الروح الوطنية : يا لشقاء المصطلح
الروح الوطنية : يا لشقاء المصطلح
خالد فضل
غالبا ما تنتهي مناقشة بين أيّ سودانيين حول موضوع يخص شؤون حياتهم إلى مقولة باتت ثابتة وهي (غياب الروح الوطنية) ، يحدث ذلك عندما يكون المزارعون عائدون من حواشاتهم في مشروع الجزيرة ؛ وهم على ظهور الحمير أو خشب الكارو أو راجلين ، يتبادلون الحديث عن مشروعهم اليتيم في مأدبة اللئيم ، يقارنون بين ما كان وما أضحى حاضرهم ويا لقتامة المستقبل ! ثم يختمون الحديث (بالفاتحة) وهي قولهم : حدث ما حدث بسبب غياب الروح الوطنية . المعلمون في صفوف المدارس , الأطباء في المشافي ، المهندسون في ماكيناتهم ، العمال في ورشهم ، حتى التجار في أسواقهم …إلخ ، هناك شبه إجماع على غياب الروح الوطنية ، الجميع يتهم الجميع ، والكل يلقي ظاهرة غياب الروح الوطنية على الآخرين ، بالطبع نادرا ما يعترف المتحدث بأنّه هو نفسه يفتقر إلى الروح الوطنية ، هناك دوما نظرية (أفرز روحك ثم ألق الحجارة على الجميع) بهذه النظرية العرجاء لا أحد يسلم لأنّ حجرا آخرا من زاوية مضادة لابد سيصيبك فما العمل وما المخرج .
في مطلع السبعينات من القرن الماضي ، طرقت أذناي وأنا بن ست سنوات تقريبا عبارات على شاكلة الخونة وأعداء الوطن وعديمي الروح الوطنية ،كان المذياع يردد تلك العبارات في ذم انقلابييّ حركة 19يوليو بقيادة هاشم العطا ، يومذاك بدأت أعرف أنّ هناك وطنيين وغير وطنيين ،أمّا الوطنيون فهم أنصار مايو وأتباع جعفر المنصور ، يقول بذلك المذياع ويردده عامة الناس في الأزقة والدكاكين ، وأنا طفل يسمع هذا وذاك لقد تربى جيلنا منذ سنواته الباكرة في الدنيا على هذا التصنيف السخيف للسودانيين ، الموالي منهم للحكم العسكري الديكتاتوري هو الوطني الذي يتقطّر وطنية ويهيم في حب البلد متيما ، أما من يقول لا فهو تبع العبد سباركوستا معبود الرياح !! هو الشيطان ذاتو ، وكبرنا بهذا الوعي المنقوص ، نتابع في أخبار الإنقلابات العسكرية ضد النميري ؛ فإذا روادها عنصريون عندما يكون الإشتباه في عناصر من أبناء جبال النوبة أو دارفور أو الجنوب القديم ، وإذ هم خونة مارقون وعملاء خاسئون عندما يكونون من أبناء غير تلك المناطق !! ولا عجب ، فقد كنا شبابا في حدود 1985م عندما هبّ ذات ثوار مايو ضد حادي الركب جعفر المنصور وأقتلعوه اقتلاعا ، ثمّ طفقوا يؤلفون المطولات الكواسح في ذمّ الرجل ومايوه واتحاد اشتراكه المأفون ، وبالخيانة وعدم الوطنية دُمغ القوم . وبالوطنية وُصف الثوّار ، وفي فترة الديمقراطية القصيرة 86_1989م برع إعلام الجبهة القومية الإسلامية أي براعة في وصم كل معارضي الجبهة بعدم الوطنية والولاء للخارج ومعاقرة السفارات ، فيما أختص الله عباده الجبهويين فقط بالوطنية المحضة فتأمل !!
وفي كل الأحوال لم يك هناك معيار موضوعي للوطنية من عدمها ، فالذي يبايع البشير رئيسا مدى الحياة مثلا هو في قمة الوطنية ومن يقول لا للبشير وتسقط بس والغ في الخيانة الوطنية ، ومن يقول لا لحرب البراء/ حميدتي متهوم باللاوطنية ومن يزأر محرضا على الحرب هو من يتلألأ جبينه وطنية !!!! ومن يخالف التوم هجو الرأي أو أردول فهو مرزول ، ومن كان يؤيد قوى إعلان الحرية والتغيير فهو عميل عديل ، وعبدالله حمدوك دخيل، الوطني الأصيل فقط من يحمل صفة استراتيجي خبير . إنّه المعيار المختل والميزان المطفف والكيل السوء ،فالوطنية في تقديري هي شعور إنساني ذاتي ، هي ممارسة صغيرة قد لا يشعر بأثرها المرء مثل رمي الأوساخ في الطريق العام أو حملها لبرميل القمامة الممارسة الأولى تمثل اللاوطنية والثاني فيه من صفاتها ولو النذر اليسير ، الموظف المرتشي، المحسوبية والمحاباة تقع في خانة اللاوطنية بينما النزاهة والإستقامة والصرامة تجاه طلبات المحسوبية والذم والزعل والإتهام بـ ( عديم الفايدة) تدخل في حساب الوطنية، إن لم يك الوطن هو البيت الكبير لكل مواطن فيه فهو لا ينتمي له ، ولهذا فإنّ الوطنية ونمو الروح الوطنية والشعور الوطني مقرون بنظام الحكم في البلد ، الأنظمة الشمولية والديكتاتورية العسكرية منفرة من الوطن لأنها أنظمة خاصة وليس للجميع ، هولاء الخاصة تنطيما سياسيا أو فصيلا عسكريا أو جماعة جهوية ، الديمقراطية تعني أن الجميع هنا متساوون حقا وواجبا فهي رافعة للشعور بالإنتماء الوطني ، فلا تقل لي إنّ الحرب الدائرة الآن هي حرب الوطنيين ضد غيرهم بل هي حرب اللاوطنيين فيما بينهم ، الحرب عدو الوطن وعدو الوطن لا يمكن أن يكون وطنيا وإن كان اسم حزبه يحمل لفظة الوطني .
المصدر: صحيفة التغيير