكن أن يقرا بشكل اخر كنعى للدولة المركزية بنفسها لنفسها. ولكن الأهم هو ان التقسيم الذى يتم الحديث عنه الان ربما يكون أقرب إلى سيناريوهات تقسيم يوغسلافيا السابقة. حيث أن الحدود الجغرافية تمر بتداخلات اثنية ودينية معقدة. ولكن فى إطار السودان لن يكتب النجاح لعملية تقسيم كهذه فى دولة فقيرة ومتخلفة وتحظى بجوار غير مستقر وله مطامع فى البلاد.
لذلك فإن التقسيم فى السيناريو السودانى الراهن لن ينهى الحروب ولن يجعل اى من الدوليات المنقسمة تعيش بأمان فى اطارها الحدودى. ولذلك يبرز التساؤل حول ما اذا كانت نفس القوى التى تسعى الى التقسيم مستعدة للجلوس لحوار من أجل تقسيم البلاد جغرافيا، لماذا لا تجلس ذات القوى لتقسيم السلطة بينها وصناعة اسس حقيقية لبناء تعايش مشترك؟ فحتى حدود الدول لاتمنع الحروب، فى حالة وجود اغبان تاريخية لم يتم تصفيتها. لذلك فإن الحديث عن اى حلول لا تحاول علاج ازمات الماضي لكى تتجنب مزيد من الحروب فى المستقبل لن تكون حلول بل ستكون لبنة جديدة للازمات المستقبلية سواء كانت بين دويلات جوار او اقاليم داخل دولة واحدة. التقسيم لن يكون حلا، بل بناء السلام على أسس عميقة من العدالة الانتقالية التى يتبناها ويرتضيها أصحاب المصلحة هى الحل الوحيد على المدى الطويل والقصير.
[email protected]
المصدر: صحيفة التغيير