اخبار المغرب

خواطر على هامش مراجعة مدونة الأسرة

يعيش المغرب اليوم؛ نشاطا مكثفا متنوع الاتجاهات والمجالات؛ ومنها ورش مراجعة مدونة الأسرة. ومنذ أن تم الإعلان عن الرسالة الملكية التوجيهية إلى رئيس الحكومة بهذا الشأن؛ انطلقت العديد من المبادرات والندوات واللقاءات القانونية والمجتمعية؛ لبيان ما يطلق عليه الاختلالات والثغرات المصابة بها المدونة ومعها الإشكالات العملية والتطبيقية التي يثيرها إعمال النص. لقد بدت لي بعض الملاحظات المتواضعة سميتها خواطر؛ ذات صبغة قانونية؛ أحببت المساهمة بها في النقاش العام.

قبل الكلام:

بداية؛ أرى لفت النظر لملاحظة تبدو لي ذات أهمية. فكل المنظمات والجمعيات النسائية والمهنية والحقوقية وعدد كبير من الفاعلين في المجالين القانوني والاجتماعي؛ يعيبون مدونة الأسرة الحالية بكل العيوب الممكنة وينادون جميعا بإصلاح جذري عميق وليس بترقيعات. ومع مراعاة صحة عدد من الانتقادات والتحفظ بخصوص بعضها الآخر؛ فإن هذه الحالة ليست مغربية خالصة، فكل القوانين العربية للأسرة أو الأحوال الشخصية مؤسسة على نفس المفاهيم والفلسفة مع استثناءات قليلة غير مؤثرة؛ لأنها تنهل من المرجعية الفقهية التقليدية نفسها. إن هذه “الوحدة التشريعية” لا تبرر النواقص؛ لكنها مجرد معاينة واقع.

الخاطرة الأولى: حول عدم دستورية المادة 400 من مدونة الأسرة وعدم مشروعيتها القانونية

أولا: عدم دستورية المادة 400

تنص م 400 على ما يلي “كل ما لم يرد به نص في هذه المدونة؛ يرجع فيه إلى المذهب المالكي والاجتهاد الذي يراعى فيه تحقيق قيم الإسلام في العدل والمساواة والمعاشرة بالمعروف”.

لقد نادى عدد من الباحثين والمهتمين بنسخ هذه المادة لأسباب مختلفة. وبدوري أنضم لهذا المطلب؛ مؤَسَّسا على انتقادين؛ أولهما؛ عدم دستورية المادة 400؛ وثانيهما عدم شرعيتها ومشروعيتها بمعايير النظرية العامة للقانون. وبيان ذلك كالآتي:

الأصل وفقا للنظرية العامة للقانون الدستوري؛ وكذا النظرية العامة للقانون؛ أن الدستور هو الذي يحدد مصادر القانون الشكلية الرسمية؛ وهو في ذلك إما يجعلها حصرية في مصدر واحد أو يعددها؛ أفقيا أي من نفس الدرجة والقوة؛ أو عموديا بالتدرج والهرمية في الدرجة والطبيعة؛ فيجعل بعضها أصليا وبعضها الآخر احتياطيا.

لقد تباينت مواقف الدساتير العربية [وأقتصر عليها وحدها]؛ الحديثة بخصوص مكانة الشريعة الإسلامية كمصدر من مصادر القانون الرسمية. فمنها من جعلتها المصدر الأساس للتشريع كالعراق ومنها من اعتبرتها المصدر الرئيس للتشريع؛ كمصر والكويت والإمارات العربية المتحدة، فيما تفادت بقية الدساتير تحديد موقف صريح.

وعندما نرجع للدساتير المغربية المتوالية؛ فإننا نعاين عدم أخذها جميعا بمبدأ اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرا رسميا شكليا للقانون سواء بصفة أصلية أو احتياطية. فالمادة السادسة من دستور 2011 تنص على أن “القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة” كما تنص المادة 70 على أن “البرلمان يمارس السلطة التشريعية ويصوت على القوانين”؛ وخولت المادة نفسها هذه الإمكانية بصفة استثنائية للحكومة. وهو ما يعني أن المشرع الدستوري المغربي لم يأخذ بآلية المصادر الاحتياطية للقانون.

وبالتالي؛ فإن المصدر الشكلي الرسمي الرئيس الوحيد للقانون في المغرب كقاعدة عامة هو فقط التشريع الصادر عن السلطة الدستورية المختصة (البرلمان أساسا والحكومة استثناء)، مع مراعاة الحالة الخاصة المنصوص عليها في المادة 41 بشأن سلطة الملك بصفته أميرا للمؤمنين لممارسة الصلاحيات الدينية التي يتوفر عليها؛ بواسطة ظهائر.

إن الدين الإسلامي والفقه الإسلامي أو فقه المسلمين كما يسميه أحد الأساتذة الجامعيين (اذ حسن رحو الجراري)؛ ليس مصدرا شكليا رسميا للقانون في المغرب؛ وإن كان يمكن أن يكون مصدرا موضوعيا ماديا لبعض القوانين؛ اعتبارا للمادة الثالثة من الدستور التي تنص على أن “الإسلام هو دين الدولة”؛ وبصرف النظر عما في العبارة من خلل في الصياغة القانونية لأن الدولة كشخص اعتباري عام لا دين لها؛ فإنه يمكن القول بجواز أخذ الدولة اختيارا وليس إجبارا مضامين بعض القوانين من الشريعة الإسلامية؛ شريطة التقيد بالدستور في ما يتعلق بتحديد المصادر؛ أي أن يكون اعتماد القاعدة الفقهية الإسلامية ماديا موضوعيا وليس شكليا.

في هذه الفرضية؛ فإن الإسلام أو الشريعة الإسلامية ليس هو المذهب المالكي أو غيره من المذاهب الفقهية المعروفة؛ فهذه لا تتعدي كونها آراء ومواقف في شرح وتحليل أصول الإسلام ونظمه المقررة في القرآن والسنة الصحيحة المؤكدة كمصدر احتياطي موضوعي مادي وليس كمصدر أصلي؛ أي أن أقوال الفقهاء في مختلف المذاهب لا تصلح بصفة أساسية مصدرا موضوعيا فأحرى شكليا رسميا للقانون.

إن صيغة ومضمون المادة 400؛ تجعلها مصدرا شكليا رسميا احتياطيا لمجموع المدونة؛ فيما لم يرد به نص فيها؛ وهو أمر مخالف للدستور الذي لم يأخذ بنظام المصدر الرسمي الشكلي الاحتياطي للقانون؛ ولم يعتبر الإسلام بمعناه العام أو بمعناه كفقه إسلامي مصدرا شكليا رسميا؛ لا أصليا ولا احتياطيا؛ من مصادر القانون في المغرب؛ بل لم يجعله مصدرا ماديا موضوعيا للقانون بشكل عام؛ وبالتالي فإن هذه المادة غير دستورية ويجب نسخها وحذفها في المراجعة القادمة.

إن المادة 400 فضلا عما سبق؛ غير دستورية أيضا لما فيها (من الإحالة على الفقه المالكي) من تجريد لسلطة البرلمان في التشريع؛ وتطاول على اختصاصه وخرق لمبدأ فصل السلطات. إن الإحالة على الفقه المالكي لمواجهة نقص تشريعي في المدونة؛ هي ترفيع “سلطة فكرية” لأشخاص الفقهاء ليست لهم أي شرعية دستورية؛ على سلطات هيأة دستورية قائمة؛ تعتبر حسب الدستور؛ السلطة الشرعية المخولة سن القوانين.

وتبعا لذلك؛ يتعين نسخ هذه المادة في المراجعة المنتظرة.

ثانيا: المادة 400 غير شرعية وغير مشروعة وفقا للنظرية العامة للقانون

الأصل في النظرية العامة للقانون؛ أن تكون القاعدة القانونية التشريعية؛ واضحة؛ دقيقة في الفرض؛ والحل؛ والجزاء؛ وأن تتعلق بواقعة معينة عامة مطلقة. كما أنه في حالة إحالة المشرع على نص؛ آخر؛ فيجب تحديده وأن يكون إما نصا قانونيا آخر؛ أو اتفاقية دولية مصادق عليها في المغرب ومنشورة. أي أن يكون النص المحال إليه مما لا يتصور الادعاء بجهله؛ ويمكن في جميع الأحوال الاطلاع عليه؛ ويكون قابلا للتطبيق والتنفيذ بذاته؛ وفق المساطر القانونية الدستورية.

إذا كان مقررا؛ أنه لا يجوز للقاضي الامتناع عن الحكم بدعوى عدم وجود نص؛ تحت طائلة اعتباره منكرا للعدالة؛ إذ عليه استنباط الحل إما من المبادئ العامة للقانون أو من الفقه أيا كانت طبيعته وتصنيفه؛ بما يعتبر تكملة ضرورية؛ فإن تقييد سلطته في التقدير والبحث بمصدر بعينه؛ سيؤدي في النهاية ليس تكملة فكرية للنقص بل وضع قاعدة جديدة مأخوذة من نص فقهي؛ وهو أمر محرم عليه.

إن شرعية اعتبار العمل القضائي أي الاجتهاد مصدرا تكميليا للقانون فيما هو ناقص أو غامض فيه؛ مرتبطة بالدور الرئيس للاجتهاد القضائي الوطني أو المقارن عندما تتشابه الأوضاع في المجال. لكن الإحالة المطلقة علي الفقه المالكي؛ وإعطاء القاضي سلطة وضع حل للنزاع الذي ينظر فيه؛ من هذا الفقه؛ معناه الحجر علي سلطة القاضي في الابتكار والاجتهاد بحثا عن الحل الذي لم يسعفه به النص المتعلق بالنزاع. وبالتالي فإنه عندما يأخذ حصريا قولا أو موقفا من الفقه المالكي وحده وإكمال النص التشريعي به؛ فإنه أي القاضي يبتعد عن سلطة الاستنباط والاجتهاد ويقوم بعمل المشرع فيما لم يرد فيه نص؛ وهو أمر مخالف ومتعارض مع سلطته الوظيفية القضائية في الاجتهاد وابتكار الحلول.

إن مدونة الأسرة وغيرها من النصوص القانونية؛ تتضمن قواعد تشريعية عامة لتنظيم أحوال وصور ترتبط بوجود الأسرة؛ وتحدد في الوقت ذاته الأحكام الواجب إعمالها في حالة نشأة خلافات بين طرفي العلاقة الزوجية واضطرارهما للتوجه لقضاء. فكل من المتقاضيين؛ يكون؛ أو يفترض أن يكون؛ على علم ومعرفة كافية بالقانون الذي سيطبقه القاضي؛ بصرف النظر عما إذا كان التطبيق سليما معللا أم لا. لكن في حالة الإحالة المطلقة على الفقه المالكي؛ كما في نص م 400؛ وهو على ما نعلم واسع ومتشعب ومختلفة آراء فقهائه؛ فإن المتقاضيين سيواجهان المجهول بخصوص ما سيطبق عليهما؛ لأن الإحالة المطلقة علي الفقه المالكي ولو تعلقت بحالة بعينها؛ تجعلها إحالة على المجهول.

من جهة ثالثة؛ فالمتصور وفقا لنص الإحالة أن القاضي الذي لا يجد في المدونة النص الواجب التطبيق علي النازلة المعروضة عليه؛ ويرجع إلي الفقه المالكي؛ على شساعته وتعدد المدارس والآراء فيه واختلافها أحيانا؛ سيقوم باختيار الحل وفقا لاقتناعه الشخصي برأي فقهي معين؛ وقد لا يكون هو الرأي الغالب لدي الجمهور مثلا؛ ومن ثم تغيب سمة العمومية والوحدة المفترضة في أي قاعدة قانونية. والأخطر من ذلك؛ أنه عندما يعمد القاضي إلى تطبيق رأي فقيه مالكي معين؛ فإنه يجعل مراقبة حكمه من قضاء النقض؛ أمرا صعبا؛ إن لم يكن مستحيلا؛ لأن قاضي النقض في هذه الحالة سيراقب سلامة الحكم هو أيضا من زاوية شخصية بحسب ميله لرأي فقيه آخر؛ وبالتالي؛ ستنعدم المساواة بين المتقاضين في ما يتعلق بوحدة النص الواجب التطبيق في الحالات المتماثلة.

وأخيرا؛ فإن المادة 400؛ معيبة وغامضة وغير دقيقة في لغتها القانونية. لقد نصت هذه المادة على الرجوع للمذهب المالكي والاجتهاد. إن الفقه المالكي وعموما فقه أي مذهب؛ هو في حد ذاته اجتهاد في التفسير والتأويل والتحليل والاستنباط؛ ومن ثمة فإن لفظ الاجتهاد مواليا بحرف العطف للمذهب المالكي؛ يبدو مجرد تزيد لغوي وقانوني؛ لا مبرر له. أما إذا كان المقصود الاجتهاد القضائي المغربي؛ فإن هذه الإحالة تجب وتغني عن سابقتها؛ وتصبح الإشارة للفقه المالكي دون معني؛ والعكس صحيح.

لأجل ذلك وغيره مما يمكن لباحثين آخرين إظهاره؛ يتعين نسخ المادة 400.

الخاطرة الثانية: في ما يتعلق بالاضطراب في تحديد ماهية ومدلول بعض المؤسسات القانونية في المدونة

أولا: في ما يتعلق بالطبيعة القانونية للزواج وبعض آثاره

من حسنات المدونة أنها لم تعرف الزواج بغايته الجنسية كما ورد عند كثير من فقهاء المذاهب الفقهية من قبيل أنه “عقد على البضع بعوض” أو عقد على التلذذ بآدمية”؛ بل عرفته بأبعاده وغاياته الإنسانية والأخلاقية؛ فهو ترابط شرعي بين رجل وامرأة على وجه الدوام، غايته الإحصان والعفاف وإنشاء أسرة مستقرة؛ برعاية الزوجين (وهو أمر مهم) طبقا لأحكام هذه المدونة. غير أن ما يعاب على المدونة عدم الاستقرار في تحديد الطبيعة القانونية للعلاقة الزوجية؛ والاضطراب في استعمال الألفاظ والمصطلحات؛ وأحيانا في تعريف وتحديد مدلول بعض المؤسسات الأخرى.

1 تعرف المدونة في المادة الرابعة؛ الزواج بأنه “ميثاق”. والحال أن الميثاق مصطلح عام يقصد به وثيقة ما سواء؛ كانت موقعة أم غير موقعة ممن يعنيهم الأمر حالا ومستقبلا. الميثاق ليس عملا قانونيا بالمعنى الصحيح؛ إنه مجرد نظام توجيهي يتخذ كإطار في وضع نصوص قانونية ملزمة منظمة للمجال الذي بحثه الميثاق؛ أو الاتفاق حول أمر يندرج في إطار الميثاق. غير أن المشرع سيتخلى عن هذا التصور؛ ليدخل دائرة التعاقد المدني؛ فالخطبة حسب المادة الخامسة؛ تواعد على الزواج؛ تتحقق بتعبير طرفيها على ذلك. وسيكرس المشرع هذا التوجه القانوني؛ ابتداء من المادة السادسة التي تحدد نهاية فترة الخطوبة بالإشهاد على عقد الزواج. ويستمر المشرع في السير في نطاق العقد بالنص في المادة العاشرة على انعقاد الزواج بالإيجاب والقبول؛ وهو الضابط المعتمد في نظرية العقد وسيكرس المشرع هذا التكييف في مختلف المواد اللاحقة؛ لكنه سيعود فجأة من حيث بدأ؛ ويتراجع في المادة 71عن التوجه العقدي شكلا وموضوعا؛ فمن جهة؛ عاد لاستعمال لفظ الميثاق؛ بقوله “لا ينبغي اللجوء إلى حل ميثاق الزوجية “؛ ويكرر في المادة 78 نفس الوصف في تعريف الطلاق بأنه “حل ميثاق الزوجية”. ومن جهة أخرى فإنه يوجه ضربة موجعة لفكرة العقد والتراضي عندما ينص بصورة قطعية جازمة على أنه “لا ينبغي اللجوء إلى حل ميثاق الزوجية بالطلاق أو بالتطليق إلا استثناء….” وهو ما يحول عقد الزواج من علاقة رضائية تعاقدية نشأت بإرادة الطرفين؛ وبالتالي يمكن أن تنتهي برضاهما وإلا جبرا قضاء؛ إلى علاقة نظامية إجبارية. إن منع اللجوء إلى الطلاق أو التطليق من الناحية المبدئية العامة (بصرف النظر عن بعض الآثار الكارثية للفراق) فقط لأن في ذلك تفكيك للأسرة وإضرار بالأطفال؛ هو حجر على حرية وإرادة الطرفين في إنهاء العلاقة متى تحققت موجبات ذلك.

2 يستمر المشرع في خطواته متبنيا فكرة العقد؛ فالإخلال بشرط في عقد الزواج؛ يعتبر ضررا مبررا لطلب التطليق. لكنه سيعود وفقا للفقه المالكي إلى فكرة تبعد العلاقة الزوجية العقدية الإنسانية؛ إلى علاق ملكية الأشياء؛ فالزوج الرجل؛ له بمقتضي المادة 89 تمليك زوجته الأنثى حق إيقاع الطلاق. إن فكرة التمليك التي تتعارض مع فكرة العقد وحق كل طرف في وضع حد له؛ وفق الشروط القانونية؛ تحول الزوج الرجل إلى مالك لرقبة الزوجة ويستطيع بإرادته المنفردة أن يملكها أمر نفسها حق إيقاع الطلاق. إن هذا الحق بالصيغة الواردة في النص يفقد صفة الحق ليتحول إلى منة وتبرع من الزوج علي الزوجة؛ وهو ما يتعارض مع الفلسفة العامة في التعاقد؛ وإمكانية تحديد الشروط التي يراها أحد الطرفين ويوافق عليها الطرف الآخر. إن هذا الطريق لإنهاء العلاقة الزوجية يجب أن يحتفظ بطبيعته الاتفاقية كحق وشرط. وبالطبع؛ فإنه ككل حق سيتم تفعيله إذا تحققت شروطه؛ تحت المراقبة القضائية؛ حتى لا يكون محل تجاوز أو تعسف في استعماله ولتحقيق ذلك يجب تغيير الصيغة لتصبح: “يمكن للطرفين عند إبرام عقد الزواج الاتفاق على حق الزوجة في إيقاع الطلاق عن طريق…..”.

ومن جهة أخرى؛ يتعين حذف الفقرة الأخيرة من المادة؛ لتعارضها المطلق مع الطبيعة التعاقدية للشرط؛ إذ ليس للزوج أن يلغي شرط التمليك بإرادته المنفردة.

3 يستمر المشرع في توجهه التعاقدي، فيعتبر في المادة 99 الإخلال بشرط في عقد الزواج ضررا مبررا لطلب التطليق. ويؤكد هذا المسار في المادة 115 عندما يجيز للطرفين أن يتراضيا على الطلاق بالخلع طبقا للمادة 114 التي أحدثت نظام الطلاق الودي بالتراضي. لكن في الوقت نفسه فقد تم تلغيم هذا التراضي وتحويله من فراق ودي بالتراضي؛ إلى مساومة؛ وإجبار الزوجة على شراء حريتها وإنهاء علاقة الزوجية؛ مقابل أداء مبلغ مالي للزوج كي يوافق. لقد أصبح الاتفاق على الطلاق بالخلع أشبه بعملية تجارية. أو صورة من صور العتق في نظام العبودية الغابر؛ أو افتداء الأسير نفسه بمبلغ من المال. فالمرأة التي تريد الطلاق وديا؛ ويوافـقها الزوج في ذلك؛ ملزمة على أداء مقابل مادي له يحدده بإرادته؛ وإلا فإنه سيرفض المبدأ من أصله.

إن تشبيه آلية الخلع بالطلاق الودي؛ أمر فيه تناقض وهدم لمبدأ التوافق والتراضي المفترض والذي عكسته المادة 114؛ طالما أن موافقة الزوج مقرونة ورهينة بأداء مقابل مالي؛ مما يحولها إلى إكراه نفسي معنوي ومالي؛ بل يفتح الباب أمام الرجل ليفرض شروطه ويحدد كيفما أراد ثمن موافقته على الافتراق. قد يقال؛ إن المشرع قيد ذلك؛ بأن أعطى الزوجة إمكانية استرجاع ما خالعت به إذا أثبتت أن الخلع كان نتيجة إكراه أو إضرار؛ كما أن ما قد يشترطه الزوج من ثمن يخضع للمراقبة القضائية؛ إذ يمكن اللجوء للمحكمة في حالة الاختلاف حول الثمن؛ وستحدد المحكمة المقابل المالي الذي يجب على الزوجة أداؤه حتى تقرر المحكمة نفاذ الخلع (فقرة أخيرة من م 120). كل ذلك جميل؛ لكن نبقى في إطار المساومة والابتزاز. لذلك؛ أرى أنه إذا كان لا بد من رشوة الرجل وشراء موافقته؛ وعدم الاتفاق؛ فإنه يحسن قبل اللجوء إلى المحكمة اللجوء للوساطة الاتفاقية الأسرية؛ فإن فشلت تم اللجوء إلى المحكمة من أجل المصادقة على مبدأ الطلاق ونفاذ الخلع وتحديد المقابل. واعتبار المعايير المشار إليها هي الأساس؛ وليست مجرد عناصر تراعي من طرف المحكمة؛ كي لا يصار إلى ابتزاز الزوجة.

من جهة أخرى؛ تبدو الفقرة الأخيرة من م 120؛ زائدة ولا ضرورة لها؛ على الأقل في سياق المادة نفسها التي تتعلق بحالة الاتفاق على الخلع والاختلاف في الثمن وليس على الشقاق؛ لاختلاف الأسس والموجبات؛ ولما يترتب عليه من إرهاق للزوجة التي كانت على مرمى الفراق توافقيا فإذا بها تجد نفسها أمام مسطرة الشقاق بكل مشاكلها الموضوعية والمسطرية. كم أنها تحول المحكمة إلى جهة صلح؛ والحال أن محاولة الصلح تندرج في إطار سلطة المحكمة للنظر في الخلاف حول الثمن فقط. وإذا تم الإبقاء عليها؛ فإن مكانها في المادة 115؛ كفقرة ثانية، أو وضعها في مادة مستقلة موالية لها.

ثانيا: في ما يتعلق بالحضانة

نظمت المدونة الحضانة في القسم الثاني من الكتاب الثالث؛ المتضمن أربعة أبواب. ويمكن تقديم ملاحظتين بخصوص هذا القسم؛ أولاهما تتعلق بتعريف الحضانة كما ورد في م 163؛ والثانية بترتيب المواد وعدم التمييز بين الحالات الموجبة للحضانة.

1 عرفت المادة 163 الحضانة بأنها “حفظ الولد مما قد يضره”. والحال أن الحفظ لغة واصطلاحا يتعلق بالشيء أو الأشياء؛ فالحفظ والمحافظة على الشيء تكون ضد ما قد يصيبه من تلف أو عوار إما بفعل الطبيعة أو فعل الإنسان. بينما الولد ليس شيئا حتي يحافظ عليه. الحضانة هي رعاية الولد فكريا وجسديا وتربيته وتعليمه وتنشئته على أسس دينية وأخلاقية. كما تشمل الرعاية الجسدية والنفسية والعناية الصحية.

2 استعملت المادة نفسها عبارة مصالح؛ فالحضانة وفق النص تشمل القيام بالمصالح. في حين أن الولد المحضون ليست له مصالح؛ بل حقوق أولية أساسية عامة في التربية والتعليم والسلامة النفسية والجسدية.

3 حشرت المادة شرطا غريبا؛ عندما ربطت الفقرة الثانية قيام الحاضن بالمصالح؛ بغياب النائب الشرعي. في حين أن الفقرة الأولى جاءت عامة في ما يتعلق بتحديد مهمة الحاضن. إن إقحام عنصر غيبة النائب الشرعي لقيام الحاضن بالمصالح؛ سيعلق القيام بها /الذي جاء عاما في الفقرة الأولى/؛ بحصول الغيبة. والحال أن الغيبة التي قد تكون اضطرارية أو اختيارية؛ ففي الصورة الأولى سيكون مفهوما حلول الحاضن محل النائب الشرعي في القيام بالمصالح؛ لكن في الصورة الثانية أي الغياب الاختياري؛ قد يكون القصد منه تفادي تحمل المسؤولية القانونية؛ وتوريط الحاضن في ما لا طاقة له به؛ طالما فرق المشرع بين التربية والسلامة الجسدية والنفسية؛ والقيام بالمصالح.

إن عمومية اللفظ المستعمل في المصالح والغيبة؛ من شأنه إعفاء النائب الشرعي من التزاماته ولو مؤقتا؛ ولذلك وجب مبدئيا حذف هذا الإلزام تجاه الحاضن؛ وفي حالة الإبقاء عليه؛ تقييد الغيبة بسبب مشروع؛ ووضع شروط مسطرية لتكليف الحاضن بالحلول محل النائب الشرعي؛ كإعلام النائب الحاضنَ بالغيبة ومدتها وسببها؛ وإشعار قاضي شؤون القاصرين؛ وربما ضرورة الحصول منه على إذن بالحلول محل النائب؛ وتحديد المجالات التي يمكنه التدخل فيها.. إلخ؛ حتى لا يتعرض لأي مشكل أو نزاع مع النائب وبالتاي للمساءلة. لذلك يكون مناسبا إعادة صياغة المادة 163؛ بحسب ما ذكر.

4 من جهة أخرى؛ يلاحظ على محتويات القسم؛ اضطراب في ترتيب المواد بحسب مضامينها؛ وعدم التمييز بين مختلف الأوضاع القانونية التي تستحق فيها الحضانة وهي قيام العلاقة الزوجية وانتهاؤها والوفاة.

لذلك؛ أرى نقل الباب الثاني المتعلق بـ: مستحقي الحضانة وترتيبهم؛ من مكانه إلى ما بعد المادة 163 ثم التمييز بين مختلف حالات استحقاق صفة الحاضن؛ كالآتي:

الباب الثاني: مستحقو الحضانة حسب الأوضاع القانونية المختلفة

المادة 164. الحضانة في حالة انعقاد الزوجية.

المادة 165 دون تغيير

المادة 166 الحضانة بعد وفاة الأب أو الآم [تحدث].

المادة 167 [الحضانة في حالة الطلاق [م 171].

الخاطرة الثالثة: في ما يتعلق بمسألة البنوة والنسب

خصت المدونة الكتاب الثالث للولادة ونتائجها؛ وقد تضمن عدة أبواب تعرضت لعدد من القضايا التي تتعلق بأهم آثار الزواج؛ وهي البنوة والحضانة والنفقة. وقد سمحت لي قراءتها بإبداء الملاحظات الآتية:

1 في ما يتعلق بمفهوم البنوة والنسب وما يترتب عليهما من إشكالات قدمت لها المدونة حلولا قد تقتضي إعادة التفكير فيها

استعملت المدونة لفظي البنوة والنسب بنفس المدلول والمعني والآثار. وفي ظني أنها لم توفق في ذلك.

البنوة في اللغة والاصطلاح والقانون والفقه والطب؛ هي الصلة البيولوجية بين الولد ووالديه. أصل الكلمة من “ابن “أي الإنسان المولود من إنسان آخر. تتحقق البنوة إذن من علاقة جنسية بيولوجية بين ذكر وأنثى؛ بصرف النظر عن طبيعتها القانونية، قانونية أو غير قانونية [وبمصطلح المدونة والفقه الديني شرعية أو غير شرعية].

الوصف القانوني لا دور له في تحديد مدلول الوضعية؛ ويمكن أن تكون له آثار.

أما النسب فهو حسب المعجم اتصال شخص بشيء أو اتصال شيء بشيء. يستعمل المصطلح لتحديد الانتساب والاتصال بين شخص وآخر أو بينه وبين قبيلة أو مدينة أو دولة؛ فنقول مغربي نسبة للمغرب؛ ومراكشي؛ وأردني ويمني؛ وصناعي وتجاري؛ ويدوي إلخ. وهو في هذا المجال يرتبط بالبنوة؛ ولذلك فإن التعريف الذي أعطته له المادة 150 بأنه “لحمة شرعية بين الأب وولده” هو تعريف يصح بالنسبة للبنوة وليس للنسب؛ لأن النسب لا يكون إلا بوجود البنوة. كما أن التعريف يقصر البنوة بصورة تفضيلية تعسفية على العلاقة بين الأب وحده والولد، وكان الأولى أن تقول المادة “البنوة وما يترتب عليها من نسب وحقوق أخرى؛ لحمة شرعية بين الولد ووالديه”.

إن الخلط نتيجة الربط بين المفهومين؛ يمكن أن ينتفي ويصبح اللفظان منطبقين على الوضعية القانونية نفسها؛ عندما تكون العلاقة التي أنتجت المولود قانونية وسليمة. لكن في غيرها؛ يصبح من الضروري التمييز في التعريف والآثار. عندما ربطت المدونة في المادة 150 النسب باعتباره هو البنوة واعتبرته لحمة شرعية بين الأب وولده؛ فإنها خالفت الطبيعة والمنطق. إن ربط النسب بالأب وحده؛ فيه إنكار مطلق للعقد وللزوجة الحامل. فالمولود لم ينزل من السماء / وإلا كنا أمام الحالة الفريدة في التاريخ لمريم العذراء / إن المولود هو ولدهما معا. إن اعتبار اللحمة شرعية فقط في العلاقة بين الأب وولده؛ يناقض المادة 144 التي تعتبر أن البنوة؛ وهي الأصل الذي يتجذر منه النسب؛ تتحقق بتنسل الولد من أبويه.

إن تحديد شروط تحقق البنوة وتحقق النسب كأثر آلي؛ لا يطرحان أي أشكال في الحالة العادية القانونية؛ أي حالة وجود عقد الزواج واستمرار العلاقة وحصول الولادة في ظلها. لكن الإشكال أو الإشكالات تظهر في غيرها.

البنوة وهي ارتباط مولود بشخصين؛ ذكر وأنثى؛ هي نتيجة فعل مشترك بينهما؛ قد تكون إرادية وقد تكون غير إرادية على الأقل من طرف واحد. تكون إرادية مشروعة؛ أو إرادية غير مشروعة. فالإرادية المشروعة تتحقق في إطار علاقة زوجية صحيحة أو حتى فاسدة؛ والإرادية غير المشروعة تكون في حالة العلاقة الجنسية خارج إطار الزواج؛ سواء بين طرفين عازبين أو متزوجين. وقد تكون إرادية من طرف واحد وغير إرادية من الطرف الآخر أو تحت الإكراه كما في الاغتصاب. لقد جانبت الصواب في ما يتعلق بالحالة الأخيرة؛ كسرت المساواة بين الطرفين؛ وحملت الأنثى الأم وحدها تبعات فعل قد تكون ساهمت فيه برضاها؛ وقد تكون فيه ضحية نتيجة اعتداء وحشي من رجل؛ في حالة الاغتصاب.

لقد اعتبرت المدونة في المادة 147؛ أن بنوة الأم شرعية في حالة الاغتصاب؛ وفي الوقت ذاته اعتبرتها في المادة 148 غير شرعية بالنسبة للأب. بداية لقد سقط المشرع في تناقض في هذه المادة؛ عندما اعتبر أنه لا يترتب عن البنوة غير الشرعية بالنسبة للأب أي أثرمن آثار البنوة الشرعية. لقد استعمل المشرع لفظ الأب؛ وهي صفة تتعلق بوضعية قانونية صحيحة؛ بينما النص يزيل عنه هذه الصفة؛ مما كان يتعين معه استعمال لفظ الرجل؛ أو حذف عبارة “بالنسبة للأب” وتعديل الصيغة لتظهر حالة الإكراه ويكون نص المادة “لا تنتج الولادة خارج مؤسسة الزواج أي أثر من أثار البنوة الشرعية”. إن الموقف الذي اتخذته المدونة بالنسبة لحالة الاغتصاب؛ موقف غير سليم؛ ويتعين تصحيحه.

إن السؤال الذي يفرض نفسه في حالة الاغتصاب الذي نجم عنه حمل وولادة؛ وبصرف النظر عن وجود أو عدم وجود متابعة وإدانة جنائية أو حتى البراءة؛ هو هل الأنثى المغتصبة أنتجت المولود وحدها أو نتيجة تدخل ذكر بالإكراه والعنف؛ وبالتالي فإن تحميلها وحدها الآثار المادية والقانونية للحمل والولادة وما ينجم عنها من آثار أخرى، أمر غير معقول. هل يعقل اعتبار المولود من اغتصاب؛ ولدا شرعيا للأم وحدها وعدم ترتيب أي أثر على الرجل الذي لولا فعله الوحشي لم يقع الحمل ولا الولادة. إنه من غير المقبول لا عقلا ولا منطقا ولا قانونا وعدلا؛ اعتبار البنوة شرعية في مواجهة المعتدي عليها دون المعتدي. إن الموقف الذي اتخذته المدونة في هذا المجال؛ لا ينحصر أثره فقط تجاه المعتدى عليها والمعتدي بل إن أثره ينصرف للمولود نفسه.

إن الحل العادل هو إضفاء الشرعية على البنوة بالنسبة للطرفين؛ وحماية الطفل المولود الذي سيخضع لحماية غير متوازنة في قانون الحالة المدنية بإعطائه اسما عائليا أي نسبا وليس بنوة كاملة مرتبطة بالأم وحدها. إن إضفاء وصفين قانونيين مختلفين متناقضين على نفس الفعل وسببه؛ أمر غير سليم.

ستطرح هذه الحالة مسألة إثبات البنوة للأب المغتصب. لقد سكتت المدونة بصورة غير مقبولة عن ذلك. وإذا كان مشروع القانون الجنائي سيتعرض للمسألة جنائيا كما جاء على لسان وزير العدل؛ فإن الحل الجنائي لا يحل مشكلة الوضعية القانونية ؛ ولذلك فإن الإنصاف والعدل والحق؛ تستوجب جميعها إما تحميل الطرفين معا الآثار؛ وإما استبعادها بالنسبة لهما معا؛ واعتبار المولود لقيطا مولودا من أبوين مجهولين يخضع لمقتضيات المادة 25 من القانون 21 .36 المتعلق بالحالة المدنية ؛

وتصبح صيغة المادة كما يلي “لا يترتب علي الولادة خارج الزواج أي اثر من آثار البنوة الشرعية”، وفي حالة الإبقاء على هذه الوضعية النشاز؛ فتح الباب أمام الأم المغتَصَبة لإثبات البنوة والنسب إلى مغتصبها؛ عن طريق البصمة الجينية؛ بما سيسمح للقضاء بحماية الأم والطفل؛ خلافا لما عليه العمل القضائي حاليا من رفض اعتبار البصمة الجينية؛ والاعتماد علي المادة 148. أي أنه يتعين نسخ هذه المادة وإبدالها بأخرى تضمن الحماية للأم والطفل.

2 في ما يتعلق بأسباب لحوق النسب

مع مراعاة الملاحظة أعلاه بخصوص المصطلح واستبداله بالبنوة؛ فإن المادة 152؛ تثير ملاحظة بخصوص السبب الأول وهو الفراش. المصطلح مأخوذ من عميق اللغة الفقهية القديمة؛ وقد اختلف الفقهاء في تحديد معناه الشرعي؛ ولكنهم اتفقوا على “أن المرأة إذا كانت زوجة تصير فراشا للرجل بمجرد عقد النكاح”. وإذا كانت التسمية مقبولة في زمن مضي؛ فإنها في الوقت الحاضر لم تعد مقبولة لما فيها من استمرار تكريس المدلول الجنسي الذي كان يعرف به الزواج؛ مما لم يعد مقبولا في إطار المدونة نفسها التي اعتبرت مع التردد غير المؤثر الزواج عقدا وربطته بالإحصان والعفاف؛ وأيضا لما قدمه نفس الفقه من أن المراد بالفراش؛ فراش الزوجة الصحيح أي عقد النكاح الصحيح. لذلك سيكون من الملائم وانسجاما مع الوضعية الحقوقية الكونية والدستورية والقانونية والدينية أيضا للمرأة في المغرب؛ التخلي عن هذه الكلمة وإبدالها بالعقد في المواد 152؛ 153؛ 154؛ 158.

من جهة أخرى؛ نصت المادة 158 على أن “النسب يثبت بالفراش أو بإقرار الأب؛ أو بشهادة عدلين؛ أو ببينة السماع وبكل الوسائل الأخرى المقررة شرعا؛ بما في ذلك الخبرة القضائية”.

فأما الفراش فهو العقد الصحيح؛ كما قلنا.

وأما الإقرار؛ فهو كما حددته المادة 160 إقرار المقر ببنوة [وليس النسب] المقر به. إن الصورة المفترضة لهذه الوسيلة تبدو في حالة النزاع؛ أي رفع الزوجة أو الولد نفسه ولو كان قاصرا أو حتى الإخوة؛ دعوى صحة البنوة والنسب أو نفيهما؛ فيعود الزوج الأب عن غيه وإنكاره؛ أو يرفض دعوى الإخوة؛ ويقر ببنوة الولد فينتهي النزاع بحكم قضائي بذلك، أو في الحالة المشار إليها في نهاية الفقرة الأولى من م 160؛ أي الإقرار التلقائي الإرادي من الأب ولو في مرض الموت؛ على أن يتم الإشهاد به وعليه من طرف عدلين لإثبات صحته؛ مما يقتضي إضافة ذلك للمادة.

أما الوسيلة الثانية؛ وهي شهادة عدلين؛ فإنها غامضة لعدم تحديد النص شروط هذا الإشهاد وبطلب ممن. إن الصورة المحتملة للإقرار التلقائي من الأب؛ أن يطلب من عدلين الإشهاد عليه بإقراره ببنوة ولد؛ ويتم توثيق ذلك بصورة قانونية وفقا للمساطر المعتمدة في هذا المجال. إن تحديد شروط الإقرار لينتج آثاره؛ مسألة أساسية لارتباط ذلك بإجراءات قانونية إدارية تتعلق بالتسجيل في الدفتر العائلي وهوما لا يمكن إلا بمقرر قضائي طبقا للمادة 217 من قانون المسطرة المدنية؛ ولذلك يتعين تحديد المسطرة وتوضيحها.

الوسيلة الثالثة؛ هي بينة السماع. ولعلها شهادة اللفيف المعروفة في المغرب؛ والتي لا يتصور اللجوء إليها إلا في حالة رفع دعوى البنوة من طرف الأم أو الولد.

وهي وسيلة إثبات رغم ذيوع استعمالها في المغرب؛ خاصة في المنازعات العقارية؛ لا يصح اعتبارها وسيلة كافية وسليمة لإثبات الادعاء بالبنوة والنسب.

الوسيلة الرابعة؛ الخبرة القضائية. رغم عدم تحديد النص ماهية الخبرة ولا نوعها ولا شروطها؛ فإن المقصود بها تقنية البصمة الوراثية؛ التي يرفضها القضاء المغربي للأسف الشديد؛ مع أنها بعد الإقرار تعتبر الوسيلة الأكثر مصداقية ودقة ووثوقا بنتائجها؛ وهو ما كان ذهب إليه المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي. ولذلك يتعين على المشرع أن يكون واضحا وصريحا وشجاعا في النص صراحة على البصمة الوراثية؛ إن لم تكن الوحيدة بعد الإقرار؛ وإلغاء بينة السماع، وتدقيق مدلول شهادة العدلين؛ بربطها بالإقرار كآلية لوجوده وصحته، مع ضرورة نسخ المادة 148 أو على الأقل تعديلها بما يسمح للأم والولد بإثبات البنوة والنسب.
3 في ما يتعلق بإنكار البنوة والنسب

نصت المادة 153؛ على إمكانية إنكار النسب أو ما سمته الطعن في الفراش؛ عن طريق اللعان أو بواسطة خبرة تفيد القطع. إذا كانت الخبرة أي البصمة الجينية؛ هي الوسيلة الصحيحة الكفيلة بدعم وصحة إنكار البنوة فإن اللعان؛ رغم مشروعيته القرآنية لا يحل مشكلة البنوة والنسب؛ لأن النص القرآني نفسه يتحدث عن جزاء اللعنة بالنسبة للزوج وجزاء درء العذاب بالنسبة للزوجة؛ ويظل موضوع ثبوت أو عدم ثبوت البنوة قائما لغياب تنظيم قانوني لمسطرة إجرائه؛ مما يتعين معه في حالة الاحتفاظ به تنظيم مسطرة وضوابط ممارسته؛ على غرار بعض القوانين العربية.

عادت المدونة للكلام عن إنكار الحمل وما يترتب عليه في المادة 156؛ في حالة الخطوبة؛ وإنكار الخاطب الحمل الذي ظهر على المخطوبة. لقد اكتفت المادة بالنص بصورة غامضة؛ وغير دقيقة وناقصة؛ إلى إمكانية اللجوء إلى جميع الوسائل الشرعية في إثبات النسب؛ علما بأن الوضعية القانونية للعلاقة بين الخطيبين لا توصف بالزوجية؛ ولا بالفساد؛ مما كان ينبغي معه تدقيق أكثر في ما يتعلق بمسطرة الإنكار؛ وهل يمكن تطبيق اللعان فيها أو اللجوء للبصمة الجينية.

الخاطرة الرابعة: في ما يتعلق بالطبيعة القانونية للتركة ونظام قسمتها

منذ مدة ليست بالقصيرة تترافع عدد من المنظمات النسائية والحقوقية في المغرب؛ من أجل تغيير عدد من المؤسسات القانونية في مدونة الأسرة. وقد بدأت هذه الهيئات في عرض ملفاتها أمام اللجنة الملكية لمراجعة المدونة. وسأكتفي منها بمطلبين اثنين؛ أولهما يتعلق بتغيير نظام قسمة التركة؛ وبنائه على مبدأ المساواة في تقسيم الحصص بين الذكور والإناث بدلا من النظام القائم المبني على منح الذكر ضعف نصيب الأنثى. أما المطلب الثاني فيتعلق بإلغاء نظام التعصيب لما يلحقه من أضرار بالبنات عندما لا يعضدهن ذكر.

أولا: في ما يتعلق بتغيير نظام قسمة التركة

بداية؛ أود الإشارة لملاحظة تتعلق بترتيب المواضيع وبالمصطلح المستعمل في الموضوع في المدونة؛ وأيضا في الكتابات السائدة. وضعت المدونة عنوانا للكتاب السادس؛ الميراث؛ ثم تحدثت في المادتين 321 و322 عن التركة؛ وعادت في المادتين 323 و324 لتعريف الإرث وشروط استحقاقه؛ وجعلت عنوان القسم الثاني أسباب الإرث وشروطه وموانعه. لقد أحسنت المدونة حين قامت بوضع تعريفات لبعض المفاهيم ذات الصلة مثل التركة والإرث؛ لكن ما يعيبها في هذا الصدد هو عدم سلامة الترتيب وبعض الخلط في ما يخص التعريف. بدأت المدونة بتحديد مدلول التركة؛ قبل بيان مدلول الإرث الذي ورد في م 323. في حين أن تحديد نظام الإرث يجب أن يسبق تحديد ماهية المتروك. ولذلك يكون من المناسب نقل المادة 323 من موقعها لتصبح هي المادة 321؛ مع إدخال تعديل على تعريف الإرث. فالإرث نظام لانتقال ملكية الأموال والحقوق من ذمة شخص لذمة آخر دون عوض؛ وأساسه واقعة قانونية غير اختيارية هي الوفاة، ويطلق أحيانا بصورة غير دقيقة على التركة نفسها. أما عبارة “بعد تصفية التركة” فهي عبارة زائدة؛ محلها في المواد التي تنظم القسمة وليس في التعريف. أما التركة فهي كما عرفتها المادة 321؛ مع ضرورة إدخال تعديل على التعريف فهي مجموع ما تركه [فعل ماض وليس يتركه؛ فعل مضارع حاضر] الهالك من أموال وحقوق متعلقة أو مرتبطة بها؛ أو حقوق مالية مستقلة.

في ما يتعلق بجوهر المطلب؛ أي تغيير نظام قسمة التركة وبنائه على قاعدة المساواة في الحصص بين الذكر والأنثى، يقوم مطلب تغيير نظام الإرث أو على الأصح تقسيم التركة والانتقال من صيغة ضعف الحصة للذكر مقابل حصة واحدة للأنثى؛ على صيغة المساواة في القسمة؛ أي استحقاق الورثة ذكورا وإناثا لحصص متساوية.

يعتمد هذا المطلب على مرتكزين أساسيين؛ أولهما ذو مرجعية دستورية حقوقية إنسانية؛ وثانيهما ذو بعد فقهي يتعلق بتفسير وشرح وتأويل النص القرآني المتعلق بموضوع تقسيم التركة.

المرتكز الأول: المساواة في القسمة؛ فرع من مبدأ المساواة الدستوري والحقوقي الإنساني.

ينطلق دعاة مطلب التغيير من منظور قانوني محض؛ مستندهم في ذلك الدستور المغربي ومواثيق حقوق الإنسان المصادق عليها من المغرب. إن الدستور المغربي في المادة 19 كرس حق المرأة في التمتع على قدم المساواة مع الذكر بالحقوق والحريات المدنية. كما أن الفقرة ما قبل الأخيرة من تصدير الدستور أعطت الأولوية والسمو للاتفاقيات الدولية المصادق عليها من المغرب والمنشورة في الرسمية؛ وأوجبت على الدولة ملاءمة القوانين المتعارضة مع الاتفاقيات الدولية.

ومن ثمة فإن ما تضمنته مدونة الأسرة من مقتضيات تنظم الإرث وتقسيم التركة بطريقة تفضيلية غير متساوية لفائدة الذكور على حساب الإناث؛ وإعطاء أشخاص ليسوا جزءا من الأسرة الصغيرة المكونة من الأب والأم والأولاد؛ إمكانية مشاركتهم في التركة التي خلفها الهالك؛ هي مقتضيات تخرق الدستور وتتناقض مع المواثيق الدولية التي تسمو على القانون الوطني بحكم الدستور؛ مما يستوجب ملاءمتها معها عن طريق حذف نظام الحصص التمييزية وإبعاد الأقارب عن المشاركة في قسمة التركة؛ أي حذف نظام التعصيب.

إن مثل هذا التعديل والتصحيح؛ ليس بدعة قانونية ولا دعوة للفتنة؛ وأنه إذا كان الفقه المغربي الديني؛ يري عدم جواز ذلك؛ لتعلق الأمر بتنظيم مستمد من القرآن؛ فإن هناك حالات أخري لم يتبع فيها القانون المغربي القرآن؛ ولم يعتبر ذلك خروجا عن الإسلام والقرآن؛ كما هو الشأن في عقوبة السرقة والزنا؛ حيث لا يأخذ القانون الجنائي الوضعي بالعقوبات القرآنية.

إن جاذبية هذه المبررات والأسباب؛ تقابلها نظرة ومواقف مضادة متشددة؛ تنطلق هي أيضا من الدستور وأسسه في البنيان الاجتماعي للدولة؛ فضلا عن القانون.

فمن جهة؛ فإن المرتكز الدستوري المتمسك به من دعاة التغيير؛ والمطالبة بالتخلي عن النظام القرآني في تقسيم التركة؛ يتغافل عن مسألة أساسية مهمة وردت في الدستور نفسه؛ وهي الفقرة الأخيرة من المادة الأولى التي حددت الثوابت الجامعة التي تقوم عليها الأمة في حياتها العامة ومنها الدين الإسلامي السمح، وهو ما يعني أن الدولة في ما يتعلق بمرتكزات وأسس سياساتها العامة وخاصة في المجال التشريعي؛ ملتزمة في بعض الحالات ومنها حالة مدونة الأسرة؛ التقيد بتعاليم الإسلام ونظمه الرئيسة. وأن مطالبة الدولة باعتماد الدستور؛ يجب ألا تكون تجزيئية؛ وألا تتجاهل مقتضيات دستورية أخرى.

ومن جهة أخرى؛ فإن القيمة الروحية والدينية المرتبطة بالوجدان العام للمواطنين؛ والتكريس الدستوري للإسلام كدين للدولة؛ أو على الأصح دين المغاربة؛ وضرورة مراعاة الشعور الديني العام لجمهور المغاربة؛ كل ذلك يعطي الدولة؛ في إطار سياستها التشريعية ومراعاة الشعور الديني الوطني؛ اعتبار الإسلام وأسسه المكرسة في القرآن؛ وخاصة في موضوع الإرث؛ مصدرا موضوعيا أساسيا رئيسيا؛ وبالتالي فإن المدونة؛ ليس فيها أي خرق أو معارضة للدستور؛ ولا تجاهل أو خرق لقاعدة الملاءمة التشريعية مع المواثيق الدولية.

ومن ناحية أخيرة؛ فإن حالة المغرب في هذا المجال؛ ليست فريدة ولا نشازا. فكل تشريعات الدول العربية والإسلامية تتبني نفس المنظمة ونفس المرجعية؛ أي تأسيس نظام قسمة التركة على النص القرآني؛ وهي كلها مصادقة على الاتفاقيات الدولية بشأن حقوق الإنسان.

المرتكز الثاني: الحق في تفسير جديد للنص القرآني والحديثي

مقابل هذه الحركة المطلبية؛ تعالت وانبرت أصوات أخري مضادة من الفقهاء المغاربة المتخصصين في علوم الفقه الإسلامي؛ يرفضون بصورة مطلقة وقاطعة فكرة الخروج عن النص القرآني لقدسيته وقطعية آياته بالنظر لمضمونها؛ واعتبارا لما ترسخ وتكرس منذ قرون في أدبيات الفقه الإسلامي من تفسيرات وشروح ودراسات متواترة؛ تكرس بصورة قوية المنظومة القرآنية في موضوع الإرث؛ وتؤكد شرعيتها ومشروعيتها؛ بما لا يسمح بالخروج عنها؛ وعدم جواز فتح باب التفسير والتأويل فيها؛ لما في ذلك من خروج عن الإجماع؛ وخلق الفتنة بين المغاربة المتشبثين بدينهم؛ وإحداث الاضطراب في المجتمع.

في ظني؛ أن مناقشة الموضوع مسألة أساسية؛ ولا يمكن حجر التفكير فيها أو بحثها؛ شريطة تفادي التشنج والمواقف القطعية المسبقة والعنف اللفظي من الجهتين.

إن السؤال الذي يفرض نفسه ويحق وضعه؛ هل تفسيرات السابقين بصرف النظر عن قيمتهم العلمية للنص القرآني هي تفسيرات قطعية وملزمة على مر الأزمنة؛ أم أنها مواقف وآراء لبشر في زمن معلوم؛ قابلة للنقد وللمعارضة.

1 إن التفسيرات التي شكلت المنظومة الفقهية ذات الصلة بموضوع الإرث؛ هي عمل فكري إنساني؛ مبني على اجتهاد ورأي في تحديد معني ومدلول النص ومداه. وبالتالي فإنها قابلة لأن تبقي على حالها؛ مع ثبوت الحق اليوم؛ في قراءة وتفسير آخر لنفس النص القرآني دون أن يكون في ذلك أي مساس بالقيمة القدسية للنص المقروء؛ أو خروج عن الملة والدين. فطالما وجد أشخاص منذ قرون قاموا بشرح وتفسير النص وفقا وانطلاقا من مقاربات مرتبطة بعصرهم الذي عاشوا فيه، فإنه من حق أبناء هذا العصر أن يكون لهم رأي وتفسير آخر لنفس النص وفقا لمقاربات مرتبطة بزمنهم ومخالفة لمقاربات السابقين، إن التمسك بنفس المواقف والآراء كما لو كانت هي القرآن نفسه؛ هي ما وصف في كتابات عديدة بتحجر الفقه والاجتهاد؛ وضرورة مراجعته وإعطاء أراء وتفاسير أخري مغايرة؛ لا تلزم إلا القائلين بها؛ ولا تمنع من الأخذ بها. إن الحق في قراءة مغايرة للنص القرآني والحديثي وإعطاء شروح جديدة ومغايرة للسابقة؛ ليس بدعة ولا خروجا عن الدين ولا كفرا ولا دعوة للفتنة؛ كما يقال.

إن حق المحدثين في تقديم شروح جديدة للنص القرآني وللأحاديث؛ يندرج في نفس مستوى الحق الذي أعطاه المفسرون الأوائل لأنفسهم في شرح القرآن وتفسيره؛ وفرضوا ذلك بإكراه معنوي على عالم اليوم. وعلى المعارضين للآراء الجديدة؛ التحلي بروح علمية في قبول الرأي الآخر؛ ومقارنته بالتي هي أحسن؛ بالحجة والعقل وليس بالتكفير والقذف.

إن تقديم تفسير آخر للنص القرآني؛ ليس فيه أي مساس بقدسيته؛ إنه يندرج في إطار عملية تجديد للفقه الإسلامي؛ مشروعة وصحيحة؛ ولا يجوز وصف أصحابها بأي وصف قدحي أو اتهام مهما كانت صفته ومضمونه؛ فالفقهاء السابقون مع كل التقدير والاحترام الواجب لهم أعملوا عقولهم ومداركهم العلمية والفقهية في التفسير؛ وفرضوا ذلك بمنطق ما علي الأجيال الماضية وإلي اليوم؛ وأضفوا أو أضفي غيرهم على كلامهم قدسية تكاد تقترب من قدسية النص القرآني نفسه. وبالتالي فمن حق كل واحد أن يكون له رأي في تفسير النص القرآني وشرحه مع الالتزام بالرزانة والمنطق في ذلك؛ وليس إطلاق الكلام على عواهنه. قد يرد على ذلك بأن التخصص هو الذي يخول إبداء الرأي في مثل هذه الأمور؛ وهو رأي محترم وله قيمته، لكن ما نقرأه ونسمعه هو مجرد ترديد لأفكار وآراء السابقين؛ كما لو أن المتكلمين اليوم هم أصحاب تلك الأقوال؛ ولكن لما كانوا هم أنفسهم يرددون أقوال السابقين ويعتمدونها كما لو كانت نزلت من السماء؛ فإن شرط التخصص يفقد مبرر التمسك به.

2 إن تحديد معني ومدلول الآيات القرآنية المتعلقة بنظام الإرث وتقسيم التركة؛ يمكن أن يخضع لقراءتين. القراءة الأولي فقهية قديمة تعتمد الشرح على المتون. إنها تقرأ الآيات القرآنية المعنية بالإرث قراءة أكدتها الآراء الفقهية المتوالية عبر القرون؛ ومفادها أن تلك الآيات لها معنى واحد وغير قابلة لأي تفسير آخر مغاير وخاصة في ما يتعلق بكيفية القسمة بين الذكور والإناث؛ وبالتالي؛ كما يقول فقهاء اليوم فلا مجال لأي تفسير مخالف؛ ولا إمكانية لأي تعديل لتلك المنظومة.

أما القراءة الثانية الحديثة؛ فتنطلق من النص القرآني نفسه؛ وترى إمكانية إعطاء تفسير آخر؛ لا ينزع القطعية عن النص؛ ولكن عن الدلالة. إن ما يشجع على ذلك؛ ما جاءت به المدونة نفسها من إجازة الوصية لوارث ولو بشروط؛ مع أن هذا الأمر كان لوقت غير بعيد مرفوضا. إن موضوع الإرث ليس موضوعا عقائديا؛ بل هو موضوع دنيوي يتعلق بالمسائل المالية والمعاملات بين الناس. كما أن التنظيم القرآني لنظام الإرث وكيفية تقسيم التركة؛ ليس نظاما إجباريا؛ مبنيا على الأمر؛ بل هو مقرر على صيغة التوجيه والنصيحة؛ فالله عز وجل يوصي الناس عند قسمة التركة بإعطاء الأولوية لأولي القربى واليتامى والمساكين؛ وعندما يحدد طريقة قسمة التركة؛ فإنه يكل تنفيذها للمعنيين بها؛ وليس لأولي الأمر لأن ذلك لا يهمهم وليس من النظام العام. إن آيات الإرث تبدأ بالتأكيد على أولوية الوصية؛ وحق الشخص في ذلك. إن تأسيس النظام القرآني مرتبط في فلسفته بشأن نظام القسمة التفضيلية بفكرة القوامة المرتبطة بواقع الحياة العامة واليومية للمسلمين في ذلك العصر وما بعده مما يشابهه. لقد تغيرت معايير القوامة واختلفت اليوم وتغير مفهومها ونطاقها. فالواقع اليومي الآن يثبت أن كثيرات هن النساء اللائي ينفقن على الأسر ويعلنها ويساهمن بنصيب وافر جدا في تحمل مصاريف الحياة اليومية للأسرة.

3 محاولة التوفيق

إن السياق العام للموضوع؛ يجعلني أرى من الصعب إن لم يكن من المستحيل تصور قبول اللجنة الملكية للمراجعة؛ بتغيير أسس نظام تقسيم التركة؛ كما لا يتصور موافقة الملك بصفته أمير المؤمنين على هذا الأمر؛ إذا حدث.

ولما كان إذن من الصعب توقع تغيير نظام الإرث وطريقة قسمة التركة في اتجاه المساواة؛ فإنه ليس من المستحيل تصور نظام آخر يحفظ للنظام القائم وجوده ومداه؛ وفي الوقت نفسه يستجيب لمطلب التغيير الذي لا يخلو من مصداقية؛ ويضع نظاما جديدا موازيا. تقوم الأطروحة الجديدة على واقع موجود فعليا؛ وتقدم آلية جديدة لتحديد أسس القسمة؛ تنطلق من الطبيعة القانونية للتركة؛ وتحترم المنظومة الأصلية في قسمتها.

يوجد في الوقت الراهن اتجاه لدى عدد من الآباء؛ لمنع أي خلافات بين الأبناء عندما يصبحون ورثة؛ تحقيق المساواة بين الذكور والإناث؛ خلال حياتهم؛ وذلك بتقسيم الأموال / قبل أن تصبح تركة/؛ بينهم بالتساوي عن طريق التمليك بإحدى الصور القانونية المشروعة؛ واحتفاظ الأب لنفسه؛ بما يؤمن له حياة كريمة. وفي الوقت نفسه يقوم بهبة أو صدقة للغير ممن يرى أنهم مستحقون لها؛ وأيضا بالوصية لآخرين. وبالتالي؛ فإن ما سيبقى بعد الوفاة؛ سيقسم وفق التوزيع القائم؛ دون أن يترتب عليه أي خلاف؛ لأن قيمته ومبلغه لن يؤثر كثيرا؛ فضلا عن أن الورثة حصلوا من قبل على قدم المساواة على نصيبهم في مال والدهم قبل أن يصبح تركة ويمكنهم قبول المساواة.

ومن جهة أخرى؛ فإن عددا من الورثة في أسر كثيرة؛ يتوافقون فعلا على القسمة بالمساواة.

يمكن إضفاء المشروعية على الممارسة الواقعية المذكورة؛ والسماح للورثة؛ اعتماد قاعدة المساواة في القسمة. إنه حل قانوني ينطلق من الطبيعة القانونية للتركة؛ ويستند لنص قانوني موجود فعلا؛ يمكن تأكيده في مدونة الأسرة؛ أو في حالة عدم القبول بإدراجه فيها؛ الاكتفاء به؛ وهو ما سيعطي من يريدون القسمة بالتساوي مستندا قانونيا لإرادتهم؛ علما بأن الأمر في البدء والنهاية؛ مسألة شخصية داخلية؛ يحق للورثة حلها بالطريقة التي تناسبهم؛ وليس عليهم في ذلك شيء.

تتركب التركة من أموال منقولة وعقارات وحقوق مالية للهالك تجاه الغير؛ أو من بعضها فقط. التركة مال تنتقل ملكيته من الذمة المالية للهالك إلى الذمة المشتركة إلى الخلف العام على الشياع. الانتقال يتم لاإراديا بفعل واقعة قانونية هي الموت. واعتبارا لخضوع هذا الانتقال للقانون المدني؛ فالمفروض خضوع قسمته وإنهاء حالة الشياع بخصوصه لنظام القسمة المدنية العامة، ومن هنا فإن الشركاء على الشياع في التركة؛ يملكون الحق في قسمتها رضاء بصورة توافقية أو قضاء بحكم؛ إما وفق المنظومة الدينية أو وفق المنظومة المدنية أي قسمة المتروك بين المالكين الجدد للمال؛ بالاتفاق بالتساوي بينهم. إن التأسيس القانوني لهذه الطريقة موجود فعلا في ظهير الالتزامات والعقود. فالمادة 1103 تنص على أنه “يجوز تصالح الورثة على حقوقهم في التركة؛ بعد أن تثبت لهم فعلا؛ في مقابل مبلغ أقل مما يستحقونه شرعا وفقا لما يقضي به هذا القانون؛ بشرط أن يكونوا على بينة من مقدار حقوقهم فيها”. إن هذا الحل هو المناسب في حالة التوافق والتراضي؛ وهو أيضا حل يحق لهم مطالبة المحكمة بتطبيقه في حالة اللجوء للقضاء لإجراء القسمة؛ فينص الحكم الصادر بإنهاء حالة الشياع على قسمة التركة بالتساوي بناء علي طلب أصحاب المصلحة؛ وليس كما تنص عليه الأحكام الصادرة في هذه المنازعات بالقسمة وفق الفريضة الشرعية.

إن معنى ذلك؛ أنه يمكن للورثة عدم تطبيق نظام قسمة التركة كما هو مقرر في المدونة؛ وأن يقسموها بالمساواة بينهم؛ مع استبعاد التعصيب الذي سيأتي الكلام عنه. غير أنه نظرا لكون مدونة الأسرة هي المطبقة في هذا الصدد؛ فيكون من المناسب النص فيها علي حق الورثة في اقتسام التركة بإحدى الطريقتين؛ أي التكريس التشريعي لوجود طريقتين لقسمة التركة؛ يكون الخيار للورثة بينهما. وليس في ذلك أي خروج عن الملة. لقد كانت تونس بصدد تقنين هذا الحل بعد ثورة 2011؛ فقد اقترح الرئيس القايد السبسي ذلك وتم تقديم مشروع قانون للبرلمان؛ لكن وفاته وإجراء انتخابات جديدة للبرلمان وسيطرة حزب النهضة على الأغلبية فيه؛ أدى إلى وأد المشروع الذي توقفت مناقشته في اللجنة المختصة ولم ير النور بعد ذلك.

ثانيا: إلغاء نظام التعصيب

هناك شبه إجماع على وجوب إلغاء نظام التعصيب؛ لعدم شرعيته وعدم وجود نص قرآني أو حديث صحيح يبرره؛ فضلا عما فيه من مضار إنسانية واجتماعية؛ وحرمان البنت أو البنات الفرادي من حقهم كاملا في التركة؛ عندما لا يوجد أخ ذكر معهن؛ ودخول أقرباء معهم؛ لا يجمعهن بهم في معظم الحالات إن لم يكن فيها كلها؛ سوى الاسم العائلي.

