اخبار السودان

دموع في صالة السينما السودانية , اخبار السودان

حمور زيادة

 

دموع في صالة السينما

حمور زيادة

حتى كتابة هذا المقال، حصد فيلم “وداعاً جوليا” 14 جائزة من مهرجانات سينمائية دولية مختلفة، أولها كان. وتنوعت جوائزه بين جوائز تمثيل وجوائز للإخراج.

لا يستند الفيلم إلى تاريخ ضخم من الإنتاج السينمائي السوداني. بل على العكس، تبدو صناعة السينما في السودان ناشئة، معتمدة على الشغف ومحبّة الفن السابع، أكثر من اعتمادها على خبرة وتراكم إنتاجي كبير. لذلك تتصدّر الوجوه الجديدة عادة بطولة أفلام الموجة الجديدة من السينما السودانية.

شكّلت ظروف الحرب السودانية التي أجبرت حوالي مليوني سوداني على النزوح خارج البلاد، من جملة ستة ملايين نازح، بيئة جيدة لتسويق الفيلم لمئات الآلاف من المشاهدين السودانيين الذين ما كانوا لولا النزوح عن السودان قادرين على حضور عرض سينمائي، فقبل أعوام فشلت محاولات عرض فيلم “ستموت في العشرين” في الخرطوم، رغم عرضه في دول كثيرة وحصوله على جوائز عالمية. لكن حملة انتقادات على “السوشيال ميديا” لأحد مشاهد الفيلم كانت كافية ليرفض مدير دار العرض السينمائية الأكبر في السودان (واحدة من سينمات تعدّ على أصابع اليد الواحدة) عرض الفيلم، رغم حصوله على تصريح الرقابة، بحجّة أنه فيلم خادش للحياء ولا يناسب العادات السودانية. وهو انتقاد وُجّه بدرجة أخفّ إلى “وداعاً جوليا”. ومن المؤكّد أن الفيلم المقبل سيقابل برفض أقلّ، إذ إن سنوات حكم الحركة الإسلامية للسودان قطعت علاقة الجمهور بفن السينما أكثر من ربع قرن. ويعيد المشاهد السوداني، حاليا، التعرّف إلى صورة مجتمعه الفنية.

كانت مشاهدة “وداعاً جوليا” في صالة عرض سينمائي لكثيرين اللقاء الأول مع تصوّر فنّي للسودان. ولأننا ننتمي إلى بلادٍ أدمنت الحزن، فإن مصادفة تقارب موضوع الفيلم مع الواقع السياسي والاجتماعي السوداني لم تكن مستحيلة، فالسودان يدور في حلقة شيطانية من التعاسة، لا يبدو أنها ستنكسر قريباً.

يعرض فيلم “وداعاً جوليا” اللحظات الأخيرة للسودان القديم الذي وجد بين العامين 1956 و2011، بمساحة مليون ميل مربع، وشهد واحدةً من أطول الحروب الأهلية في القارّة الأفريقية، وانتهى إلى التقسيم إلى بلدين. وبعرضه في 2023 في أثناء الحرب السودانية الحالية، أعاد فتح جراحٍ كثيرة في نفوس السودانيين. إذ لم تشرّدهم الحرب فحسب، لكنها أيضاً تهدّد بلادهم بتقسيم جديد، بل ربما تفكّك كامل، فكأنما جاء الفيلم في لحظة حرجة ليذكّر الجميع أن العقلية المسيطرة على المجتمع السوداني، في أغلبه ومن دون تمييز بين عقلية صاحب الامتيازات وعقلية المهمّش، إقصائية صفرية، تعجز عن إنتاج واقع يسمح بالتعايش المشترك المتساوي لكل المواطنين.

قدّم الفيلم نموذجاً للتلاعب المتبادل بين الجلاد والضحية، والصراع بين التقدّمي والرجعي. بل إنه، في حبكة فنية بارعة، يخلط الأوراق، حتى يحتار المشاهد في “من يتلاعب بمن”، وهل الرجعي رجعي حقاً أم هو مجرّد شخص متصالح مع واقع ورثه، وهل التقدّمي تقدّمي حقيقي أم هو مجرّد رجعي يجيد الادّعاء؟

من الصعب وضع تلقّي كل المشاهدين في خانة واحدة، فالفنون تمتاز بإمكانية تأويلها وتلقّيها على أكثر من وجه. في أحد عروض فيلم “أوبنهايمر” الذي يحكي صراع عالم الفيزياء النظرية روبرت أوبنهايمر، الأب الشرعي للقنبلة الذرّية، مع نفسه ومع الحكومة الأميركية، لمحاولة منع انتاج مزيد من أسلحة الفناء، صادفتُ نموذجاً جيداً لاختلاف التلقي الفني. في التصاعد الدرامي الذي صنعه كريستوفر نولان، كانت لحظة تجربة أول قنبلة ذرية في الصحراء مخيفة، قدّمها الفيلم بمشاهد صامتة وشاحبة، لكن بعض المشاهدين صفّقوا فرحاً بنجاح التجربة، بينما وجم أغلب من في صالة العرض. بالنسبة لمن صفّقوا، كان الفيلم مجرّد فيلم لطيف عن عالِم لديه مشروع طموح لإنجاز شيء ما، تصادف أنه قنبلة. وقد نجح العالم في مسعاه، لذلك صفّقوا ابتهاجاً. ولآخرين كان الفيلم يعرض لحظة الكارثة التي لم يعد العالم بعدها كما كان. ولذلك يمكن لمئات الالاف الذين شاهدوا “وداعاً جوليا” أن يقدّموا عشرات القراءات والتأويلات. لكن ما غلب على الجمهور السوداني كان الدموع، لأن الفيلم جاء في لحظة استثنائية ليعيد تذكيرهم بما فقدوه، دولة واحدة متنوّعة وتعددية. وينبههم إلى ما قد يفقدونه الآن، وجود الدولة ذاتها.

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *