في ذكر مآثر محمد الأمين حمد النيل الطاهر ود الإزيرق
تاج السر الملك
خرجت عصر ذلك اليوم، مثقلاً بالأسى، أعبر أبهاء مستشفى (نوفا الكساندريا) ، الابهاء المستقيمة، النظيفة اللامعة، وقطع رخامها التي تنعكس عنها الأضواء، فكأنما قد رصت للتو، رصا، تمتد من أمامي ومن خلفي، وكأنها صراط دهري.
خرجت إلي الطريق العام، وعيناي غارقتان في الدمع، خلفت ورائي في غرفة بالطابق الثاني، هادئة، يجللها السلام والسكون ، وتحف بها الملائك، الأستاذ، وقد أضنى النضال بدنه، مستلقٍ، يرفل في أبهى حلل الطمأنينة، وعلى وجهه ابتسامة باتجاه السماء، وموظف الإستقبال، المنحدر من القرن الأفريقي، تتسع عيناه من الدهشة، يسائلني:محمد الأمين .. الفنان، يا إلهي سازوره بعد انتهاء نوبتي..
قلت أحدث نفسي..وهل يعلم الأطباء، ذوي المعاطف، والقسمات العاطفة، وجيش الممرضات الحسناوات، أن هذا المريض، ذو الملامح الوادعة، الساكن بين أياديهم الخبيرة، المدربة على أحابيل دمل الجراح، وكبح الآلام، إنما هو، فلذة كبد أمة كاملة ؟
هل يعلمون أن هذا الساكن إلي مباضعهم،هو سيناترا بلادنا، وراي تشارلس وجيمي هندريكس وديلان مجتمعين؟
عبد الوهاب وبليغ والطويل، وعبادي الجوهر، محمد عبده، فريد وبلان، ووديع الصافي، وعجرم، وشارل ازنافور وديميس روسوس، وتلاهون، ومارلي… فريد عصره، ونسيج وحده، العلم في تاريخ موسيقى الوطن الواحد، السودان! ليتهم..
ولكن هيهات، فذا الامر، بركة، ورشفة من الكأس المقدسة، لمن جاوز عبير الأضرحة المشاوير إليه، والمدى ما بينهم منطرح.
وبلا أجنحة!
ولكنهم كانوا ، رفقاء به، كما ينبغي للعرفاء، والنطاسيين، يهزون رؤوسهم من عجب حين يعلمون، وحين يشع جبينه، بذلك الألق الذهبي، الذي لا تراه العين، فتدركه البصيرة، هالة فوق رؤوس المبدعين.
ثم الشارع يحتضنني، ويأخذ بيدي من يأس، فوق أرصفة المشاة، المنمقة، المهندسة، وسائق الاوبر، علي الجانب المقابل، يحادث عبر الهاتف محبوبته، ظننت ذلك، فأحسنت به الظن، فيبتسم، وكأني به، هامساً.. من يوم ما شفتك… وكأني بالكون كله يغني، قلبي للدنيا ابتسم.
وكأني بالفنان في استغراقه الوجودي، يسترق السمع، إلى موسيقى السماء
وأنه يود لو أن الناس استمعوا لآخر ألحانه
ولكن جبروت الحرب، حال بينه وبيننا، فارتد إليه فؤاده
كسيراً أسيفا.
واحتبس صوته، الذي كان يهدر كالعاصفة
مبشراً بالثورة التي انطلقت، ويوصي باليقظة والحذر والإستعداد، ويرحب بشهر عشرة، حبابو عشرة، ويغرد من داخل السجن، بشعر محجوب شريف
عصافيراً مجرحة بسكاكينك… مساجينك!
وأوقف حركة المجرة بلحن الملحمة، فصنع مجداً لإنسان السودان، ذلك صارم القسمات، حي الشعور.
هل يعلمون كم نحن نحبه، وكم سنذكره!
سنذكره
كلما برق بارق في سماء الجزيرة، وكلما احتدم أفقها، وخوخت الشم، وارعدت فضاءاتها، وهطلت مدرارا!
سنذكره كلما اشتعلت الشوارع بالغضب، كالمرجل اليغلي, وأشرق نبلها.
كلما أطل في فجرنا ظالم، وكلما سقط طاغية, وتداعى، من منسأة مهترئة نخرة.
سنعاين الشارع ونراه في عيون المغلوبين
قادماً، من بوابة سنار ، يحمل مصلاة من جلد الجاموس، والإبريق الجمجمة ومسبحة من أسنان الموتى.
سنجده، في رسم البردي، ونحوت الاهرامات وسيرة ابادماك
في الغابة والصحراء وسهل السافنا و شمس المدار، والنرفانا.
سيؤمنا يوم الشدة حين يتجلى البأس
سيخلده الخماسي، والسباعي، والمردوم، والحومبي، والدليب، والمارشات العسكرية.
سيصدح لحنه، في الأورغن وتراتيل الكمانات، ومقدمة زاد الشجون الأثيرية، والتي لا تنتجها إلا روح عبقرية.
ستستشف روحه، وترق، في مدائح العركيين، التي تسامر القلوب، والقباب ، في عزلة الفراغ العريض.
سيولد منا وفينا حتى الأزل
باهراً في اخضرار العَسِين، وشموس الأصائل وسحر البكور
سيذكره أهل التـُّـقـَّـابـة والمسيد
وأهل الكلم والقصيد
سيظل في وجداننا
موسيقار الأجيال، ومفجر النضال، الفريد في
سمو وجدانه، المتوشح
بهموم شعبه، خصيب الإلهام، عميق الشجو،
مبلغ ومنتهى فنون أهل السودان والإنسانية جمعاء
فخرنا بين العالمين
محمد الأمين حمد النيل الطاهر الإزيرق
(هانحن نحييك بتحية مدني، حسناء الجزيرة وغادتها نحييك ، مدنى الـسُّـنـِّى الراقـدة على شاطىء النيل الأزرق مستحمة من مائه ، مستجمة على رماله ، مستدفـئة بحبابه، مستـكـنة فى رحابه، متوسـدة تربه وترابه، حرفه وجرفه، منها،هى الجزيرة، مبتدأك وخبرك ومنتهاك).
فلترقد في سلامك الأبدي
وليسبغ عليك الله رحمة تخصك من فضله
وإنا لفراقك لمحزونون.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وبعد
فلولا أن الكلام يعاد، لنفد.
المصدر: صحيفة التغيير