ثالثا: الوصية

عرفت المادة 277 الوصية بأنها “عقد يوجب حقا في ثلث مال عاقده يلزم بعد موته”، والحال أن الوصية ليست عقدا؛ بل هي تصرف قانوني بإرادة منفردة موقوف نفاذه لما بعد الموت. لذلك وجب تصحيح هذا التعريف؛ وكذلك الأمر في المادتين 278 و297. وبخصوص إنشاء الوصية أو انعقادها؛ فقد نصت المادة 284 على أنها ” تنعقد بإيجاب من جانب واحد”؛ والحال أن الإيجاب هو تعبير عن إرادة شخص في إبرام عقد موجه للغير محددا أو للجمهور؛ يقتضي القبول أو الرفض وفق ما جاء في المادة 19 وما بعدها من ظ ا ع. بينما الوصية تنشأ بتعبير أحادي من الموصي حددت المادتان 295 و296، شروط صحتها، ولا تحتاج لوجودها قبول الموصي له. وأن ما ورد في المادة 289 عن حقه برد الوصية أي عدم قبولها؛ هو عمل يتم بعد الوفاة وليس قبلها؛ لأن الوصية لا تعرف إلا بعد الموت، وهو الذي يمكن أن ينطبق عليه القبول.

الخاطرة الخامسة: ملاحظات مسطرية

تتضمن المدونة قواعد موضوعية وأخرى مسطرية تنظم بعض الحالات التي يتم فيها اللجوء إلى القضاء. غير أن هذه المواد يعتريها بعض العوار من الناحية المسطرية. وبيان ذلك كالتالي:

مع مراعاة مطلب إلغاء زواج القاصر واحتمال الاحتفاظ به؛ فإنه يتعين إدخال تعديل على المادة 20 وخاصة الفقرة الأخيرة منها. إن تحصين مقرر الإذن ضد الطعن أمر غير عادل. إن الطبيعة الاستثنائية لهذا النظام تقتضي مراقبة قضائية لمقرر القاضي بالإذن بالزواج؛ والذي قد لا يوفق القاضي فيه؛ فمن جهة فإن مسطرة الإذن بتزويج القاصر وخاصة الفتاة فيها إنكار ومحو لوجودها القانوني والإنساني وتحوليها إلى سلعة يشتريها في الغالب ذو مال ويبيعها أب لا ذمة له. إن نص المادة 20 لا يتحدث عن سؤال الفتاة ومعرفة رأيها ورفض الزواج سواء من حيث مبدئه أو من حيث الزوج نفسه؛ الذي يكون في الغالب أكبر سنا من الفتاة. أو ليس من حق الفتاة القاصر أن يكون لها رأي في حياتها المستقبلية. أو ليس في قرار الإذن بتزويج القاصرة مساس بالنظام العام الاجتماعي نفسه؛ وأن منع الطعن ضده فيه؛ مساس بحق القاصر في الحماية القضائية الموضوعية؛ ومحو لدور النيابة العامة المخول لها بالمادة 3 من المدونة. لماذا لم تنص المادة 20 على وجوب اطلاع النيابة العامة على الطلب باعتبارها طرفا أصليا؛ حتى تبدي رأيها. ومن ثمة يكون لها الحق في الطعن ضد مقرر الإذن إذا رأت أنه غير سليم.

جاء في المادة 44؛ أن “للمحكمة بعد المناقشة أن تأذن بالتعدد بمقرر غير قابل لأي طعن”. إن تحصين مقرر الإذن ومنع الطعن ضده؛ فيه مساس بحق الزوجة التي قد تكون نازعت في موجبات التعدد ولكن المحكمة كان لها رأي آخر؛ قد يكون تعليله ناقصا أو فاسدا؛ مما سيؤدي إلى إلزام الزوجة الأولى بوضعية قانونية واجتماعية لا تقبلها؛ وقد تكون لها عواقب وخيمة من قبيل إهمال الزوج لها وعدم الإنفاق عليها وعلى أولادها إن وجدوا؛ رغم نص المقرر على شروط لفائدة الزوجة وأولادها. ومن ثمة فإن منعها من الطعن فيه مساس بحقها في المنازعة في الحكم. ومن جهة أخرى؛ لم تنص المادة على حالة رفض طلب الإذن؛ ولا على ضرورة تعليله؛ فقد تسيء المحكمة تعليل مقرر الرفض؛ مما يعطي الزوج الحق في الطعن. لذا يكون من المناسب تعديل المادة في هذا الاتجاه.

ومن جهة أخرى؛ تبدو هذه المادة مسطريا مخالفة للفقرة الأخيرة من المادة 44 أو العكس. ففي 44؛ لا نجد أثرا لموقف الزوجة وطلبها أو عدم طلبها التطليق؛ بينما في الفقرة الأخيرة من 45 نجد موقفا غريبا وغير منظم مسطريا بما فيه الكفاية. إن تمسك الزوج بطلب الإذن بالتعدد لا يختلف عن حالة المادة 44؛ التي يمكن فيها للمحكمة الإذن به؛ دون إشارة إلى عدم الموافقة وعدم طلب التطليق. إن صورة الفقرة الأخيرة من 45 تفرض على الزوجة الأولى مسطرة التطليق للشقاق في الوقت الذي لم تربط فيه م 44 الإذن بذلك؛ وفي الوقت نفسه تحرمها من حق الطعن ضد مقرر الإذن بالتعدد.

تنظم المادة 52 حالة إخلال أحد الزوجين بالواجبات المحددة في م 51؛ حيث يمكن للطرف الآخر المطالبة بتنفيذ الالتزامات أو اللجوء لمسطرة التطليق للشقاق. من جهة لم تحدد المادة الإجراء المسطري الواجب اتخاذه لإثبات الخرق وعدم القيام بالواجب؛ ومن جهة أخرى تفتح الطريق مباشرة نحو مسطرة الشقاق؛ الذي قد لا يكون هو الحل الأصلح؛ مما يكون معه من المناسب اللجوء أولا لمسطرة توفيقية ولتكن الوساطة مثلا؛ إذ قد يكون الخلاف بسيطا؛ فيكبر فقط معاندة وكبرا. ولذاك يمكن إطفاء الغضب وإزالة سبب الخلاف قبل اللجوء لمسطرة الشقاق التي تعمق الخلاف. وأرى أن ينجز الوسيط العائلي أو الأسري؛ محضرا بتحديد أسباب الخلاف ومحاولة التوفيق وبيان مدى استجابة الطرفين للوساطة كمبدأ ثم لفشلها؛ ويسلم هذا المحضر للطرفين؛ وللمتضرر اللجوء لمسطرة الشقاق مدليا بمحضر الفشل؛ مما يسهل الأمر على المحكمة؛ ويعفيها من محاولة الصلح التي تفشل دائما.

من حسنات المدونة إحداثها لآلية جديدة لانتهاء العلاقة الزوجية؛ هي الطلاق الودي أو الاتفاقي المنصوص عليه في المادة 114. الطلاق الاتفاقي نظام ينسجم ويتوافق مع الطبيعة التعاقدية للزواج الذي هو ثمرة توافق؛ وبالتالي فإن طرفيه يملكان الحق في وضع حد لوجوده متي تبين لهما صعوبة أو استحالة مواصلته. ما يمكن أن يقف أو عقبة في تحقيق هذا الاتفاق هو وجود أطفال قصر؛ في سن التمدرس والحاجة للرعاية المشتركة؛ لأن الطلاق الاتفاقي من شأنه ترك الباب مفتوحا أمام علاقة إنسانية بين الطرفين. للتخفيف عن المحكمة في مثل هذه الحالة؛ يحسن إدخال تعديل إجرائي على المسطرة؛ بالنص على إلزام الطرفين بتوقيع محضر الاتفاق والمصادقة على التوقيعات؛ وأن يتضمن التزاماتهما المشتركة بالنسبة للأطفال بعد الفراق؛ ومن ذلك مثلا إنشاء حساب بنكي مشترك للأطفال يضع فيه الطرفان قدرا كافيا من المال لمواجهة التكاليف القادمة؛ ويستمران في تمويله؛ تقوم الحاضن على تسييره؛ مع إعطاء الطرفين موافقتهما الكتابية لاقتطاع مبلغ معين يتفقان عليه من الأجرة مثلا إذا كانا معا موظفين أو مأجورين، وفي حالة عدم وجود أطفال النص في الاتفاق على تسوية الأمور المالية بينهما وأيضا التنازل المتبادل بينهما لضمان المصادقة السريعة من المحكمة.

أغفلت المادة 153؛ كما قلنا سابقا تحديد مسطرة اللعان؛ مما يتعين معه ملء هذا الفراغ.

تعرضت المادتان 165 و166 لحالة عدم وجود حاضن ممن حددتهم المادة 171؛ غير أن المادتين اختلفا في تحديد الجهة القضائية المختصة لتعيين الحاضن؛ كما لم تسويا بينهما بخصوص من يرفع الأمر؛ والجهة الاحتياطية التي يمكن إسناد الحضانة لها. ففي ما يتعلق بالجهة المختصة؛ نصت المادة 165 على المحكمة؛ بينما في المادة 166 أسندت الاختصاص للقاضي؛ دون بيان صفته؛ وإن كان يفهم أنه قاضي شؤون القاصرين؛ وهو تمييز له آثار مسطرية وقضائية مختلفة؛ مما كان ينبغي معه توحيد جهة الاختصاص. وأيضا استبعدت م 166 القاصر وهو من يعنيه الأمر بالدرجة الأولى؛ خلافا لما جاء في م 165 التي راعت وجوده وصفته ومصلحته. وأخيرا فقد أبعدت الفقرة الأخيرة من م 166 النيابة العامة كطرف لها الصفة لرفع الإشكال القائم حول تعيين الحاضن؛ مثلما فعلت في م 165.

المصدر: هسبريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *