اخبار المغرب

أقصبي يحذر من تقويض الأمن الغذائي للمغاربة بـ”إغفال الحاجيات الداخلية”

دراسة جديدة صادرة عن “شبكة سيادة” تضم آراء الاقتصادي المغربي نجيب أقصبي حول “السيادة الغذائية” بالبلاد، وتنبه إلى أن “إغفال الحاجيات الداخلية” قد قوّض “الأمن الغذائي للمغاربة، الذين فُرض عليهم أيضا التخلي عن نموذجهم الاستهلاكي القديم، مثل الشعير وزيت الزيتون، وتعويضه بمواد غذائية مدعومة عبر صندوق المقاصة، مثل القمح الطري والزيوت النباتية”؛ وهو ما أدى إلى “انفصال بين النموذج الاستهلاكي والنموذج الإنتاجي”.

وحول تاريخ ارتباط السياسة الفلاحية بالمديونية ذكر أقصبي أنه منذ دخلت المؤسسات الماليةُ الدولةَ في ستينيات القرن الماضي و”البنك وصندوق النقد الدوليين يوجهان السياسة الاقتصادية بالمغرب، وضمنها السياسة الفلاحية”، وهكذا فُرض على البلاد “اختيار فلاحي قائم على تجهيز البنية التحتية الموجَّهة لسقي الفلاحة الكبيرة، ولتمويل تلك البنية التحتية أتاحت إمكانية الولوج إلى السوق الدولي للاقتراض؛ ولكن لضمان تسديدها بالعملة الصعبة على المغرب أن يوجه فلاحته للتصدير”، مردفا: “هكذا وُّجِّهت السياسة الفلاحية لتلبية حاجيات السوق الدولي وليس الحاجيات الداخلية، وفي الوقت نفسه لخدمة أداء الدين الخارجي”.

وينبه أقصبي إلى الاستمرارية بين السياسة الفلاحية التي أُرسِيت في ستينيات القرن العشرين وبين المخططات الحالية، أي المغرب الأخضر والجيل الأخضر؛ فـ”مخطط المغرب الأخضر حافظ على هدف “الإنتاجية/ الإنتاجوية” و”الإنتاج الموجه للتصدير”، ما فاقم تقويض الأمن الغذائي، وفي الوقت نفسه استنزاف موارد الطبيعة، وعلى رأسها الثروات المائية”، وقدّم مثال “السقي بالتنقيط” المدعوم من المالية العمومية، “الذي أدى بدوره إلى استنزاف شديد للثروة المائية، ويجري تغطية (كارثته) بأرقام الإنتاج المرتفعة، التي يستفيد منها كبار المصدِّرين”.

وينفي الاقتصادي ذاته الصحة عن “ادعاءات المؤسسات المالية الدولية ومعها الدولة حول استفادة البلد من عائدات خيار فلاحي قائم على التصدير”؛ لأن “السوق الأوروبي مثلا يقيم جدرانا لحماية مُنتِجيه من منافسة البضائع القادمة من الجنوب (وضمنه المغرب)، كما يجعل المعايير التي يفرضها الأوروبيون أفضل المنتجات وأكثرها قيمة غذائية توجَّه إلى أوروبا، في حين يتبقى الغذاء ذو الجودة الأدنى للسوق الداخلي، وهو ما يقوض أحد ركائز الأمن الغذائي: الغذاء الصحي والمغذي”.

وبالتالي “عمقت هذه السياسة الفلاحية تبعية المغرب الغذائية تجاه السوق الدولي؛ فالمواد الخمس الرئيسة في استهلاك المغاربة، أي الحبوب والسكر والزيوت واللحوم والحليب، تعرف نسبا متدنية من تحقيق الاكتفاء الذاتي، بعد أن استطاعت ذلك في السنوات الأولى من “الاستقلال””، وفق المتحدث ذاته، مضيفا أن حصيلة السياسات الفلاحية تظلّ “تبعية قوية بالنسبة لمواد حيوية وإستراتيجية كالقمح والذرة والسكر والزيوت واللحوم. ووضعية اليوم بالنسبة لهذه المواد هي أصعب وضعية في ما يخص الأمن الغذائي مما كانت عليه”، بعدما تولّدت عن الفلاحة التجارية مفارقة: “المغاربة يستوردون ما يستهلكونه، وينتجون ما لا يستهلكونه”.

أما “الوجه الآخر لهذه التبعية”، بالنسبة لأقصبي، فهو “ضعف صادرات المغرب في السوق الدولي”؛ لأن “ما يستورده المغرب هو مواد أساسية إستراتيجية حساسة ليس فقط بالنسبة للبلد، بل كذلك على الصعيد الدولي؛ أما ما يصدره، مع الأسف، عبارة عن خضراوات وفواكه، وهي مواد لا تملك القيمة الإستراتيجية نفسها لما يستورده. وينتج عن هذا ميزان قوى ليس في صالح المغرب: استيراد مواد ذات قيمة إستراتيجية على الصعيد الدولي وتصدير مواد لديها أهمية ولكن ثانوية”.

هذا ما أضعف القدرة التفاوضية للمغرب في مواجهة المصدِّرين الأوروبيين وغيرهم، مثل الولايات المتحدة وتركيا، وأسهمت فيه اتفاقيات التبادل الحر، التي وقّعت الدولة ما يقارب الستين منها، و”أهمها الموقعة مع الاتحاد الأوروبي سنة 1996، والموقعة مع الولايات المتحدة سنة 2004″، وفق المصدر ذاته.

ويقرأ أقصبي هذه الاتفاقيات بوصفها “ذات هاجس سياسي بالدرجة الأولى”، خاصة الاتفاق الموقع مع الولايات المتحدة الأمريكية؛ لأنه “لم يكن هناك أي مكسب اقتصادي للمغرب من هذا الاتفاق، الذي كانت الولايات المتحدة في حاجة ماسة إليه، لإبرازها كحامل للازدهار الاقتصادي والتبادل التجاري لمنطقة كانت ساحة لعربدتها العسكرية”.

ويشدد الاقتصادي ذاته على أن المغرب كان يسجل عجزا تجاريا مع الدول التي وقع معها اتفاقيات التبادل الحر، لكنه استمر في “لعبة خاسرة بالنسبة للبلد”؛ فـ”اتفاقيات التبادل الحر مبنية على منطق يدمر الأمن الغذائي ويقوض سيادة البلد على إنتاج غذائه؛ ففتح السوق أمام بلدان أقوى اقتصاديا يعني غزو سلعها الغذائية وتدمير الإنتاج المحلي الذي يشكل أساس الأمن الغذائي، وفي الوقت نفسه فإن ارتفاع قيمة منتجات الدول الأخرى يجعل صادرات المغرب في موقف ضعف في السوق الدولي”.

ومن بين ما قاد إليه هذا المنطق “تفضيل الاستيراد على التصدير لدى الكثير من رجال الأعمال المغاربة”؛ فـ”في المغرب 5000 مُصدِّر وضمنهم 500 مصدِّر دائم فقط، في حين هنالك أكثر من 25 ألف مستورِد”، ما يعني أن “المستثمرين المغاربة انتهزوا التبادل الحر لمراكمة الأرباح عبر الاستيراد وليس عبر التصدير”، حسب أقصبي.

وتطرق المنشور إلى تأثير الاختيارات الفلاحية للمغرب على البيئة وموارد الطبيعة. ووضح أقصبي “الارتباط الوثيق بين السياسة الفلاحية والسياسة المائية”؛ فقد “اعتمد مخطط المغرب الأخضر على حفز الفلاحة الكبيرة ودعم تلك الموجَّهة للتصدير؛ وهذه الأخيرة متخصصة في منتجات مستهلكة بشدة للماء (فضلا عن إنهاك التربة)؛ وكان المبرر دائما هو: إنها منتجات ذات قيمة مضافة عالية وستجلب العملة الصعبة”.

هكذا، “بعد سياسة السدود الكبرى، اعتمد مخطط المغرب الأخضر تقنية السقي بالتنقيط، ولأنها مدعومة (أحيانا بنسب 100 في المائة)، فإن الفلاح/ المستثمِر يفضل إنتاج المواد الموجَّهة للتصدير؛ فأدت تلك التقنية إلى عكس المأمول منها: المزيد من استنزاف الفرشة المائية”. وبالتالي فإن نتيجة هذه الاختيارات، وفق قراءة نجيب أقصبي، كانت “تقويض الأمن الغذائي للمغاربة وتعميق تبعيته لسوق الغذاء العالمي، وتهديد سيادته على إنتاج الغذاء”، وهو المشكل الذي “انفجر مع جائحة (كوفيد 19) بداية سنة 2020، حيث أصاب الإغلاق الاقتصادي نظام الغذاء العالمي في الصميم، وتوارى خطاب تحقيق الأمن الغذائي عبر السوق الدولي، ليحل محله الإنتاج المحلي وتحقيق الأمن الغذائي بناء على الإنتاج الداخلي”.

هذا المشكل أدى إلى “تكيف رسمي مع هذا الواقع الجديد، لكن على مستوى الخطاب، إذ تسلل مفهوم السيادة الغذائية إلى وثائق الدولة”، وعلى رأسها “التقرير العام للجنة النموذج التنموي الجديد”. لكن يقول أقصبي: “الخطاب يمجد «السيادة» ولكن بدون أن يتبع هذا الكلام أي توجه جديد ولا أي إجراءات عملية تعطيه مضمونا فعليا وعمليا، وتعبر عن إرادة حقيقية في التغيير؛ لأن هذا طبعا يقتضي تغيير الاختيارات الكبرى للسياسة الفلاحية لتنسجم مع متطلبات “السيادة الغذائية”. لكن لا شيء من هذا حدث! الاختيارات الأساسية للسياسة الفلاحية هي نفسها القائمة منذ عقود”.

المصدر: هسبريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *